الإثنين , أبريل 29 2024
ardeenfr
أخبار عاجلة
الرئيسية / تقنيات / مقدمة (1) أنا والسلفية – واقعنا المأزوم ليس سراً على أحد.

مقدمة (1) أنا والسلفية – واقعنا المأزوم ليس سراً على أحد.

مقدمة (1)
أنا والسلفية

واقعنا المأزوم ليس سراً على أحد.

دولنا تعاني من أزمة بنوية ولا تتواءم ومعطياتها التاريخية والجغرافية والثقافية والاجتماعية. ضعف في بناء مؤسسات الحكم والإدارة. هشاشة في المؤسسات السياسية والإدارية والأمنية والعسكرية.
أنظمة سياسية لا تعبر عن تطلعات الشعوب، مع تغييب للديمقراطية والشفافية والحكم الرشيد، وانتشار للفساد في أورقة الحكم، وأحزاب منشغلة بأزماتها الداخلية، وانقساماتها السياسية فيما بينها البعض.
بنى اجتماعية مختلة، وعلاقات بينية تسودها المذهبية والطائفية والعرقية ومشكلات التفاوت الطبقي. فشل في بناء وتعريف الهويات الوطنية. ومجتمعات مقهورة يسودها الفقر والأمية والمرض والنزاعات.
اقتصادات مَدِينة، رَيعية في معظمها، تابعة، متدهورة، تقبع تحت رحمة الاستغلال الرأسمالي العالمي، وتحديات ضخمة تواجه التنمية، وتصحيح الأوضاع الاقتصادية في بلداننا.
منذ حركات التحرر الوطني، واستقلال دول العالم الثالث إبان الحرب العالمية الثانية، تعثر مشروع الدولة القومية الحديثة في المنطقة، ولم تستطع دول ما بعد الاستعمار أن تحقق الحد الأدنى لمقاصد الفرد الكبرى في الحرية والعدالة والمشاركة وتحقيق الاستقرار والأمن، وعجزت عن تلبية الحاجات الأساسية لمجتمعاتها، التي أضعفتها وتكويناتها.

السودان الذي أعلن استقلاله من داخل البرلمان، في 19 ديسمبر عام 1955 لم يكن استثناء.
وفي سعيه المستمر نحو تحسين الأوضاع، وافتكاك مسار جديد من المأزق التاريخي، تجاه المستقبل، عبر الشعب السوداني عن سخطه على النظام القائم منذ قرابة الثلاثة عقود، وتطلعاته للحياة الكريمة منتظما في عصيان مدني في 27 نوفمبر المنصرم. الحراك العفوي، الذي استمر لثلاثة أيام، أعاد الأمل والشعور بالذات الجماعية والمقدرة على الفعل لشريحة ممتدة من المجتمع، وحظي بإشادة إقليمية وإعجاب واسعين.
لكن، ووسط دهشة البعض، وموافقا لتوقعات السواد الأعظم من المنفعلين بالشأن العام، اختار التيار السلفي الدعوي الارتباك عن آلام الشعب- الذي ظل يقسو عليه ويوبخه في كل مناسبة واحتفال وموكب- وأوجاعه ومعاناته، وتجاهل إرادة ما يعرف في أدبياته بالعامة، وانحاز موقفه الإصلاحي عن التغيير إلى الصبر والإصلاح الشعيراتي للذات.
وقد نظرت، على ضوء هذا التململ، أن الجو العام أصبح أكثر تقبلا لنقد العقل السلفي بصفته عامل استمرار سوسيو-فقهُوتي للأزمة، ولأن نقد هذا العقل، ما زال مطلب تجاوز، لم يستنفذ معطياته ومبررات وجوده.

اليوم، وكتمهيد أول، أود أن أسرد لكم قصتي. وهي طويلة، ولكنها يا سادة، قصة الكثيرين. وفهمها سيساعدنا على فهم المشكل والوعي بأبعاده، وربما تحريك الراكد بما يكفل أو يهيأ الساحة لجهود نقدية أكثر تقنينا في طريق تفكيك هذا العقل، وربما، فيما نرجو أنه ليس بالبعيد، تجاوزه.
للبعض فأنا مواطن صالح، وجيد ولكنني درّاع “كناية لخدشي للحياء العام أو تحدثي عن المسكوت عنه”، وللبعض الآخر فأنا شر يجب التحذير منه وإزعاجه وهنا سأكنى بالزنديق أو شيء من هذا القبيل”. سواء أكنت أيها القارئ من أصحاب اليمين أو الشمال، أو لا تمنح اللعنة، فهذا لا يعنينا اليوم كثيرا. ما يهمنا اليوم، ما أود أن أحكيه، وربما لا تعرفه أنت والكثيرون، هو أنني كنت سلفيا.

ولدت في المملكة العربية السعودية، يناير عام 95.
حين ولدت، لم أكن أحدبا أعورا، أطمح لنشر البدع والضلالات والمجوس والتشكيك في مقدسات الآخرين. كغيري ولدت قطعة حمراء، وزنها ثلاثة كيلوغرامات. لا أملك أي تصورات عن الواقع. قرأ أبي الأذان في أذني اليمنى، والإقامة في اليسرى، وكغيري أيضا ستبدأ رحلتي في تشكيل تصوراتي عن الواقع من بيئتي المحيطة. وإن كان يفيدكم أن تعرفوا أيضا، فلم تستقبلني يدا الماسونية والصهونية العالمية، وإنما ممرضة فلبينية، في مستشفى الملك خالد، بالرياض.

مبكرا أخبرتني أمي عن الله. وعرفت أنه خلقني، ويحبني. إذا تصرفت بصورة جيدة فسيدخلني لمكان يدعى الجنة حيث كل الأشياء السعيدة، وإن أسأت التصرف فسيضطر لإدخالي جهنم حيث يوجد الأشخاص السيئون. لم ترقني فكرة الجحيم كثيرا، ولم تبرع أمي في وصف الجنة لطفل صغير لا يجد في النخيل والثمر وأنهار العسل إغراء، ولكنني أحببت الله الذي خلقني وأخي أحمد وأختي نعمة ونورهان بنت الجيران وشعرت بالامتنان له. للحظة تساءلت من أين جاء الله؟ ولكن فهمت من ردة فعلها أن الله لا يحب الأسئلة.
التحقت بروضة قرآنية في المساء، مع طفلين آخرين من العمارة. كنت أقرأ وأكتب مسبقا، حفظت الفاتحة والإخلاص، والفلق، والناس. وأحببت القرآن، وأحببت الله، وأحببت أطفال الروضة. وتعلمت أن الملائكة مخلوقات من نور، وأن الجن مخلوقات من نار، وأن ستنا حليمة، مرضعة نبينا.
في العام القادم، سألتحق بمدرسة أهلية تدعى الشعلة، وهنا ستبنى اللبنات الاساسية لعلاقتي بالله، وستنحت تصوراتي عن الإنسان، الدنيا، الآخرة، الآخر المسلم، الآخر غير المسلم، الكون، الدين، الماضي والحاضر.
في الأعوام الأولى، سأقرأ عن التوحيد، وأركان الإسلام، وأركان الإيمان، والوضوء ونواقضه.
وسأفهم أن للدين موقعا مهما من حياتنا، أنه لا يتوقف على سماع كلام أمي والصلاة فقط، وأن له شعائر، وأحكاما، وتفصيلات.
في الطابور، وكل يوم، سيلقي طالب من الصفوف العليا قصيدة عن فلسطين، أو رثائية على حال الأمة، ويدندن آخر بالبكائيات والأناشيد.
في التلفاز سمعت أغنية الحلم العربي، ورأيت الطفل محمد درة. فنانون من كل الوطن العربي، ومشاهد للقتل والتدمير والتشريد. بدا أن الجميع في ورطة، وحالنا لا يسر أحدا. شعرت بالارتباط نحو هذه المنطقة أكثر من غيرها، وبأن شيئا يجمعني بهم جميعا. فهمت أننا متخلفون، وفهمت أيضا أننا في معركة مفتوحة مع اليهود والأمريكان.
في التلفاز، سأشاهد أيضا بوكيمون.
وبعد عدة أيام، سيوزعون لنا ورقة عن معاني أسامي البوكيمونات وخفاياها، في المدرسة. ويومها سأعلم أن مؤامرة كونية تحاق بنا.

في هذه الأعوام أيضا، ستبدأ مفاهيمي عن الخطيئة، والذنوب، والعمل الصالح في التبلور.
أحببت أصالة نصري، وظننت بأنها خالتي.
بكيت، كثيرا. وأنا كثير البكاء منذ صغري، حين سمعت أن المغنين يدخلون النار. بدأ رأسي الصغير شيئا فشيئا يستوعب أنه لن يأتي كل الأشخاص الذين أحبهم معنا للجنة. فهمت أيضا، وسأفهم أكثر في الأيام القادمات، أن هناك أمورا كثيرة قد لا يبدو لي سوءها واضحا كالكذب، وأكل حلوى الضيوف، وكسر كؤوس الشراب- ولكن الله لا يحبها. بماذا ستعرف هذه مستقبلا؟ بالخطايا، وسأتعلم اجتنابها.
بكيت مجددا، وأنا كثير البكاء منذ صغري، والشهقة الأولى، حين علمت أن المسيحيين سيدخلون النار. كنت أفهم أن كل من أشاهدهم في قناة الـLBC مسيحيون. هذا يعني أنا أبطال مسلسل “أحلى بيوت راس بيروت” كالمحامي نزيه نعمة هم هالكون أيضا. بكيت، لأنني وكما قلت، كثير البكاء، منذ صغري. وهنا، بدأت تتشكل ملامح علاقتي بالآخر الديني.

سأسمع عن العمل الصالح، في الجمعة، وكل جمعة. الكثير عن الآبار والمساكين واليتامى والصدقات والزكاة والشعائر، ولا شيء عن حل الواجبات المدرسية، إنشاء المعاهد والجامعات، البحوث والأوراق العلمية، الهندسة، والخطط والمشروعات. وفي هذا الإطار، سيتشكل مفهومي، للعمل الصالح.

عدت للسودان.
وفي الصف الثالث سعيت نحو الله. علمت أن الله عادل، يسمع، يجيب، ويتدخل لتعديل مجريات الأمور. في الصف الثالث أيضا، علمونا أن نقرأ الساعة. انتظرت حتى تأتي الساعة الواحدة ليلا مفترضا أنه الثلث الأخير من الليل، ودعوته أن يجعل الأمور أفضل، وأن يصلح حال المسلمين.
ألقت أمي القبض علي، وشاجرتني، وتوعدت بأن تخبر مرشد الصف غدا. فهمت أن أمي لن تقف في صف الله دوما، وأن أسرتي ومحيطي لا يعملون بالضرورة ما يرضي الله.

صغيرا، أحببت العلم، ونبغت بصورة واضحة. قدمني أبي إلى علم الفلك وحكى لي عن سباق الفضاء بين الاتحاد السوفيتي والولايات المتحدة وأنا لم أدخل المدرسة بعد، وقررنا سوية أنني سأصبح عالم فلك. بعد قليل سيعطيني كتابا اسمه “سلمى رائدة فضاء”، ثم كتيبا عن المجموعة الشمسية وكواكبها. وأخيرا أهداني أبي فيما بعد موسوعة علمية مصورة، بالعربية، من كتابين. وصرت أقرا عن التثاقل الكوني والقصور الذاتي وأنا ابن 9 أعوام.
أحببت العلم لأنه يعطينا أجوبة لها مقدرة على التفسير والتنبؤ. إنها لا تكتفي بتقديم تفسير للظواهر والسلوك من حولي، ولكنها قادرة على التنبؤ وفقا للتفسير الذي تطرحه. حين تقدم لي النظرية تفسيرا لهطول المطر مرتبطا بالحرارة والضغط وسرعة واتجاه الرياح والرطوبة مثلا فأنا قادر وفقا لهذا التفسير أن أتنبأ بحركة الطقس مستقبلا وأن أضع الاحتياطات اللازمة، على عكس أن تخبرني أن الإله الإغريقي زيوس يمسك بعصا يصعق بها من يعصي أوامره كتفسير لظهور البرق، أو أن السحاب يحمله ملاك.
إذا طرح يوهانس كبلر نظرية تفسر حركة الكواكب والشمس، فنحن قادرون على وضع نمائج تنبؤية وفقا لنظريته. نستطيع أن نحدد على أي ارتفاع من مركز الأرض ينبغي أن نطلق الأقمار الاصطناعية المتزامنة، كم يستغرقنا الوصول للمريخ وما هو المدار الأكثر كفاءة، وكم من الوقت سيستغرق مكوكا فضائيا للوصول إلى الشمس من الأرض إن صنعنا يوما هذا المكوك الرائع! على عكس قولنا أن الشمس تذهب للسجود في عرش الرحمن ليلا. ولكن الأجمل هو قابلية هذه الأجوبة العلمية للتكذيب! إنها قادرة على التحدي والاستجابة، في مقدورنا أن نحاول تكذيبها! في مقدورنا اختبار أدلتها وافتراضاتها تجريبيا، وإذا فشلت فعليها أن تخلي مكانها لآخرى.
لقد طرح آينشتاين نسبيته العامة عام 1916، وقدم تفسيرا للجاذبية على أنها تحدث نتيجة تشوه في شكل ما أسماه الزمكان، بديلا عن كونها قوة كما افترض نيوتن. إن مقدرة نسبية آينشتاين على تفسير تأثير جسم بعيد كالشمس على آخر كالأرض أعلى من نظرية نيوتن. وقد تنبأ، وفقا لنظريته، بوجود موجات الجاذبية في الكون والتي لم يكن بالإمكان التحقق منها تجريبيا. بعد مائة عام، توفرت لدينا الإمكانات التقنية، لرصد موجات الجاذبية، وتحقق تنبؤ نظرية آينشتاين. مثلما استغرقنا نصف قرن من الأبحاث، و 825.6 مليون دولار لنثبت الأثر الجيوديسي” و “جرّ-الإطار” الذي تنبأ به أيضا. حين تقدم النظرية تفسيرا وتنبؤا، فإنه سيحدث كل مرة، وفي إمكاننا تكرار الاختبار في مكان وزمان مختلف والحصول على نفس النتائج. بهذه التوصيفات “التفسير، التنبؤ، المقدرة على التكذيب” يجعلني العلم قادرا على تطويع هذا العالم وظواهره وعلاقاته.
زاد أعجابي بالعلم حين علمت أن حدوده لا تقف عند الفيزياء والكيمياء. في الصف السابع تمت دعوتي لمؤتمر علمي عن استنساخ النعجة دوللي من خلية جسيمية، في قاعة الصداقة “وقتها كان أقراني من سلفيي اليوم المصممين على شوطنتي والتنفير مني ما زالوا منشغلين بتلطيخ ثيابهم بالآيسكريم”. كيف يعقل أن العلماء تمكنوا من تخليق حيوان ثدي من خلايا حيوان بالغ آخر دون تزاوج؟ أيقنت يومها أن المعرفة العلمية قوة هائلة، لا حدود لها.
ولكنني لم أتخيل مقدرة العلم في الإجابة عن أسئلة التخلف التي تشغلني. إن توظيف أدوات البحث العلمي ومناهجه في تفسير الظواهر الاجتماعية والسياسية المتحولة، لإحالة المعرفة السياسية والاجتماعية لدرجة من الضبط والموضوعية بدا لي مثيرا للريبة. وبالتالي لم أتخيل أن في إمكان العلم أن يقدم لنا أجوبة لها قدرة تفسيرية وتنبؤية في هذه المجالات.     

هذا هو الوقت في المدرسة حيث يخبروننا عن تاريخنا المثالي، أننا لم نكن هكذا دوما.
حكى لنا الأستاذ “برير” عن أجدادنا وأمجادهم وكيف أنهم سادوا الدنيا من حدود الصين في آسيا إلى غرب آسيا، وشمال أفريقيا وصولا إلى الأندلس.
حكى لنا عن عمر من الخطاب، تكسوه بردته، والزيت أدم له، والكوخ مأواه، يهتز كسرى على كرسيه فرقا من بأسه، وملوك الروم تخشاه. وأن حكمت فعدلت فأمنت فنمت يا عمر، وعن خالد بن الوليد من أشراف بني مخزوم وفتوحاته في العراق والشام، يشهد مائة ألف زحف وما في جسده موضع إلا وفيه ضربة سيف أو طعنة رمح، ودهاء عمرو بن العاص وهو يقهر الروم ويفتح أبواب مصر الكنانة.

حدثنا عن عدل عمر بن عبدالعزيز وهو يأمر: انثروا القمحَ على رؤوسِ الجِبال لكي لايقال جاعَ طيرٌ في بلاد المسلمين.
وربعي بن عامر، إذ يدخل بفرسه على بساط كسرى معه سيف له مَشُوقٌ، ورمحه معْلُوبٌ بِقِدٍ، معه حَجَفةٌ من جلود البقر، على وجهها أديمٌ أحمر مثلُ الرغيف، ومعه قوسُه ونبله، وعليه درع له كأنها أضَاةٌ، ويَلْمُقُهُ عَباءةُ بعير قد جابَها، وتَدَرَّعها، وشدَّها على وسطه بسَلَب، وقد شدَّ رأسه بمِعْجَرَتِه، ويخرق النمارق ويحطم كبرياء رستم.
وطارق بن زياد إذ يلتقي وموسى بن نصير في طليطلة فيزحفان على سرقسطة وطركونة وبرشلونة حتى يفتحا الأندلس بمشيئة الله.
حكى لنا عن صلاح الدين الأيوبي وهو يوحد مصر والشام والحجاز وتهامة واليمن فيهزم الفرنجة والصليبيبن في حطين ويحرر بيت المقدس من دنسهم ويفتح دمشقوالسلطان محمد الفاتح وهو يدك حصون القسطنطينية وينهي الامبراطورية البيزنطية، فيحقق نبوءة النبي..ولتفتحن القسطنطينية ولنعم الامير أميرها، ولنعم الجيش جيشها..
وعن بطولات عبدالرحمن الداخل وأبي جعفر المنصور ويوسف بن تاشفين.
وامرأة عربية في عمورية تصيح وامعتصماه، فيأتي المعتصم بجيش بدايته عنده ونهايته عند أمير عمورية، فيجعل النار في المجانيق ويرمي الحصون حتى استسلموا، ويدخل المعتصم عمورية باحثا عن المرأة فلما حضرت قال لها: هل أجابك المعتصم؟ قالت نعم.
حكى لنا عن بغداد ودمشق والكوفة والأنبار واليمن، وطفنا في بلاد الأندلس وتجولنا بقرطبة وغرناطة وقرطاجة وإشبيلية وبيت مال المسلمين والدواوين والحدائق والجداول والمضايق ومجالس الخلفاء والشعراء.
مشهد مهيب، هذا الدين العظيم الذي ينزل على إنسان الجزيرة بمنظومات أفكار الميتة، فيحررها، ويعيده إلى سياق الأحداث وسباق الإنسانية. تخيلت الصحابة يقاتلون في بدر، يمشون في الأسواق، ويلعبون بالبطيخ والحراب، ثم ينطلقون ليقودوا العصر ويكتبوا التاريخ لقرون قادمة. نحن الذين نشأنا على هزيم الرعد وصقور الأرض ما كنا لنجد قصة أروع من هذه.
مالذي حدث إذا يا أستاذ؟ كيف فقدنا تقدمنا وهيمنتنا على الغرب؟ “لغة الهيمنة الجيوسياسية كانت مسيطرة كما تلاحظون“.
لقد ابتعدنا عن ديننا، المساجد خالية، النساء عاريات، إن سبب تخلفنا هو عدم تطبيق الدين، والبعد عن منابعه، وعلينا الرجوع إلى أًصل الدين وما كان عليه الصحابة الكرام إن أردنا أن نبدأ دورة حضارية جديدة.
الطفل الذي أحرز أعلى IQ في تاريخ المدرسة، لم يبتلع الطعم دون مقاومة. على الفور تخيلت مؤشرا لتقدم الدول على المحور س، ومؤشرا ما يعبر عن تطبيق الدين بالتعريف الذي يضعه الأستاذ على المحور ص. ويبدو لي أنه إن كان هناك أي تناسب أو correlation يذكر فهو عكس ما يدعي الأستاذ تماما. مقدرة هذه الفرضية التي طرحها الأستاذ “برير” لتوه على التفسير ليست محدودة فحسب، وإنما معدومة. تشجعت وسألت..
انفرجت اساريره وأخرج من جعبته مجموعة من الأجوبة الجاهزة.
الله يمد لهم، ويزين لهم، هذه زهرة الحياة الدنيا، يمهل ولا يهمل. وضعنا مختلف، فنحن قوم أعزنا الله بالإسلام فإذا ابتغينا العزة في غيره ذللنا. إنهم نهضوا بقيم الإسلام.. رأيت إسلاما ولم أر مسلمين.. معروفة! هاه!
عظيم، تحمست! أخبرني، مااذي في وسعي أن أفعله؟
علينا بتوحيد الله عز وجل، اتباع النبي صلى الله عليه وسلم، الالتزام على هدي السلف الصالح من الصحابة والتابعين، تزكية النفوس وتطهيرها، وسيزول الظلم وتتحقق الحرية والعدالة الإجتماعية.
هنا ابتلعت الطعم وتبنيت هذه الإجابات لسؤال التخلف. وستبدأ مرحلة جديدة، من رحلة تشويه منظاري للواقع.
على عكس العلم فإجابات كهذه غير قابلة للتكذيب، لن يأتي يوم ستخلوا فيه الأرض من الذنوب، ولن يأتي يوم سنكون فيه مثاليين، ولن يأتي يوم ستتفق فيه الأمصار على مذهب واحد، أو ننجو من اختلاف الفهم للنصوص. في مقدورنا دوما أن نعزي عدم نجاح نظرية الأستاذ “برير” إلى أننا لم نطبق الإسلام الصحيح، أننا مازلنا مذنبين وفي حوجة لتغيير أنفسنا وتطهيرها. هذه نظرية غير قابلة للفشل، لن يأتي يوم سنكون قادرين فيه على القول أنها غير ناجحة وحان الوقت لتجريب غيرها. في أيدينا الآن مسكن دائم الصلاحية، قادر على التخدير لآلاف السنين، وصرف النظر عن موضع الخلل الحقيقي ومساحات الاشتغال.

في الصف السابع، وبعد أن تجاوزت السادس دون دراسة، قدمت أولى إسهاماتي لحركة التنمية في المنطقة، حيث توقفت عن المصافحة، سماع الأغاني، الإعجاب ببنات الترحيل، وكل بروتوكولات التحول لما يعرف بال”ملتزم“.
حين أمتنع عن مصافحة إحدى قريباتي، كانت تنقض علي، وتطبق على رأسي وتشطف وجهي بالقبل حتى أظن أنها ستأكلني. كنت أتحسر على النذب الذي أقع به، وأتحسر عليها من يوم عبوس قمطرير. ولكن تحسري الأكبر كان على الأمة التي ستجازى بالتخلف، والاستعمار، والأنظمة المستبدة، وزيادة الأسعار بسبب هذا النوع من التصرفات غير المسؤولة.
عندما ذهبت للسوق ورأيت الفتيات يرتدين الكارينا، والاسكيرتات الضيقة، ويلونن خصلاتهن بالميج، وتفوح منهن عطور ديور وتوم فورد وكريمات الفاونديشن، علمت أنهن السبب لفشل خططنا التنموية. حين ترفع الفتاة خطوتها ترتفع ديون الدولة بصورة ما، وحين ترتدي الصدرية الـpush up يحدث التضخم الاقتصادي.
يشكو الكثيرون من انتشار الأمراض المزمنة والمستوطنة والسرطانات والأوبئة. أتذكر الشيخ في التلفاز وهو يعزي ذلك لكثرة الذنوب وانتشار الفواحش والخبث وإقبالنا على الدنيا. طفق الشيخ يفكك الأزمة، ويجيب على اتصالات الأمة من غرفة الكنترول، بشماغه من فريزاتشي السويسرية وفي وجهه نضرة الإيمان وريالات آل سعود، وهو يقود سيارته الفاخرة، ويقضي إجازته في شاليهات جدة مع أسرته الممتدة من باقة نسوانه وولدانه، واستراحات الرياض ويركب الخيل في بريطانيا.
كيف يستغرب العالم من انتشار فيروس الHIV ونانسي عجرم ترقص بكل وقاحة أخاصمك آه.. أسيبك لاه؟” … أتخيل حبال نانسي عجرم الصوتية تتذبذب فتطلق موجة بشدة 70 ديسبل، تنتقل في هواء الغرفة بسرعة 343 متر في الثانية، في شكل دائري مبتعدة عن مصدرها ثم تضعف شيئا فشيئا وتفقد جزءا من طاقتها على شكل طاقة حرارية حتى تقترب من التلاشي ثم تقوم بتنفيذ خدعة سحرية في اللحظة الأخيرة لتخلق فيروس الإيدز HIV.
منظمات بيل وميليندا غيتس، وكلينتون فاونديشن، وإليزابيث تايلور تنفق ملايين الدولارات سنويا في تمويل الفرق البحثية  من خريجي هارفارد، وبيرليمان، وجون هوبكينز، ويو سي-سان فرانسيسكو، من الباحثين والأخصائيين والأطباء الوورلد-كلاس، ومعدات بأحدث التقنيات بقيمة الملايين هي الأخرى، تحت إدارة مدججة بعشرات السنين من الخبرة وشهادات الإم آي تي سالون، في محاولاتها البائسة لمكافحة الإيدز طيلة هذه الأعوام دون أن تنتبه أن السر أننا تركنا ديننا و اتبعنا الرجل الأبيض وحلقنا ذقوننا بشفرات جيليت، وكريمات ما بعد الحلاقة برائحة الليمون، وأزلنا شعر صدرنا، وأرخينا بنطالنا الدينم، وأسس الوليد بن طلال قنوات الروتانا ، وخرج توباك، وسنوب دوغ، وآيس تي في الويست كوست، وبيغ دادي، وجاي زي، وكوول جاي في الإيست كوست، وبيوت الموضة في Gucci و Prada وChanel وArmani و Dolce & Gabbana و Tiffany & Coتصمم لنا من الcollections  والتنانير والفساتين ما يصف ويشف ويضيق ويجسم.

في الأجازة، في البحرين، تعرفت على صديق والد السلفي ويدعى مهلب. رجل سوداني، أصيل، طيب الخلق، من خيرة وأميز من التقيتهم عبر الأعوام. وجدت فيه قدوة ومحبة، وما زال من المقربين إلى قلبي. أصبحنا صديقين رغم فارق السن، سنذهب لجامع “الزلاق” على شاطئ الخليج العربي فأمشي وأرمي حجرا بعد الصلاة في البحر وأمكث قليلا فينظر لي مبتسما دون تعليق، ثم نذهب إلى خطبة الرفاع” في الأسبوع القادم، وبصحبته ستتوطد علاقتي بالسلفية.
البحرين مملكة جميلة، وشعبها شديد الطيبة والإلفة، ولكن هناك احتقانا طائفيا بين السنة والشيعة، ظهر للسطح تزامنا مع ثورات الربيع العربي. وقتها لم يكن الاحتقان ملموسا، ولكن فضولي دفعني لأسأل مهلب فشرح لي قصة الشيعة الإثني عشرية، والإسماعلية والزيدية. ولحسن الحظ أو سوءه، فقد اكتشفت بعد فترة كتابا قابعا في منزلنا عن الشيعة الإثني عشرية. وبتقليب سريع للورقات، شاهدت فلم كارتون عن شياطين بذيل وأجنحة. وصرت أنا الإفريقي الذي لا تنقصني النزاعات في موطني منشغلا بخلافات البيت القرشي “بنو هاشم/بنو أميةوالبيت الهاشمي نفسه “العلويون/العباسيون” و العرب القحطانيين في مواجهة العرب القيسية اليمانية.
أدمنت سماع المقاطع والصوتيات والتلاوات من موقع جوال الخير. وقد كان محمد بن ابراهيم اللحيدان، قارئي المفضل، أنا وإخوتي، نتسابق في تنزيل تلاواته والاستماع إليها وحفظها. أحببت صوته الناعم والعميق كمن قبض قبضة من أثر البترو-دولار الخليجي. حين يقول “كل من عليها فان” كنت أبكي وأنا ابن العاشرة، فإذا قال “فإذا انشقت السماء فكانت وردة كالدهان” كاد أن يغمى علي وأنا الذي لم أسرق المال العام، ولم أعتقل، ولم أقتل، ولم أشرد أحدا. لقد تعلمت شيئا فشيئأ أن أجد اللذة في الشعور بالذنب وتأنيب الضمير، ومن ثم الاستغفار والتوبة. ووجدت في البكاء الروتيني من خشية الله رضا. وقد حرص منتجوا موقع جوال الخير أن يضيفوا الصدى والمؤثرات والهمهمات التصويرية وصوت الرياح والبراكين ليجعلوا هذه تجربة لا تنسى. حين يتلو إدريس أبكر قوله “وجاءت سكرة الموت بالحق” أعلم أنني المواطن المسكين، مصدر كل شرور الدنيا، وأستحق كل هذا الظلم جزاء على عفانتي، وأن الله على استعداد لينال مني في أي وقت.

لنترك الحديث عن مظاهر التدين الشخصي جانبا، ودعونا نتتبع الآن كيف كانت تصوراتي عن الواقع السياسي والاقتصادي والمرأة والعلم والمعرفة والأخلاق تتشوه عبر الأعوام..
حين كبرت، فهمت أن الأشرار ليسوا في سبيستون فحسب. هنالك العلمانيون. ولكنهم أشرار بدون أسنان حادة وعباءة، يريدون فصل الدين عن السياسة، وتدبير شؤون الدولة وفق مرجعاتيهم الوضعية، ليمارسوا المنكرات ويبيحوا الخمور وينكبوا على الدنيا وينشغلوا بملذاتها وشهواتها!

تشربت كراهية هؤلاء العلمانيين باكرا بالطبع. الإسلام هو الحل. كيف لا يفهمون ذلك!
لم أكن أعرف مدلول مصطلح الدولة الحادث المعاصر، متى نشأ؟ ما هي وظائفها؟ ونظمها؟ وأشكالها وبنيتها؟ وتحيزاتها؟ في مقابل مدلول كلمة الدولة في السياق التاريخي الإسلامي. ماهي مبررات وجودها؟ ومن قال أنها جيدة وعلينا الحماس بشأنها من الأساس؟ لكن أهووو ” د و ل ة”… نفس الحروف يا بابا ولها علاقة بالسلطة وبشعب وإقليم وسيادة، فلم الفسلفة إذا؟ المشايخ يعرفون ما يفعلون ولا يتكلمون من فراغ، لا بد أن هناك أنموذجا تاريخيا مثاليا مكتمل الأركان للدولة المسلمة، لا يحتاج لأي تأسيس واشتغال نظري في انتظار بطل يسترجعه في لحظة من النستولجيا وما علينا إلا التكبير والبكاء يوم يتحقق ذلك. إلى ذلك الحين، سنترك الغرب عبر مسار متعمق من التنظير ورحلة طويلة من التجربة والخطأ ليتوافق على شكل الدولة التي ترضي المواطنين وتحقق المصالح القومية للمجتمع ومثله العليا والمصالح العليا الاقتصادية والاجتماعية، أما نحن فقد أرسلت لنا السماء نظرية سياسية قبل 1400 عام وقد كنا محظوظين كفاية لنكون تحتها حين سقطت وهي في انتظار التطبيق إذا جاء وعد ربي.

حين تلتقط أذناي أحدهم يتحدث عن النظام الاقتصادي، تحتد كل حواسي وغرائزي وينتصب شعري على الفور، وأصرخ “نظام اقتصادي إسلامي”، مصفرا مع حرفي الـ”سوالـ”ص” وكأنني من قريش.

لم أدرك معنى نظرية اقتصادية، أو نظام اقتصادي. ما هو مجموع العلاقات والمؤسسات والقواعد والأسس تشكله؟ وماذا تحكم ؟ ما المؤشرات والمقاييس التي نصنف الأنظمة الاقتصادية بناء عليها؟ والبنى التي تكون هذا النظام محل النقاش؟
هذه أشياء لا يخبرنا بها الأستاذ في المدرسة ولا يتحدثون عنها في التلفاز أو خطبة الجمعة. ولكنني كنت أعلم أن الإسلام وضع شروطا للبائع والمشتري والمَبِيع على مستوى المعاملات، وضع نظاما للمواريث، شرع الزكاة والصدقات والأوقاف، أقر الملكية الخاصة، ووفقا لنظرته فالمال مال الله، ووسيلة للتبادل التجاري وقياس القيمة وليس سلعة فحرم على ذلك الربا والاتجار في القروض. وقد حرم الاحتكار، وبيع الغرر، وما لانملك، والاتجار في المحرمات، وبيع العينة. وأقرّ المضاربة والمرابحة والمشاركة والإجارة والسّلَم كأدوات استثمارية مشروعة.
ما مدى اقتراب هذه المبادئ والأصول من كونها نظاما اقتصاديا بالمعنى المتداول؟ وما مدى مقدرتنا على تطبيقها في ظل النظام الاقتصادي والنقدي العالمي المسيطر والمتشابك؟ وما موقعها من الثبات والتغيير بتغيير الظرفين الزماني والمكاني؟ ومدى قابليتها للتطور استجابة للمتغيرات الاقتصادية من ازدياد الإنتاجية وتطور مستوى وسائل الإنتاج التقني، وتبدل العوامل الخارجية كالاكتشافات الجغرافية والعلمية والحروب والنزاعات السياسية بين الأنظمة المعاصرة؟
أسئلة كهذه لم تكن تخطر على بالي. دماغي لا يرى غير السطح وطبقة أو اثنتين من بعض أكثر القضايا تشعبا وتعقيدا، ويفخر بتلك النزعة السطحية “الكلام ده واضح.. مافي اتنين تلاتة!!” ويرى التعمق مذمة ومنقصة، وأن المتعمقين ليسوا إلا “مستهبلين” ومدعين وأصحاب أجندة وعلى قلوبهم غشاوة. قناعة تكونت بالترديد المستمر والتلقين والنحت على مدى طويل. وبهذا أركض في الأرجاء مهللا أن الإسلام هو الحل، وأروج وأبشر بالنظام الاقتصادي الإسلامي في مقابل الرأسمالية والاشتراكية والنظام المختلط.
مجددا، فالمعرفة الإنسانية قد تكشفت في لحظة ماضوية. هناك دوما خطة تاريخية بارعة مدفونة بين طيات التراث، مدسوسة في النصوص وكثبان جزيرة العرب، ستحقق لنا النصر، وهي في انتظار من يكتشفها.

ملف المرأة ظل شائكا في الثقافة العربية. في الحقيقة فحتى المجتمعات المدنية التي تفرض التوازن ما بين الدورين الأنثوي والذكوري في خطابها الثقافي لا تزال تعاني من النزعة الذكورية.
كيف لنا أن نمكن المرأة من حقوقها المدنية، ونزيح العوائق التي تحد من دورها وفاعليتها في مجتمعاتنا؟ حين يثير أي أحد أسئلة موضوعية حول وضع المرأة وهي قضية اجتماعية من التعقيد بمكان- أكتفي بإشهار حديث رسول الله استوصوا بالنساء خيرا، وذكر بعض النماذج من التاريخ لأمهات المؤمنين، لأؤكد أننا أجبنا عن سؤال المرأة وعالجنا المشكل الاجتماعي.
أنصرف بعدها لأفعّل معادلة السفور والحجاب والنقاب، والاختلاط، والرؤى الكلاسيكية حول أنها ناقصة عقل ودين، صوتها عورة، لا تسافر بدون محرم، يجوز ضربها ضربا غير مبرح، لا تقود، ميراثها نصف ميراث الرجل، لا تنكح دون إذن وليها، عصمتها بيد الزوج.
الواقع لا يتعامل مع ادعاءاتي بأي مجاملات ومراعاة لقدسيتها، ويرفض تقديم التنازلات حفظا لمشاعري. حين أقول لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة، يلطم الواقع وجهي بأنجيلا ميركل، ومارغريت تاتشر، وميشيل باشليت، وماري ماكليز، وسونيا غاندي، وإندرا غندي، وجانيت رانكن، وغولدا مائير، وبيلفا لوكوود، وإندرا نويي، وكريستينا فيرنانديز، وأوبرا وينفري. نساء في قيادة دول ناجحة، وشركات وماركات تتصدر قائمة أقوى 500 عالميا، وإمبراطوريات اقتصادية وإعلامية، وأكثر المنظمات العالمية تأثيرا- ويتركني أنقب وحدي في مجلدات ابن تيمية لأثبت صحة هذا الحكم وذاك المنهج وأبهت كفر هذا وزندقة ذاك.
ما بعرفش! قولتلك ما بعرفش! العدل لا يعني المساواة!
ماذا يعني هذا الهراء؟ كيف أصبح منتشرا أكثر من كتب أحلام مستغانمي؟ ما هو الrelevant difference  الذي يسوغ التفريق ويجعله عادلا في هذه القضية؟ لا أعرف، ولا أريد أن أعرف. الجملة مبهمة وأنيقة بما فيه الكفاية لتقنع مجتمعا متحاملا على المرأة بطبيعته، وهي راضية ومنهزمة على كل حال، لا يهم أن أكون نزيها ومتسقا مع نفسي بقدر ما يهم أن أطمئن للمنهج.

علاقتي بالعلم ظلت محل استفهام كبير، لا يقل اضطرابا عن سابقاته.
لماذا العلم موجود؟ ما هي علاقتنا به؟ في مقابل علاقة الآخر مع العلم؟ لم كل هذا الاهتمام به؟
ما أعرفه بكل تأكيد هو أن العلم ليس موجودا ليحفظه الطالب السلفي النجيب قبل الاختبار ليحظى بوظيفة في السعودية.
إنه موجود ليمكننا من فهم الواقع وتفسيره، ومن ثم معالجته وتطويعه. إنه موجود للمكاشفة والإجابة عن أسئلة الإنسان. وحتى اللحظة، فهو يقدم أداء اسثنائيا في هذه المهمة!
لقد تم إفهامي عبر السنين أن العلم أمر جيد ولكننا ناخذ منه بالقدر الكافي، ونتعوذ من علم لا ينفع. هو علم دنيوي ليس بشرف العلم الشرعي. هو ليس للإجابة عن أسئلتنا فهو ما زال علما وضعيا مهمته تأكيد منهجنا أو تقديم منتوجات مادية نتنعم بها كالبترول وسيارات الدفع الرباعي وأطباق الاستاينليس-ستيل للكبسة. إن قدم العلم أجوبة حول منشأ الكون وتاريخ المجموعات البشرية البيولوجي- مخالفة لمنهجنا، فسنرده وننكل بأهله.
ولكن حين يحدثني الناقدون أن علاقتنا بالعلم شائهة، وإسهامنا أقل من محدود، أتخذ وضعية دفاعية.
على الفور أحكي أن كل هذه العلوم والمباحث أصلها الحضارة الإسلامية في عصور إنتاجها وحركتها. بدأنا حركة العلم من الصفر فالإغريق والهنود الأوغاد لم يكونوا موجودين يوما ولم نترجم منهم شيئا، ثم أتت أوربا بعد أن تبدل حالنا وأخذوا منا العلم وأضافوا له قيم الإسلام التي سرقوها ليلا في مكان خال فلم يشاهدهم أحد غير السلفيين، وبهذا حصلوا على الخلطة السحرية للنجاح.
سأقص لهم نبأ ابن سينا وابن الهيثم والفارابي وجابر بن حيان والخوارزمي والرازي، أما قصص الاضطهاد والتنكيل والتضييق الذي لقوه فلن يسمعوا بها، لأنني لا أعرف عنها شيئا أنا الآخر، وقد تلقيت التاريخ مثلهم، بعد عمليات الحجب والتمرير والورنشة.
لكن انظروا! هاهم الغرب مصاصوا الدماء اليوم يملكون الآلة بلا أخلاق، وهم غارقون في المادية! يوخ! يا للقرف!
في النهاية، التحدي سهل. سأذكر مجموع الآيات القرآنية التي تسوق ألفاظ العلم، أفلا ينظرون، أفلا يتفكرون، أولي الألباب، لقوم يعقلون.. إلخ. وفي كل مرة يكتشفون شيئا مدهشا سأرفضه في البداية وأضغط زر التحريم وأستدعي السيكيوريتي، ثم أتقبله بعد فترة من الزمن حين يفرض علي العصر صحته، وأؤول آية أو اثنتين لأثبت أننا قلنا نفس الكلام قبل 1400 عام تحت هزلية الإعجاز العلمي.

كبرت، مجددا، ورأيت الظلم والاستبداد السياسي من حولي، فلم يعجبني حال الأمة.
ولكن ما العمل وهناك أكثر من مائة حديث عن حرمة الخروج على الحاكم في وجه التغيير؟
سلفيّا، سأشتغل على تعميق الطاعة العمياء للسلطة السياسية، منطلقا موقف عقدي، لا يحتمل المسايسة، يفضي إلى الصبر على جور الحكام، والسير في دائرتهم ما دامت الضرورات تفرض ذلك. أما أسئلة الإنسان، الحرية، الحقوق، الكرامة، العدالة، فليست ملحة في سلم الأولويات الديني، بقدر تأدية الصلاة في المسجد، وإقامة الندوات، والرحل، ومحاربة الشركيات والقبور، والكريسماس والمولد، التي يوفرها الاستقرار السياسي المظهري تحت سلطة الحاكم المستبد، ومساحة الحركة التي يسمح بها التحالف معه والتكريس لاستمرارية وجوده.

حتى التحليل البراغماتي الذي أقدمه بالتوازي مدعيا أن الفتن والمفسدة التي ستحصل، ينجم عن وعي طفولي قاصر بطبيعة الحراك التاريخي، ونظرة آنية قاصرة لا ترى أبعد من اللحظة الراهنة، ونماذج كلفة-عائد معطوبة.
ولكن أيا كان حظ جمهوري من الثقافة وحرصهم على تحليل يخضع لمناهج المنطق وأساليب البحث العلمي والنقدي الصارمين أو عدمهما- فما زال في معيتي النص.
أستدعي عشرات النصوص لأثبت موقفا من الظلم لا يتسق والمقدمات الأخلاقية لشخص سوي. وبهذا أقابل بالدهشة والتململ والاعتراض حين أقف بجانب الحاكم وقت الأزمات- من قبل عموم الجمهور المتعاطفين عادة مع التراث والمتجاوبين مع الخطاب السلفي في الأوضاع الطبيعية، بصفتهم متفقين معي على ذات المقدمات المنهجية، وأشربوها في المدارس.

لكن أوه؟ احزروا ماذا؟؟ أحسنتم! النص حاكم على العقل، وحاكم على الأخلاق. لا يمكننا التأسيس لأخلاق كمستقلات عقلية. نحتاج لمصدر مفارق للظاهرة البشرية، وإلا لما فائدة الدين إذا؟ أه؟ أه؟؟ بعد أعوام من الشطف والغسل والتلويث في مدارسهم وقنواتهم، وأناشيدهم، وخطب الجمعة، فأنا غبي كفاية ليعجبني هذا الكلام، أو على الأقل متحيز كفاية لكي لا أمنح هذا الادعاء الغريب القدر الكافي من التحليل والفرز النقدي.

تمر الأيام، وأزداد وعيا بحجم المشكل، فتلح الأسئلة من جديد
أتذكر أن الأسئلة شيء غير جيد، وأحضر علبة الأدوية والمسكنات:
أخرج شريط المسكنات الأول وأبلع حبة:
نحن لم نطبق الإسلام الصحيح”، فيدغدغني المنطق للحظة وأتساءل في أي “ميس” يختبئ هذا الإسلام الذي لم يكتشفه أحد بعد؟
سريعا، أخرج شريط المسكنات الأقوى، وأبلع منه حبة:
الإسلام يتعرض لمؤامرة دولية”، فأتذكر أخي الصغير حين كان يافعا فيبدأ بالنواح والشكوى كلما هزمته في اللعبة وفقا قواعدها المعلنة، التي يعرفها الجميع، ولا يود أن يتقنها أو يصدق بها.
أخرج شريط المسكنات التالي، وأبلع منه حبة:
نحن قد هجرنا الإسلام، نحن قد فتنا في ديننا”، فأتخيل مسجدا مكتظا بالمصلين والحفاظ في بلاد الأفغان، وأشجار الميلاد والأجراس تزين الساحات في أعتى قوى العالم.
أخرج شريط كبسولات أحاديث ذم آخر الزمان، بمفعول Extra، 48 ساعة، وأخذ حبتين هذه المرة:
لا يأتي زمان إلا والذي بعده شرّ منه، حتى تلقوا ربكم. خير القرون قرني، ثم الذين يلونهم..
فشلنا حتمية تاريخية، والخير ينتهي حسابيا إلى الصفر.
إن الإسلام بدأ غريبا وسيعود غريبا كما بدأ فطوبى للغرباء. سيأتي زمان على أمتي القابض فيه على دينه كالقابض على جمرة من النار. ستأتي على أمتي سنوات خداعات يكذب فيها الصادق، ويصدق فيها الكاذب، ويؤتمن الخائن ويخون فيها الأمين، وينطق فيها الرويبضة. يوشك أن تداعى عليكم الأمم كما تتداعى الأكلة إلى قصعتها.

حين لا تجدي هذه المسكنات، أخرج المخدر..
وأحقن في وريدي جرعة من الديسومورفين قابلة لأن تشل فيلاً.. المهدي النتظر.
رجل واحد، قرشي، سيأتي في زمن المؤسسات والسياسات العامة والآليات الإجرائية، ليعفينا من ما فشلنا في الإجابة عنه وفك شفراته من تحديات العصر. يخرج وعلى رأسه غمامة فيها ملك ينادي “هذا المهدي” فيحارب خطط السياسات النيوليبرالية، وتبعية البنك الدولي، ويحرر وسائل الإنتاج، ويحل أزمات الفقر، والغذاء، والبطالة، والتعليم، والصحة، والزراعة، والصناعة، والطاقة، والأمن المائي، والمناخ، والبيئة، والسلام العالمي، والعدالة، والهجرة، والحدود، والمساوة بين الجنسين، والحوكمة، والشفافية، والتنمية الاقتصادية، والبنى التحتية، وأنماط الإنتاج، واستخدام الموارد، ويفك الاحتقان الطائفي، والمذهبي، والقبلي، ويرضي أهل السماء والطير في الجو، ويملأ الأرض عدلا بعد أن ملأت جورا وظلما في سبع سنين. “أقل من فترتين انتخابيتين“.
فإذا وصلت “فتوحاتنا” إلى القسطنطينة، صاح الشيطان: إن الدجال قد خلفكم في أهلكم! عندها وبصورة ما سنقرر إلقاء شهادات البكالاريوس والاعتماد على هذا الرجل كمصدر إخباري موثوق وسنترك كل شيء ونعود، حيث أننا سنفضل الاعتماد على صيحته بدلا من شبكات الـBBC والـCNN وMSNBC وSky News وFox News والجزيرة والعربية وNDTV وGeo وEuro news ، وأقمار النايلسات، والعربسات، وبدر، والهوت-بيريد، التي تغطي الأرض كاملة على مدى 24/7 ومن ارتفاع 35 ألف كيلومتر. ربما قد فقدنا الثقة في الإعلام بعد نتائج الانتخابات الأمريكية الأخيرة، وربما جميعنا متخاصمون مع “نسواننا” ولا نود الاتصال للاطمئنان عليهم. لا بأس، في النهاية التاريخ على استعداد ليسير للخلف، وكل قوانين الكون والمنطق على أهبة الاستعداد للتسوية وتعديل نفسها ليظل قلبي مطمئنا.
للمفاجأة طبعا، فقد كذب علينا ذلك الرجل، وسيخرج الدجال من خلفنا إذا جئنا الشام ونحن نسوي الصفوف ونعد للقتال بالسيوف. لم نسمع بهذا الخبر ولم نكتشف كذبة الشيطان، حيث أنه ـ أعني الشيطان- قد كون فريقا من الهاكرز لينفذوا DDoS Attack سيحول دون وصولنا لتويتر وفيسبوك ومواقع التواصل الاجتماعي والصحف والمدونات الإلكترونية التي ستسقط جميعها لتجعل هذا السيناريو ممكنا ولا “يزعل” منا خطيب الجمعة. وبالطبع لن نستطيع إنقاذ الموقف بأي قرار تصحيحي corrective action، لأن كل خطوط الطيران التي تفوق ال5000، وأكثر من 11,261 طائرة خاصة في الولايات المتحدة وحدها، و7,997 في بقية العالم ستختفي في مثلث برمودة، ولن تسمح لجيش المسلمين أن يعود في سويعات معدودة.
سيطأ الدجال كل شبر من الأرض في 40 يوما عدا أربعة مساجد، بلا جواز سفر، ودون الحوجة لفيزا، يطوف من بلد لآخر يبث الرعب، لا يأبه بقوانين الهجرة واتفاقيات ترسيم الحدود وتراخيص الطيران، إلى أن ينزل عبسى عليه السلام فيقتله ويطبق العدالة بيديه في ظل دولة القانون، ويصلي المسيح خلف المهدي، وينتصر الخير، وكل البحوث والدراسات والخطط الاسترايجية ومشروعات الـCapacity building  لن تغني عنهم من الله شيئا، وحاق بهم ما كانوا يكسبون. سنلقي ورقة الجوكر الرابحة في اللحظة المناسبة من التاريخ، آخر الزمان، وسيتحقق نصرنا المنشود بالهمينة على العالم، و العبرة بالخواتيم ولا عزاء للمستشرقين والعلمانيين.

بحق، لم أسلمهم عقلي كلية يوما، وظل جزء مني يقاوم ويستجيب لكل حجة جيدة.
أوه ما العمل؟ هذه حجة منطقية صراحة، الشك على وشك الدخول لقلبي، كل ما أمنت به واستثمرت حياتي في تصديقه والبكاء ليلا وفي رمضان والدعاء للامتحان على أثره على وشك أن يهتز. أسمع صافرات الإنذار وأرى ضوءه الأحمر، وأتخيل الفوضى والفزع يعم المكان، وأسمع بكاء الرضع، وكأنني في غواصة غارقة من مشهد سينمائي. ما الحل؟ ما الحل؟ نسيت كلمة السر. أين هي؟ لقد خبأتها في مكان ماّ أووه أجل! ها هي، إنها في جيبي الخلفي:
شبهة!”..، نعم، “هذه شبهة” وتم الرد عليها من قبل. لا يهمني كثيرا ما سيقال في هذا الرد، المهم أنها شبهة وقديمة ولم يأت بجديد ورد عليها مشايخنا وخلاص. قررت مسبقا القبول بأي تسوية مع المنطق أجراها شيوخنا وسأكبر بانفعال في حدود 3 ثواني من سماعي للرد لأطمئن نفسي ومن حولي بأننا على المنهج الصحيح، وقد تماهينا مع حيلة الشيخ التي أجراها للتو وتواطئنا على تمثيل ومحاولة تصديقها.
ما الذي كنت سأفعله إن لم أتذكر كلمة السر؟ مجددا هناك الكثير لأفعله، سأسخر من عدم تمكن المخالف من اللغة العربية أو عدم حفظه للحديث أو الآية التي استدل بيها، أو بخطأ إملائي، صحيح أن المخالف لا يتفق معي على المقدمات التي أسوغ منها لأهمية الحفظ واللغة وبالتالي لا يكترث لهما كثيرا، وتعليقي هذا ليس إلا مصادرة على المطلوب وتحاججا بموضع الخلاف، ولكني لا أملك الوقت للتفكير بهذا العمق. رمضان قادم وتنتظرني كثير من التلاوات والمقاطع المؤثرة. وعلى كل حال إن لم تنطل هذه الحيلة فما زال في أمكاني التوسل بالفكاهة، وأنا أعلم جيدا مقدرة إخوتي السلفيين على التجاوب مع نكات شيخي بسهولة ويسر. في إمكاني الاعتماد عليهم.

حين يطل الواقع بأسئلته أخرج رزمتي الرابحة من أوراق اللعب:
بدعة، هرطقة، ضلالة، علم لا ينفع، مخالف لمنهج السلف، سكت عنه السلف، لم يتكلم فيه السلف، مجوس، رافضة، أهل الحق، أهل الباطل، قول باطل، قول مردود، أهل البدع، أهل الزيغ، شوكة في حلقهم، زنديق، خبيث، مبتدع، فاجر، هاك، خنزير، العياذ بالله، فتنة، حجرة، ورقة، مقص، موز، جوز، لوز.
لا أتحلى بالنزاهة بالكافية لأبحث عن إجابة فعلية، أو بالمسؤولية والشجاعة لأستيقظ من سباتي العقلي.
فقط أحمل عود السواك كتمظهر للثقافة والتراث العربي الذي أتاني مع الإسلام في نفس العرض (2*1)، والعبوة، وأبحث عن شخص ما لأضطهده، وأحذر منه. ثم أنشغل بتبرير الواقع والدفاع عن انحرافاته بدل التنظير لتغييره، وأجهض أي مجهود للمراجعات الجادة.
أنا منشغل بالتمكين لإسلام السوبر ماركت، والكتاتيب الدينية، وفقه دخول الخلاء، وأحكام الحيض والنفاس، وأوراد الصباح والمساء، وهندسة الجلابيب واللحى والشوارب.

أقول سبحان الله وبحمد مائة مرة، فلا يأتي أحد يوم القيامة بأفضل مما جئت به..
أقول حسبي الله ونعم الوكيل سبع مرات، فيزول همي في لمح البصر..

مع بداية الصف الثالث، وفي رمضان، يبدو أن هذه الLife hacks قد بدأت تعطي مفعولها. فقد عاد إلي سؤال قديم، ولكنه عاد ملحا وقد بلغ حدته هذه المرة: “هسي لو طلعنا نحنا الراكبين الماسورة؟

ماذا لو أن واقعنا المأزوم ليس نتيجة فشلنا في تطبيق ما نحمله من أفكار نظنها مثالية، وإنما هو نتاج نفس هذه الأفكار والتصورات التي نقدسها ونتفانى في ايجاد التبريرات والتسويات والحيل لتبريرها وضمان استمرار الإيمان بها، وننكل ونضطهد كل من يشكك فيها؟
ماذا لو أن الآخر لم يتقدم نتاج صدفة، أو نتاج حمله لأفكارنا وقيمنا التي ندعو لها ولا نطبقها، وإنما لاختلافات جذرية واضحة في القيم، والتصورات عن الإنسان والدين والأخلاق والحياة والكون والتاريخ والعلم والمعرفة والعمل، والأولويات؟
ماذا لو أن الآخر الذي ندعي أنه يعيش تدنيا أخلاقيا وإن كان متقدما ماديا علينا، هو في الحقيقة الأخلاقي هنا، وتقدمه نتاج لذات الأخلاق والقيم التي نعتبرها تدنيا؟ وأننا في الحقيقة وعلى عكس الشائعة الوحيدون غير الأخلاقيين هنا، ونحمل تصورات مهترئة للأخلاق تحتم استمرار تدنينا وتخلفنا؟ وأن كثيرا مما نعتبره أخلاقا نعاير بها البشر من حولنا ونفاخر بتميزنا بها هي في الحقيقة تصورات لا أخلاقية لها دور كبير في تأخرنا؟

ماذا لو أن المدينة الفاضلة لم تكن موجودة، وأن شبه الجزيرة العربية لم تكن في يوم ما كديزني لاند، يمشي فيها أناس كالملائكة ويتحدثون بالعربية الفصحى دون مصالح تتضارب وأجندة، وأن ما نتبناه من أفكار وتصورات قد وضع في ظرف تاريخي تتفاعل فيها المكونات السسيولوجية والسياسية والاقتصادية والدينية، تماما كالعالم الذي نعيش فيه الآن؟

ماذا لو أن هذا الواقع الذي نشكو منه، ونهرب منه، لنتذكر أمجاد التاريخ وانتصاراته ونستدعي مخزونه الفكري، هو نتاج موضوعي لذات هذا التاريخ الذي نحجب منه ونمرر منه ونتعامل معه كأداة زائفة لرفع المعنويات، بدلا عن القراءة الموضوعية له كمعطى موضوعي يؤثر في الحاضر؟
ما مدى جدوى الأطر الفكرية السائدة؟ ما مدى مصداقيتها؟ فاعليتها؟
ماذا لو أن السلفيين ليسوا سوى مجموعة من المستهبلين، الفوضويين، العشوائيين، المضغوطين في “حَلَّة بريستو”، وعقولهم النيئة في الثلاجة مع البليلة وأم فتفت؟

لقد أجاءني المخاض إلى السؤال والمراجعات، وأمضيت أِشهرا أصارع قناعات نحتت على مر الأعوام فاستقرت وتقادمت. وككل مراجعة جادة، وككل عملية جراحية، لم تسلم لياليّ من الآلام والتأوهات. وأنا كما تعلمون، كثير البكاء منذ صغري.
ولا زلت على شآني، حتى رأيتني وقد أرخيت البنطال، وأسبلت العقل، وفتحت الـwaptrick، وأحببت بنات الترحيل من جديد، واستغنيت عن “جوال الخيربفيروز، وأَجمِل بها من فيروز، وحين أسمع فيروز أبكي، لأنني أحمق كثير البكاء، منذ صغري.
على أية حال
هذا.. للمردة.
للمارقين، للمشاغبين، الصادقين.
هذا لمن كان حرا بأن يحلم، ويفكر، ويعمل لغد مختلف.  
هذا ليس للمتشنجين، المشحونين، القابعين في أقبية الماضي، والمتمسكين بأستار الخرافة.
هذا للنزيهين، للذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه، السائلين بجرأة والمنفتحين على مراجعة قناعاتهم. ليس لأصحاب الأليات الدفاعية، والهوس المرضي بالتنكيل والتحرش بكل من خالف أو انتقد.
إنهم قادمون، لا تشكوا في مجيئهم يوما. متمردون على المفاهيم والتصورات التي قام عليها العصر السابق. مفاهيم تؤثر على حياة الملايين، لا تستمد سلطتها من قوة الاستدلال ولا تكتسب مشروعيتها من جدواها ونجاعتها على الواقع، ولكن من تغلبها التاريخي ووجودها بيننا لفترة ممتدة في الزمن، بحيث ألفها الناس ودرسوها في المدارس، ورددوها في الإذاعات والخطب، وأحاطت بهم وحاصرتهم من كل مكان، فخرجت من دائرة النقاش لتصبح حقائق، لا يتجرأ أحد على المساس بها مهما أضرت بالواقع، وشكلت الأزمات.

هذا… للذين لم ينجح الكهنة في ختن عقولهم، للذين لم تسلب إرادتهم.
هذا لأبطال العصر الجديد، يأتون فيعيدونها لدائرة النقاش، ويثيرون حولها التساؤل، وينظرون كيف أثرت على حركتنا في الماضي، وكيف تؤثر فينا سلبا إلى اليوم.
هذا لتحرير التصورات ومنظومات الفكر، للغوص في جذور عدم الفاعلية والرشادة وتفكيكها.

نحن على وشك الدخول لمنطقة ضغط عاطفي عالي، ومهمتنا ليست سهلة. فما نحن على وشك تفكيكه من أفكار قد تشكل عبر 14 قرنا، ويحمل بصمات كل تلك القرون بإشكالاتها ووعيها بزمنها. إن حراس المفاهيم البائدة لن يسلمونا عهدة العصر الجديد دون مقاومة، وما نخصص له ساعة أو اثنتين من وقتنا كل أسبوع هو شغلهم الشاغل وهمهم على مدار الساعة.
تلك طبيعة المرحلة وضريبتها، وتلك هي الآمال والتطلعات، وهذه قصتي.. وقصة الكثيرين.

نلتقيكم في مقدمتين أخريتين، و6 مقالات.

وإلى حينها، كونوا بخير.

—–
فيروز- نسم علينا الهوى: https://www.youtube.com/watch?v=Jaha0oZojFk
—-
يتبع..
أمجد عبدالرحمن.  

#نقد_العقل_السلفي

Print Friendly, PDF & Email

عن laalaa

شاهد أيضاً

حركة 27 نوفمبر: استمرار النزاع القبلي في بورتسودان ونظرية الفوضى الخلاقة

Share this on WhatsApp( creative chaos) التفاصيل     نشر بتاريخ: 16 آب/أغسطس 2020 نتابع نحن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.