الأحد , مايو 5 2024
ardeenfr
أخبار عاجلة
الرئيسية / قصص وآراء / قصة قصيرة بقلم / مزمل عباس

قصة قصيرة بقلم / مزمل عباس

قصة قصيرة بقلم / مزمل عباس

The Leap
الطفرة 
(1)
أنا ما زول عاصمة! هكذا بدأ الوسيلة رده على أحد أصدقائه عندما سأله متى سيتجه نحو أكبر مدن البلاد لمتابعة دراسته الجامعية بعد أن نال شهادة الثانوية ثم أمضى عامان يعمل في المزرعة التي يرعاها والده والتي فقدت الأسرة جزء كبير منها بعد أن أصر اعمامه المقيمين مع أبنائهم في العاصمة على بيع أنصبتهم فيها لأحد أثريا المنطقة.


لم يأت قرار الوسيلة بمواصلة دراسته إلا بعد أن تقلص حجم المزرعة لما دون الثلث بعد توزيع التركة، وباتت بالتالي غير مجدية كمصدر دخل ثابت ووحيد للأسرة. المزرعة تتميز بموقع ساحر، فهي قريبة من النهر وعالية الخصوبة، ومن حسن الحظ أن أعمام الوسيلة الثلاثة، إضافة إلى عمته الوحيدة، تكرموا على والده بالإذعان لطلبه الأخير لهم بأن يكون نصيبه في الجزء الذي تقع فيه المترة*. ولم يكن ذلك بالطلب الصعب عليهم، فهم في النهاية قد هجروا القرية والزراعة إلى غير رجعة واستقروا في العاصمة مع زوجاتهم وأبنائهم. كما أن الثري الذي اشترى أنصبتهم لم يأبه كثيراً لموقع مزرعة والد الوسيلة ولعله كان يفكر أنها سوف تؤول إليه عاجلاً أم آجلاً.
استطرد الوسيلة مبرراً عدم رغبته في الذهاب للعاصمة قائلاً: “أنا العاصمة دي ما بدورا بي الله واحد”. وأضاف بلكنة أهل المنطقة: “أنا قررُ (أي قررت) أمشي أوروبا محل الخواجات. على الأقل أبقى لاعب كورة معترف (محترف) ولو ما حصُل (حصلت على) طريقة، عومي دا براه يأكلني عيش”.
ما لم نذكره أن الوسيلة، والذي شارف على الخامسة والعشرين من عمره، كان من أمهر أبناء قريته في السباحة، نتيجة لبنيته القوية، وربما للممارسة الطويلة، فقد اتخذ منذ نعومة أظافره النهر المطل على مزرعتهم كصديق مقرب، يشق مياهه باتجاه الجزيرة الصغيرة على الضفة الأخرى تاركاً رفاقه خلفه بعدة أمتار وناظراً للخلف من وقت لآخر ليطمئن أن لا أحد منهم يواجه أي متاعب تستدعى تدخله، وأحياناً يرقد على سطح ماء النهر في توازن جسدي مبهر، متأملاً السماء ومفكراً في سبيل للخروج من حياته الروتينية المملة ما بين المزرعة والبيت.
والد الوسيلة بدأت تظهر عليه علامات الكهولة من بطء في الحركة وانحناء في الظهر وضعف في النظر أقرب إلى العمى التام. أما والدته، فقد تكالبت عليها مشقات الحياة وامراض العصر، لا يؤانس وحدتها ولا يخفف آلامها إلا حركة أحفادها من ابنتيها اللتين تسكنان بالجوار، وجلسات وجيزة وعلى فترات متباعدة في اليوم مع ولديها الوسيلة والحبوب، وعلبة طويلة كانت في يوم من الأيام حاوية لنوع من أدوية الشراب الفوارة، تحتوي على تنباك بني طازج تبعث كل يوم أحد أحفادها في طلبه، وتضع حفنة منه معظم الوقت ما بين أحد أطراف الشفة السفلى والجزء المقابل له من اللثة.
تلخصت خطة الوسيلة لتحقيق حلمه الأوروبي في سيناريو بسيط للغاية، أن يحمل معه الشهادة الثانوية التي ظفر بها قبل عامين ويذهب لأحد أعمامه في العاصمة ويطلب منه أن يستغل علاقاته القوية بذوي النفوذ هناك لكي يعاونه في استخراج جواز السفر وتأشيرة البلد الأوروبي الذي سيقصده ثم المساهمة في ثمن تذكرة السفر والذي لا بد أن يكون معقولاً، فالتذكرة هي للذهاب فقط حيث لا تفكير في العودة قريباً.
سذاجة الوسيلة وحسن ظنه يجعلانا نتعاطف معه عندما يبدأ تنفيذ السيناريو ويصطدم بواقع أن الأمور أصعب بكثير مما رسمه في مخيلته. ولكن من كان يدري أن الأقدار كانت تتشكل حينها لتحقق حلمه، وإن كان ذلك عبر سيناريو مغاير تماماً.
عاشت أسرة الوسيلة على الكفاف حتى قبيل انتزاع الأعمام لأنصبتهم في المزرعة وقلة المدخول بها بعد انكماش مساحتها. لكن الوسيلة لا يأبه كثيراً لهذا الأمر، فهو يدرك جيداً أن الازدهار قادم في الطريق. فهناك إلفه وود متبادل بينه وبين أصغر أعمامه العاصميين، وهو رجل كريم وودود. كان أول من أكمل تعليمه الجامعي في نطاق العائلة وتقلد بعدها منصباً مرموقاً في إحدى مؤسسات العاصمة، وتزوج واحدة من بنات العائلات العاصمية المرموقة كانت تدرس معه بنفس الجامعة.
عندما فاتح الوسيلة والده المسن بنية توجهه للعاصمة لتنفيذ مخططه، لم يستغرق الأخير وقتاً طويلاً في منح بركاته التي أتبعها بدعاء طويل وثناء له على طاعته له وتضحيته بعامين من عمره لمساعدته. الأمر نفسه انطبق على والدته والتي فاجأته وهي تلف بأصابعها غطاء حاوية الدواء الأسطوانية ثم تميلها نحو كفها الأيسر المبسوط والمتحفز لتلقي كمية محسوبة من التنباك ثم تقذف بما جادت به الحاوية داخل نفس الموقع المعتاد في فمها: “ما تنسى يا ولدي تكلم عمك تقوللو لو جاهم زول لي بنيتو الوسطانية يقوللهم خلاص أنا أخدتها”. كانت تدري بحاسة الأم أن ابنها متيم بأبنة عمه الوسطى والتي تصغره بعامين، وقد بدأت للتو دراستها بإحدى جامعات العاصمة. ولكن الوسيلة لم يكن يفكر في ذلك كثيراً، فهو غير واثق من أن ابنة عمه ذات الجمال الأخاذ والحضور البهي والثقة العالية بالنفس والحديث الأقرب للهمس والمشوب بكلمات وتعابير أجنبية، تبادله نفس الشعور. كما أن الأولوية في تفكيره الآن هي لأوروبا. غمرته السعادة في تلك اللحظات عندما تذكر أن مشواره نحو العاصمة سيتيح له الالتقاء والجلوس مع محبوبته وتنبه في انزعاج إلى أنه يصاب بالارتباك والتلعثم والتأتأة في كل مرة يتاح له فيها التحاور مع ابنة عمه، خلافاً لحالته الطبيعية عندما يلتقي بشقيقاتها أو بأي فتاة أخرى.
لم ينس الوسيلة ايضاً أن يشاور شقيقتيه وأزواجهن وشقيقه الأصغر والوحيد الحبوب، فقد أدرك في قرارة نفسه ان الخطوة التي ينوي اتخاذها سوف تؤثر على كافة أفراد الأسرة، بل وحتى على أقرانه من أصدقاء الطفولة والدراسة واللعب والسباحة في النهر.
كل هذه الترتيبات التي قام بها الوسيلة لم تؤدي للنتيجة المأمولة، فبعد يوم واحد من جلسات التشاور والمناصحة، جاءه من يبلغه أن هناك شخص يبدو من هيئته ومن حجم الحاشية التي ترافقه أنه مسؤول حكومي كبير، قد وصل لمركز المدينة قائلاً أنه جاء تحديداً للقاء الوسيلة!

*المترة: وسيلة لرفع الماء من النهر لري الزراعة وسقاية الماشية

(2)

بعد أن أمطر الرسول بسيل من الأسئلة والاستفسارات، والتي لم يخرج منها بنتيجة قاطعة سوى أنه هو الوسيلة المطلوب للقاء المسؤول، وليس شخص آخر يحمل نفس الاسم، بدأ مرحلة التفكير في احتمالات الغرض من اللقاء. استبعد أول ما استبعد فكرة أنه مطلوب لنشاط سياسي مضاد للحكومة، فهو لم يحفل يوماً بالسياسة ولا يهتم بها كثيراً. كما أنه لا يعتقد بأن أي سلطة حكومية، خلاف تلك التي في مركز المدينة، تعرف شيئاً عن القرية التي يعيش فيها. شك بعض الشيء ان المسؤول ربما يكون موفد من الحكومة المركزية للتفاوض على شراء نصيب والده في المزرعة، ولكنه تساءل لماذا طلب المسؤول أن يلتقي به وليس بوالده، فهو صاحب ذلك النصيب بموجب الأوراق الرسمية. عصفت براسه الكثير من الاحتمالات الأخرى ولكنه قرر أن الأمر في النهاية لا بد أن يكون خيراً.
في صبيحة اليوم التالي، استغل الوسيلة أول سيارة لنقل محاصيل المزارع متجهة لمركز المدينة. كان محظوظاً عندما أكرمه السائق بإصراره على الركوب في المقدمة بجانبه وليس في الخلف مع الصفائح المعبأة بثمار الطماطم الحمراء واليانعة والحزم المتساوية في الحجم والشكل للبصل الأخضر والباقات الخضراء الزاهية لأوراق الجرجير والبقدونس. 
جلس الوسيلة في الوسط بين السائق وبين امرأة كانت متوجهة للمركز أيضاً لعلاج رضيعها، والذي لم يكف عن الصراخ طوال الرحلة ربما نتيجة للمرض.
زال ارتباك الوسيلة قليلاً بعد أن لاحظ أن المسؤول الحكومي وكذلك مسؤول المنطقة قد استقبلاه بترحاب شديد في مدخل مبنى مركز المدينة ثم اقتادوه إلى مائدة إفطار عامرة بكل ما لذ وطاب.
بعد وجبة الإفطار الدسمة، توجه الوسيلة مع المسؤولين وحاشياتهم نحو بهو طويل يؤدي في نهايته إلى صالة فسيحة، ثم تم إجلاسه على أريكة ضخمة وفي الوسط أيضاً بين المسؤولين فيما انصرف معظم أفراد الحاشيات إلى خارج الصالة، وجلس من بقي منهم في أدب بائن على كراسٍ بعيدة نسبياً.
لم يضيع المسؤول الزائر وقتاً طويلاً في المجاملات قائلاً أنه لا بد أن يعود للعاصمة بعد قليل وأنه أتى خصيصاً لكي يلتقي به بعد أن أبلغوه أنه من أفضل السباحين الشباب في المنطقة.
“انت يا وسيلة ثروة قومية. نحن عاوزين ناخدك معانا دورة الألعاب الأولمبية في هلسنكي بعد ستة شهور عشان تمثل بلدك وتجيب لينا ميدالية”.
أول ما تبادر إلى ذهن الوسيلة هو أن المسؤول سحب حرفي الألف واللام عن اسمه، ثم شرع بعدها في استيعاب المفاجأة السارة. فهو يعرف دورة الألعاب الأولمبية، بل ويتابعها كل أربعة أعوام بعد أن دخل التلفاز إلى قريتهم. وقد سمع باسم هلسنكي من قبل ويعرف أنها عاصمة أوروبية ولكنه لا يعرف لأي دولة. لا يهم، فعندما بدأ السعي لفرصة الذهاب إلى أوروبا، جاءته هذه الفرصة وهي تمشي على قدمين. 
بعد استيعابه لصدمة المفاجأة، رد الوسيلة على المسؤول قائلاً أنه يرحب بالعرض ويتشرف بتمثيل بلاده، ثم تساءل عما هو مطلوب منه.
أجاب المسؤول العاصمي: “ولا حاجة. تجينا في العاصمة بعد أسبوع ونحن بنعمل ليك إجراءات السفر ونعين ليك مدرب يساعدك عشان تجيب لينا الميدالية. ما شاء الله قالوا انت سريع ونفسك طويل في السباحة”.
همهم مسؤول المركز ببعض الكلمات من قبيل أن مدينتهم تفخر بهذا الشرف وأن ابنهم الوسيلة سوف يرفع راسهم عالياً ولكن مسؤول العاصمة قاطعه بصورة لا تخلو من الفظاظة قائلاً: “أنا راجع العاصمة. بعد أسبوع ترسلوا لينا البطل دا”، مشيراً بأصبعه للوسيلة.
احتاج الوسيلة لوقت طويل حتى يشرح لوالديه التطورات الجديدة، ولكنهما اختصرا عليه مشقة التفاصيل بالتعبير عن السعادة طالما أن هذه التطورات عادت بالخير على ابنهما. أما الحبوب فقد اكتفى بابتسامة عريضة للتعبير عن نشوته بهذه الأخبار،  مدمدماً في صوت خفيض “بختك آالوسيلة. ح تبقى مشهور!”
قضى الوسيلة مهلة الأسبوع في السباحة وتلقي التهاني من سكان القرية والقرى المجاورة ومن المدينة أيضاً. والتقى خلال الأسبوع بمسؤول مركز المدينة في نفس المكتب الذي شهد أحداث السبوع الماضي، ولكن هذه المرة كان المسؤول مصحوباً بثلة من المصورين والصحفيين الذين انهالت أسئلتهم على الوسيلة ولكن المسؤول كفاه مشقة الرد بالحديث طوال الوقت عنه كأبن للمدينة سوف يرفع راسهم في المحافل الدولية.
وكان يوم توجهه للعاصمة مشهداً تاريخياً، فقد اكتشف عند وصوله للمدينة مصحوباً بأهله وأهل قريته أن المركز قد نظم احتفالاً وداعياً ضخماً حضره المسؤول بالطبع وبقية المسؤولين ووجهاء وتجار المدينة. من المؤكد أن الوسيلة كان فرحاً بهذا التكريم ولكنه شعر ببعض الضيق عندما رأي الثري الذي اشترى أنصبة أعمامه في المزرعة وهو يجلس مجاوراً للمسؤول ويبتسم إليه.
وعند استقلاله للحافلة المكيفة المتوجهة للعاصمة، تعالت تكبيرات الرجال وزغاريد النساء وهتافات أطفال المدرسة الأولية الوحيدة بمركز المدينة، وبعد تحركها، استدار الوسيلة ليرى الجميع عبر الزجاج الخلفي وهم يلوحون مودعين. حينها، أحس الوسيلة بأن أمامه مسؤولية كبيرة إزاء هؤلاء البسطاء وصمم بينه وبين نفسه أن لا يخذلهم.

(3)
الوصول للعاصمة لم يكن بنفس مهابة الوداع الذي تلقاه الوسيلة في مركز مدينته. توقع أن يكون المسؤولين في استقباله، فلم يجد أحداً سوى شخص بملابس رثة وحذاء صندل قال أن المسؤول العاصمي الذي التقاه من قبل قد كلفه باستقباله وايصاله إلى أي مكان يود الذهاب إليه. غمر الإحباط الوسيلة، فقد توقع أن تتم استضافته في أحد الفنادق أو البيوت الحكومية باعتباره بطلاً سوف يمثل الدولة. لم يفكر كثيراً وأشار لمستقبله بأن يأخذه إلى المنطقة التي يسكن فيها عمه الأصغر، والواقعة ضمن حي راقٍ معظم قاطنيه من موظفي الدولة والديبلوماسيين الأجانب.
فوجئ العم بالوسيلة أمام باب بيته واحتضنه في ترحيب ظاهر ثم أدخله للصالون الفسيح داخل المنزل. انبهر الوسيلة بالشكل الجديد للصالون والذي اختلف تماماً عما رآه في زيارته السابقة لعمه. لاحظ أن الأثاث قد أصبح اكثر فخامة وأن معظم الحوائط تزينها أرفف مليئة بالكتب وأشرطة الفيديو والكؤوس والدروع الذهبية والفضية والخشبية، إضافة لعديد من شهادات التقدير ذات الإطارات الأنيقة. أما الحائط المواجه لمكان جلوسه، فقد برزت منه شاشة ضخمة تنقل بثاً لمحطة إخبارية عالمية في صورة عالية الوضوح وصوت عالي النقاء.
فكر الوسيلة أن عمه لا بد أن يكون قد استثمر الأموال التي جاءته من بيع نصيبه في المزرعة لتحديث بيته، وأحس بغبطة مكتومة لحال عمه.
دخلت زوجة عمه وسلمت عليه ببرود، ثم تبعتها محبوبته وهي ترفل في زي زاهي ومحتشم وتمتشق عطراً يجعل المرء كأنه يمر بحقل من الأزهار. جاء بقية أبناء عمه من صبيان وبنات وسلموا عليه بحرارة. 
بعد مراسم الاستقبال تجاذب الوسيلة مع عمه وأبناء عمه أطراف الحديث والذي تركز حول اختياره لتمثيل البلاد في الدورة الأولمبية، وشعر أن الجميع فخور به، ثم امره عمه بأن يتوجه مع ابن عمه الأوسط لغرفة الأخير حتى يرتاح من وعثاء السفر ويستجمع أفكاره استعداداً للقاء المسؤولين في الغد.
الغد الذي كان يتخيله حافلاً لم يكن به الكثير. فقد اصطحب الوسيلة عمه وتوجه للقاء المسؤول. وبعد انتظار طال حتى يفرغ المسؤول من اجتماعاته، تمت دعوتهما للدخول إلى مكتب المسؤول. 
استقبلهم المسؤول بترحيب زائف ثم دلف إلى لب الموضوع مباشرة وبدون مقدمات. 
“يا وسيلة نحن ما عندنا شك في إنك سباح ممتاز، لكن دي منافسات عالمية ومحتاج ليك لي مدرب يعلمك أسرار الفوز”.
لم يعترض الوسيلة ولا عمه، وقبل أن يتحدث أي منهما، أردف المسؤول: “ح تقابل مدربك بكرة في مسبح نادي الوزارة وهو حيديك جدول التدريب والتفاصيل التانية”.
توجه العم من هناك لمقر عمله، ولكنه لك ينس أن يدس مبلغاً من المال في يد الوسيلة، طالباً منه أن يختار بين العودة للمنزل أو التوجه لمنازل أعمامه الآخرين للسلام عليهم. فضل الوسيلة الخيار الأخير، وقضى بقية اليوم وهو يتنقل من منزل عم إلى آخر لينتهي به المطاف في منزل عمته الواقع في حي طرفي بعيد. رحبت العمة وزوجها وأبنائها بالوسيلة واصروا عليه أن يقضي الليلة معهم، خاصة بعد أن حل الظلام واصبح الخروج من تلك المنطقة صعباً. لم يمانع الوسيلة ولكنه اتصل بعمه الأصغر وأبلغه بالتطورات.
عند توجه اليوم التالي للمسبح وجد شاباً في سنه تقريباً ينتظره وهو يتلذذ بسيجارة تنفث دخاناً كريهاً ونفاذاً. عرف أن الشاب اسمه مبروك، وأنه سيكون مدربه الجديد.
قذف مبروك بعقب سيجارته على الأرض وداسه بقدميه ثم طلب من الوسيلة ان يتوجه لإحدى الغرف القريبة لتغيير ملابسه ففعل. بعد ذلك أمره أن يقفز إلى المسبح وأن يقطعه جيئة وذهاباً لأكبر عدد من المرات حتى يقف على قوة تحمله، ففعل أيضاً في نشوة كبيرة. بعد أن يئس من أن الوسيلة سوف يتوقف، اختار المدرب كرسياً موضوعاً تحت مظلة امام المسبح وجلس عليه ليراقب الوسيلة وهو يسعى بسرعة ثابتة وإيقاع منتظم بين الضفتين على طول المسبح.
لم تدم إقامة الوسيلة طويلاً بالعاصمة، فبعد عدة أيام من التدريبات المشابهة، طلب المسؤول منه العودة لقريته وقضاء فترة مع أهله، مع التشديد على ان يواصل تدريباته بالنهر المجاور وأن يتوقع في أي لحظة زيارة مفاجئة من مدربه لمتابعة تطوره.
قبل العودة، لم ينس الوسيلة أن يمد مكتب المسؤول بالصور والوثائق اللازمة لاستخراج جواز السفر. فعل ذلك قبل عودته للقرية بيوم واحد، ثم أسرع ليقضي بقية اليوم بمنزل عمه وفي رحاب محبوبته، آملاً أن يستجمع شجاعته ويبوح لها بما تعرفه أصلاً وأن تبلغه بعد ذلك بأن الشعور كان متبادلاً.
هل تنبأتم مثلي بما حدث في تلك الليلة؟ بالطبع، لم يحدث شيء لأن الوسيلة لم تؤاتيه الشجاعة الكافية، كما أن ابنة عمه لم تكن موجودة في المنزل حيث خرجت في رحلة ما مع والدتها ولم يرها ويودعها حتى وهو مغادر إلى محطة الحافلات في طريق عودته.
قضى الوسيلة بقية أيامه في القرية بروتين ثابت، التوجه للمزرعة لمساعدة شقيقه الحبوب في أعمال الحرث والزراعة ورعاية البقرتين اللتين اشتراهما والدهما قبل أن يتقاعد ويلزم منزله، ثم بعد ذلك جرعات متزايدة إلى ومن الجزيرة في الضفة المقابلة. 
وفي كل يوم، وحتى أوان توجهه للعاصمة قبل أسبوع واحد من السفر لهلسنكي، كان يتوقع ظهوراً مفاجئاً لمدربه مبروك ولكنه لم يظهر، بل وحتى لم يتصل به هاتفياً للاطمئنان على تدريباته. تذكر أن المدرب عندما التقاه في العاصمة لم يطلب منه رقم الهاتف!
عاد الوسيلة للعاصمة بوداع رسمي مشابه لوداعه الأول في مركز المدينة، ضم مسؤول المركز والثري المشتري للمزرعة وثلة من المسؤولين والتجار والمزارعين والموظفين والأصدقاء وزملاء الدراسة وطلاب المدارس. بحلول ذلك الوقت، بات الوسيلة أشهر شخصية في المدينة وفي قريته والقرى المجاورة.
وصل للعاصمة فوجد هذه المرة عدد من الأشخاص الذين يلبسون زياً موحداً غاية في النظافة والترتيب في استقباله. أخذوه هذه المرة في سيارة جديدة ومكيفة إلى أحد الفنادق وطلبوا منه الراحة حتى اليوم التالي حيث ينتظر أن يزوره المسؤول والمدرب. وقد كان!
“تشد حيلك في الأسبوع دا يا بطل عشان نسافر ونحن جاهزين”. كانت هذه المرة الأولى التي أدرك فيها الوسيلة أن المسؤول العاصمي سوف يسافر معه في تلك الرحلة.
واصل تدريباته اليومية بمسبح نادي الوزارة بإشراف مدربه المدخن وامتعض قليلاً عندما رفض المدرب أن يسمح له بزيارة أعمامه أو حتى الخروج من الفندق بعد ان شكا من عدم تعوده على الطعام ومن الملل الذي يصيبه وهو يتجول بين ردهات الفندق بدون هدف.
وفي يوم السفر، أخذوه في الصباح الباكر بسيارة للمطار بعد أن لبس زياً رياضياً جديداً كان المسؤول قد منحه له قبل عدة أيام. وجد في المطار عمه الأصغر وبصحبته ابنته الوسطى في زيها البديع، ولكنهم كانوا يغوصون وسط مجموعة من البشر الذين لا تستطيع أن تميز حابلهم عن نابلهم. حياهم من بعيد ولم يستطيع أن يرى ما إذا كان عمه قد رد التحية، فقد كان مشغولاً بالتركيز على ابنة عمه وهي تبتسم وتلوح له بيدها البضة. أنسته هذه الابتسامة وتلك التلويحة، الرهبة التي كانت تنتابه وهو على وشك ركوب الطائرة للمرة الأولى في حياته.

(4)
عندما شاهد الوسيلة جوف الطائرة للمرة الأولى أصيب بنوع من الإحباط، فقد كان يتخيلها أوسع مما هي عليه في الواقع. وعندما جلس على مقعده بالدرجة الاقتصادية، شعر بنوع من الضيق والتململ. لاحظ جاره في الطائرة من مرافقي المسؤول قلق الوسيلة، مدركاً بفطرته أنه يسافر للمرة الأولى، فشجعه في محاولة لإزالة رهبته.
قبع المسؤول وبعض من معاونيه في مقعد وثير بدرجة رجال الأعمال. وعندما سأل الوسيلة جاره المرافق للمسؤول عن المدرب مبروك، رد عليه الأخير بأنه يجلس مع المسؤول.
وصلت الطائرة إلى هلسنكي بعد توقف طويل ومرهق في إحدى المدن. وقد حاول الوسيلة استثمار فترة التوقف بالحديث لمدربه عن جدول التدريب بعد الوصول إلى القرية الأولمبية، ولكنه لم يجد جواباً شافياً. لاحظ أيضاً أن المسؤول يتجنب مواجهته أو حتى النظر إليه ولم يفهم سر ذلك.
عندما حطت الطائرة رحالها على الأسفلت الناعم والذي تحف جوانبه خيوط متقطعة من الجليد ناصع البياض، شعر الوسيلة بأنه في عالم آخر لا يشبه قريته ولا العاصمة التي يسكنها عمه، ولا المدينة التي توقفوا فيها. وعند الخروج من بوابة المطار بعد إجراءات سريعة لا تتجاوز الدقائق، شعر الوسيلة بنفحة هواء باردة ونقية تتغلغل في خياشيمه وتصل إلى أطراف عظامه. فكر الوسيلة في سره: “هذه هي البلد التي تناسبني.”
عندما انتقل الوسيلة والفريق الذي يرافقه بقيادة المسؤول، وبمعية المرافقين إلى القرية الأولمبية، فوجئ بالكم الهائل من البشر هناك. أناس بمختلف السحنات والأشكال والأحجام، جميعهم مشغولين بشيء ما، إلا أعضاء وفدنا الذين تفرغوا للتمعن في ذلك المنظر العجيب للبشر وهم يروحون ويغدون، معظمهم في ملابس رياضية زاهية، وأقليتهم في ملابس شبه رسمية، ونساء كاسيات عاريات كما وصفهم مرة صديقه في السباحة بلال. ترى ماذا يفعل بلال في هذه اللحظة وهل يواظب على الذهاب للجزيرة مع بقية الأقران؟
قضى الوسيلة يومه الأول في هلسنكي في النوم وتأمل حركة البشر بالقرية الأولمبية من نافذة الغرفة التي تشاركها مع عدد من مرافقي المسؤول. لاحظ مرة أخرى أن لا اثر لمدربه رغم أن المدخنين من أعضاء الوفد كانوا يتجمعون تحت غرفته.
في صبيحة اليوم التالي، أتى المسؤول وهو يحمل في يده ورقة اتضح فيما بعد أنها تحوي جدول المنافسات التأهيلية لمسابقة السباحة وأبلغه أن الفئة التي يشارك فيها سوف تقام منافساتها بعد يومين وأن هناك مسبحاً قريباً يمكنه أن يذهب إليه للتدريب في مواقيت معينة حسب لوائح اللجنة المنظمة. 
تجرأ الوسيلة هذه المرة سائلاً المسؤول بظرافة مصطنعة: “سعادتك وين مدربي الناشف؟”، متوقعاً في ذات الوقت أن يستفسر المسؤول عن لقب الناشف، فتتاح له بالتالي الفرصة ليقول لن أنه لاحظ أن المدرب يلقي عليه التعليمات من خارج المسبح ولا يدخل الماء. لم يضحك المسؤول لهذه الطرفة، ولكن لم تبد عليه علامات الضيق. ورد على الوسيلة قائلاً أن المدرب قد اختفى من القرية وأن عليه أن يتدرب من الآن فصاعداً بنفسه.
لم يعر الوسيلة الأمر اهتماماً كبيراًـ، فالمدرب لم يكن يفده بشيء كثير وكل ما كان يفعله أثناء الحصص التدريبية هو التحرك جيئة وذهاباً من خارج المسبح وبصورة متزامنة مع حركة سباحته وهو يصيح عليه مصدراً ثلاثة أوامر محددة: “أرفع سدرك لي فوق، نظم تنفسك، زيد سرعتك”. 
الوسيلة الوحيدة للوسيلة في التدريب كانت السباحة الفعلية، فهو لا يعرف وسيلة غيرها. ولكنه لم يكن غبياً، فقد لاحظ أن معظم السباحين المتدربين لديهم طواقهم تدريبية متكاملة، وأنهم يبدؤون تدريباتهم خارج الحوض من خلال حركات رياضية متناسقة لعضلات الذراعين والساقين والجسم ككل. لاحظ أيضاً أن مدربي السباحين يدخلون معهم للمسبح ويوجهونهم من هناك، وفي بعض الأحيان يدخلون معهم في سباقات تدريبية قصيرة.
في اليوم المشهود، استيقظ الوسيلة باكراً، وارتدى ملابس السباحة التي كان يتدرب بها من أيام العاصمة وخرج ليجد جميع أعضاء الوفد في انتظاره، بما فيهم بالطبع المسؤول .. ولا اثر للمدرب.
نسيت أن أقول أن الوسيلة كان الرياضي الوحيد في الوفد الذي يزيد عدده عن عشرين فرداً لا يدري ما هي وظائفهم بالتحديد. 
توجه الجميع إلى المسبح الذي تقام عليه المنافسات التمهيدية وانتظروا لفترة حتى نودي على اسم الوسيلة من خلال مذياع فتوجه إلى حيث منافسيه. الشيء الوحيد الذي قاله له المسؤول أثناء توجهه هو “يللا أرفع راسنا يا بطل”. لم تحدث هذه العبارة أي تحفيز معنوي للوسيلة، فقد شعر منذ بداية الرحلة أنه بات لا يطيق المسؤول ولا المدرب، ولكن علاقته مع عدد من بقية أعضاء الوفد كانت جيدة نوعاً ما، خاصة مع المرافق الذي جاوره في الطائرة وشاطره السكن في القرية الأولمبية، والذي كان يسهر لوقت متأخر وينام حتى الظهيرة ثم يذهب للأكل والتدخين وكأن أمر المنافسات لا يعنيه بالمرة. ومع ذلك لم يتضايق منه الوسيلة، بل استلطفه لأنه كان شخص قليل الكلام ولكنه ودود للغاية.
عند وقوف الوسيلة على المنصة التي يبدأ منها السباق التمهيدي المؤهل للمنافسات، لمح الوسيلة عشرات من الكاميرات التلفزيونية والفوتوغرافية المصوبة نحوه، كما لمح المئات من المتفرجين من ذوي السحنات المختلفة وهم يلوحون بأعلام بلدانهم ويشجعون سباحيهم ويحثونهم على الفوز. بالطبع لم يكن من بينهم من يشجع الوسيلة!
وأثناء وقوفه على المنصة، شعر الوسيلة بأنه قزم صغير مقارنة بمن يقفون على يمينه ويساره. وفجأة، ظهر رجل كبير في السن يلبس بدلة بيضاء نظيفة ويجمل في يده مسدساً صوتياً ضخماً. ورغم أن الوسيلة لم يستطيع استيعاب حديث الرجل لهم، إلا أنه أدرك بالغريزة أنه يطلب منهم الاستعداد والقفز للماء لبدء السباق بعد سماع صوت انطلاق المسدس.
اتخذ الوسيلة نفس الوضعية التي اتخذها منافسيه استعداداً للانطلاق، ولكنه خلافاً لهم، ركز على الرجل حامل المسدس وليس على صفحة الماء أمامه. وعندما لمح الرجل وهو يحرك أصبعه السبابة ببطء حول الزناد، فكر بسرعة بأنه قفزته في هذه اللحظة سوف تتزامن مع انطلاق صوت البدء من المسدس وتمنحه بالتالي أسبقية على منافسيه، فقفز في الماء دون تفكير وسبح بكل قواه حتى يفوز بالسباق. بعد برهة، لاحظ أنه الوحيد داخل المسبح، وأن منافسيه ما زالوا واقفين على منصاتهم وهم يضحكون وأن الرجل حامل المسدس يشير إليه بالخروج وهو يضحك، وأن المتفرجين ينظرون ويشيرون إليه وهم يضحكون، وأن المسؤول وحاشيته ينظرون إليه وهم واجمون.
تلك القفزة المبكرة كتبت على الوسيلة الاستبعاد من المنافسة. كل هذه التحضيرات والآمال التي عقدت عليه بددها الوسيلة في كسر من الثانية بقفزة رعناء جعلت منه أضحوكة العالم ووضعت مرافقيه في موقف لا يحسدوا عليه.
عندما عاد الوسيلة لمقر إقامته بالقرية، عومل بجفاء تام من المسؤول ومن بقية أعضاء الوفد، ماعدا جاره في الطائرة والذي قال له أنه لا يهتم كثيراً بالسباحة أو بالرياضة بشكل عام، وأنه أتى مرافقاً للمسؤول طمعاً في نثريات العملة الصعبة التي تعينه على مكابدة ظروف الحياة الصعبة عند العودة.
ومع الأيام، توطدت علاقة الوسيلة بذلك المرافق والذي اتضح أنه يحمل الكثير من الأسرار حول المسؤول. أول سر أفضى به المرافق هو أن الشخص الذي يفترض به أن يكون مدرباً للوسيلة لا يجيد السباحة! لماذا إذن تم تعيينه مدرباً؟ المدرب المزعوم هو ابن اخت المسؤول وهو عاطل عن العمل لأعوام طويلة ويعيش عالة على والدته ويثقل على كاهلها بمستلزماته الكثيرة من أكل وشرب وملبس وسجائر، وقد وعد المسؤول أخته بمساعدتها في تدبير حل لمشكلتها بتسفيره للخارج. قال المرافق أن “المدرب” قد تقدم بمجرد وصول الطائرة إلى السلطات في هلسنكي بطلب للجوء السياسي، وذلك وفق ترتيب متفق عليه وأن المنصب الذي منحه له خاله المسؤول لتدريب الوسيلة، لم يكن إلا وسيلة لإخراجه من البلاد مرضاة لوالدته.
السر الثاني والأخطر عرفه الوسيلة بعد أن أقسم لصديقه المرافق بأنه لن يبوح به لأي كان. فالمسؤول سجل أسماء مرافقيه كأعضاء في الوفد بعد أن اشترط عليهم أن يشاركوه بنسبة معينة وعالية من النثريات التي سيحصلون عليها.
بعد عدة أيام، عاد الوفد للبلاد وهو ينقص واحد من أعضائه، ومن عجب أن نثرياته لم تنقص معه، بل صرفت كاملة وبالعملة الصعبة، لموكله، أي خاله المسؤول.
في مطار العاصمة، لم يجد الوسيلة أحداً في استقباله. لا أثر حتى لابنة عمه أو عمه أو حتى المسؤول ومرافقيه الذين خرجوا من باب كبار الزوار. لم ير منهم سوى صديقه الجديدة والذي أتى مسرعاً ليودعه وينفحه عدة وريقات نقدية ليسدد منها رسوم الحافلة التي سوف تقله إلى قريته.
في الطريق إلى القرية، ظل الوسيلة يفكر طوال الطريق في ما سيقوله لأهله وأصدقائه في القرية. وفي غمرة هذا التفكيرـ تساءل الوسيلة فجأة: “فلننس الفضيحة والاستغلال والغباء وكل شيء. لماذا لم تمنح لي أي نثريات؟ لماذا فات علي أن افعل مثلما فعل المدرب المزعوم؟”

Print Friendly, PDF & Email

عن laalaa

شاهد أيضاً

قصة قصيرة طابور خامس

Share this on WhatsApp جمال غلاب انتظرت دوري بصبر و جلد و أخفيت الضيق الذي …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.