الخميس , مايو 2 2024
ardeenfr
أخبار عاجلة
الرئيسية / أخبار لالا اليومية / مرة أخرى وأخرى وغير أخيرة: العلمانية وأزمة امتلاك ناصية المفهوم

مرة أخرى وأخرى وغير أخيرة: العلمانية وأزمة امتلاك ناصية المفهوم

MJH

الأخت سارة ابو روف، لك التحية مدفوعة بالشكر لتكبدك مشاق الرد والاستمرار في الحوار في قروب “مركز دارفور للعدالة”، هذا القروب الأغر. أدناه مناقشاتي لبعض النقاط التي وردت في محاورتك لي. ولو تكرمت وسمحت لي بأن أكون صريحا معك صراحة أهلنا البسطاء فإني أخشى أن جملة ردودي لك سوف تنحصر في بسط المفاهيم التي تمسك بمفاصل حجاجنا. وعليه، أغلب ما ساكتبه أدناه لا يمكن النظر إليه باعتباره وجهات نظر، ذلك لأنه مما كان ينبغي الإلمام به بدءا. فالنقاش والحِجاج لا يمكن أن تستقيم له قائمة ما لم يتم امتلاك ناصية المفاهيم التي يدور حولها وبها النقاش والحِجاج. وغنيٌّ عن القول إن المفاهيم concepts ذات الأساس المعرفي epistemological base، بالرغم من أنها في حد ذاتها عبارة عن منتجات نظرية، إلا أنها تكتسب درجة عالية من الاستقلالية عن وجهات النظر التي تتداولها. بالطبع يمكن مراجعة هذه المفاهيم وأسسها النظرية، إلا أن النقاش والحجاج لا يستقيمان إذا لم يكن هناك اتفاق حول الدلالات الاصطلاحية للمفاهيم.

جاء قولك في فاتحة ردك ما يلي: “ما أريد التأكيد عليه ألا إختلاف علي فشل الدولة الدينية بقيادة الإنقاذ وربما عموماً ولكن المشكلة ليست في الدين؟ بل فيمن يطبقون الدين”. وهذا قول صحيح في جهة منه بقدر ما هو أيضا قول مُلبس في وجه آخر. فالصحيح في قولك مما أجد نفسي متفقا فيه معك هو أن الدولة الدينية لا علاقة لها بالضرورة بالدين الذي تزعم أنها تحكم بموجبه. ليس هذا فحسب، بل يثبت التاريخ أن الدين المعني (بوصفه ثقافةً اجتماعية وممارسة عامة) عادةً ما يكون من أوائل ضحايا الدولة الدينية التي تشوهه وتنفِّر عنه، الأمر الذي يستدعي تحركا اجتماعيا وفكريا لتصحيح الوضع، هو بالضبط ما قامت ثورة ديسمبر المجيدة لتحقيقه. إلا أن ما اختلف فيه معك هو ذهابك إلى أن خطأ الإنقاذ كدولة دينية لا يعود لفشل نموذج الدولة الدينية مبدأً، بل يعود إلى خطأ التطبيق. فهذا يعني أن الدولة الدينية جيدة من حيث المبدأ ما لم يصحبها التطبيق الخاطئ. ومرد اللبس في كلامك هو أنك تعتقدين أن مصطلح “الدولة الدينية” ذو ارتباط وثيق بالدين. وهذا ليس فقط خطأ، بل يتناقض مع صدر كلامك الذي اتفقت فيه معك. مرة أخرى أكرر لك بأن الدولة الدينية مؤسسة اجتماعية سياسية يصطنعها الإنسان ولا علاقة لها، بالضرورة، بالدين الذي تزعم أنها تحكم بموجبه. هذا ليس مجرد رأي، بل هو نتيجة أثبتها التاريخ منذ الإمبراطورية الرومانية المقدسة بوصفها دولة دينية انتهاءً بدولة الإنقاذ. أما إذا كنت تحملين رأيا مغايرا، فدونك التاريخ والحاضر، قومي باستعراضهما وقدمي لنا نموذجا لدولة دينية ناجحة من حيث تمثيل الدين الذي تزعم أنها تحكم بموجبه.

ثم أراك تقولين: “وظاهرة الإستقواء لا أعتقد أنها تنحصر علي الدولة الدينية فحسب ، وما نمشي بعيد فلنأخذ الظاهرة (الدعم السريع) هذه المجموعة لا تحمل أيدلوجيا فكرية معينة ولكن يبرز سلوكها الإستقوائي جليا في محاولة التكتل والتمحور داخلياً وخارجياً”. وهذا قول لا يقف على أي أساس من العلم. وحتى لا نصرف الكثير من الوقت، دعيني أقدم لك التعريف العلمي لمصطلح “الأيديولوجيا”، ولعلمك اتفق العلماء على هذا التعريف منذ عام 1885م، أي قبل حوالي 150 عاما: الأيديولوجيا هي مجمل التصورات التي تصطنعها الجماعة أو الفرد عن نفسها، أو عن نفسه، وعن الآخرين والتي بموجبها تعمل الجماعة على تكريس مصالحها الدنيوية ولو خالفت مصالحها المصلحة العامة أو الحق والحقيقة، ولهذا تكون الأيديولوجيا قادرة على تبرير أفظع الممارسات وأسوئها حيث يتم ارتكابها بضمير مخدر وغير متحرك، وبهذا تقوم الأيديولوجيا بتزييف الواقع. هذا باختصار! وكما ترين، لا علاقة لمصطلح “الأيديولوجيا” بالفكر أو الثقافة. فكلا الفكر والثقافة يقومان على الانفتاح والتفاعل، بينما تقوم الأيديولوجيا على الانغلاق وعدم التفاعل؛ وبهذا يؤدي الفكر والثقافة إلى توسيع المدارك وزيادة الذكاء، بينما تعمل الأيديولوجيا على تضييق المدارك وتكريس حالة الغباء فيما أطلقتُ عليه في كتاباتي مصطلح “الغباء الأيديولوجي”. وهكذا ترين أن ظاهرة الجنجويد تقوم في أصولها علي الأيديولوجيا الإسلاموعروبية (ولعلمك، الأيديولوجيا الإسلاموعروبية لا علاقة لها، لا بالثقافة العربية ولا بالثقافة الإسلامية، ببساطة لأنها أيديولوجيا). وطبعا يمكننا أن نشير بكل يسر إلى ما فعلته الأيديولوجيا الإسلاموعروبية بهؤلاء الجنجويد فهي، أولا، قامت بتزييف وعيهم بواقع هويتهم حيث ركبهم وهم أنهم عربُ العرب، وهذا طبعا مجرد وهم. فلو كانوا فعلا هم عرب العرب، لما استأجرهم عرب الجزيرة العربية كجنود مرتزقة يحاربون بالنيابة عن العرب العاربة. كما لا نحتاج لأي جهد كيما نشير إلى ما فعلته بهم هذه الأيديولوجيا الإسلاموعروبية من حيث تبرير ارتكاب الفظائع بدارفور، تلك الفظائع التي ترقى إلى أن توصف بأنها جرائم ضد الإنسانية حيث اشتملت على القتل الجماعي والاغتصاب الممنهج وحرق القرى والبلدات. انظري كيف ارتكبوا كل هذه الفظائع التي يندى لها الجبين خجلا ويتوارى منها، بينما هم فعلوها بضمير مرتاح كما لو كانوا يذبحون خراف الأضاحي. وعليه، نفيك للأيديولوجيا عن الجنجويد أو الدعم السريع أو عن أي جهة من الجهات التي تورطت في فظائع دارفور هو نفى يقوم في أساسه على فهم موغل في الخطأ لما تعنيه كلمة الأيديولوجيا.

وتبعا لما خلصنا إليه أعلاه، يصبح قولك أدناه بلا أي معنى لأن ما بُني على باطل فهو باطل: “عليه لا نسطيع أن نجعل من  الدولة الدينية قاعدة ثابتة  لإثبات ونسب محاولة الهيمنة لها بقدر ماهو سلوك بشري عام الشئ الذي يبرز الآن في ما يشاء بأن بعض الأحزاب تحاول السيطرة علي المرحلة وتمكين نفسها وإن كان ذلك علي حساب المواثيق والوطن وإن كانت قد رفضت ذات السلوك لدي النظام البائد”.

ثم أراك تقولين ما يلي: “أفتكر أن الدولة العلمانية أو الوطنية علي مستوي العالم لا تمثل وضع مثالي يمكن القياس عليه وتصويره بأنه المخلص للعالم وما دولة الجنوب عنا ببعيد إذ لم تشكل العلمانية ضامنا للسلام والوحدة الوطنية وحتي في العالم الغربي فإن عليها الكثير من الملاحيظ والإفرازات الجانبية السالبة فعندما تبرز العنصرية إلي يومنا هذا في دول عظمي كبريطانيا وأمريكا يبقي لا داعي للنقاش”. وهذا والله، وبكل احترام، قول لا علاقة له بما قلتُه لك في مقالي السابق بخصوص عَلمانية الدولة. فأنا لم أقل بأن الدولة العلمانية هي الضمانة للرفاهية والنماء، كما لا يوجد إنسان عاقل يمكن أن يقول هذا. ما قلته لك، وأقوله هنا مرة أخرى، هو أن العلمانية التي تحدثت عنها ليست موقفا فكريا أو مطلبا سياسيا؛ إنها شرط لازم من شروط الدولة الوطنية التي نشأت بموجب اتفاقية ويستفاليا في عام 1648م بين الإمبراطورية الرومانية المقدسة وبين ما عُرف بموجب نفس الاتفاقية بجمهورية الأراضي المنخفضة. وهذا قول يا طالما كررناه وأعدناه ولا أرى ما يدعو لتكراره مرة أخرى. أما تحقيق دولة النماء والرفاهية فهذه تقع مسئوليتها على القوى السياسية وبرامجها ومدى قدرتها على تنفيذ تلك البرامج، كل هذا داخل إطار الدولة الوطنية العَلمانية. فإذا نجحت، استحقت أن تحكم؛ أما إذا لم تنجح، استحقت أن تسقط في لعبة الانتخابات ليحل محلها حزب آخر. كل هذا في إطار الدولة الوطنية العَلمانية! لكن إذا لم تكن الدولة عَلمانية، فبدلا من احتمالات النجاح السياسي مقابل الفشل السياسي (وهو في جوهره فشل أدائي)، يكون هناك احتمال فشل الدولة نفسها (وهو فشل بنيوي)، بما سيؤدي إلى انتفاء السلام وبروز شبح الحرب الأهلية بالضبط كما عشنا ورأينا ما حدث ولا يزال يحدث في السودان. أما إشارتك لفشل دولة الجنوب، فمن بين عدة ردود يمكن أن أذكر لك أنك لا يمكن أن تكوني عاقلة إذا كنت تنتظرين من البقرة الحامل أن تلد لك حصانا؛ فالدولة الفاشلة سوف تلد لك دولة فاشلة، بالضبط كما ستلد لك البقرة بقرةً صغيرة، لكنها بقرة على أي حال! والفرق الآن بين الدولتين الشقيقتين هو على النحو التالي: بينما تعاني جمهورية جنوب السودان من الفشل الأدائي دون أن تعاني من أي فشل بنيوي يتعلق بتركيبة الدولة، تعاني جمهورية السودان من كلا الفشل الأدائي والبنيوي. فأيهما أسوأ وأضلُّ سبيلا؟

إن  ما ينبغي أن يشغل بالك أكثر من فشل دولة الجنوب هو فشل السودان كدولة لدرجة عجزه عن الاحتفاظ بالجنوب لا لسبب بخلاف أنه دولة غير علمانية. ففي إعلان المبادئ لاتفاقية مشاكوس عام 1998م كان النص يقرأ بما يفيد أحد خيارين: الأول قيام دولة علمانية واحدة ومتحدة، والثاني قيام دولة دينية بما يقتضي إعطاء الجنوبيين حق تقرير المصير. فاختارت دولة الإنقاذ الخيار الثاني. فلو كان السودان دولةً علمانية، لما انفصل الجنوب. كما عليك أن تقلقي أكثر من تكرار السودان لتجارب فشله البنيوي كدولة غير علمانية المرة تلو الأخرى؛ إذ ما أشبه الليلة بالبارحة! فاليوم يتكرر سيناريو انفصال الجنوب بطريقة وقع الحافر على الحافر فيما يتعلق بمنطقتي جبال النوبة والفونج بالنيل الأزرق – وغدا ربما دارفور، وبعد غدٍ ربما شرق السودان. أرأيت كيف أن الدولة الدينية هي التي تقوم بتفكيك السودان طوبةً بعد طوبة، وليس العلمانية؟

ثم أعجب من كل ما قلتيه أعلاه هو قولك، أدناه: “الأهم من ذلك إذا كانت الدولة العلمانية تستمد سلطتها من الشعب فلماذا لا يتم تخيير الشعب في هذا الأسلوب كخيار لإدارة الدولة بداية ولماذا تفرض عليه فرضا”. فكأننا يا بدرُ لا رُحنا ولا جينا! فأنت لا تزالين تتعاملين مع العَلمانية بوصفها خيارا سياسيا وموقفا فكريا؛ هذا بينما ظللت في المقالتين السابقتين أكرر وأعيد بأن العلمانية هي شرط لازم للدولة الوطنية، ذلك لأن الدولة الوطنية التي تقوم على حقوق المواطنة بلا أي تمييز على حساب الدين أو العرق .. إلخ، هي بنيويَّاً عَلمانية، وليس اختياريا. ثم لماذا نستفتي الشعب في أمر جربناه من قبل وعندما تم إلغاؤه لم يُستشر الشعب في ذلك الإلغاء؟ فقد ظللنا ننعم بالدولة الوطنية العلمانية منذ سقوط دولة المهدية حتى عام 1983م عندما أعلن النميري قيام الدولة الدينية دون أن يستشير أحدا. فهل تمت استشارة السودانيين في قيام الدولة الدينية التي حكمت علينا بأن متخلف عن ركب البشرية بأربعة قرون على أقل تقدير حتى نقوم باستشارة الشعب في إعادة الأمور إلى نصابها حتى نلحق بركب الحضارة والتقدم؟

مرة أخرى أراك تخلطين ما بين مفهوم “الدولة الدينية” وما بين الدين، ذلك في قولك: “وماذا لو نشبت إختلافات وصراعات عميقة بسبب العلمانية نفسها (المنوط بها الخلاص) ، لا سيما فنحن في السودان نمثل حالة إستثنائية وخاصة فالناس هنا مرتبطون بالدين بشكل طبيعي ووجداني فأي محاولة لتصوير أن الحل يكمن في إبعاد الدين عن إدارة الحياة العامة ستقابل بالرفض ويجب علي دعاة العلمانية أخذ هذا العامل بعين الإعتبار دون تجاهله أو التقليل منه بقصد أو بغفلة”. بخصوص الصراع حول العلمانية، فإني استغرب تساؤلك “… وماذا لو نشبت إختلافات وصراعات عميقة بسبب العلمانية نفسها …”؛ فالصراع لن ينشب في المستقبل لأنه بالفعل قد نشب في الماضي القريب ولا يزال ناشبا في حاضرنا المعاش هذا؛ وهو صراع قد خاضته البشرية من قبل ضد الدولة الدينية ممثلةً في الإمبراطورية الرومانية المقدسة. وقد تسبب ذلك الصراع في نشب ثلاثة حروب متزامنة وتعتبر الأطول في تاريخ البشرية، هي حرب المائة عام ثم حرب الثمانين عاما، ثم حرب الثلاثين عاما. واليوم نحن لا نزال نخوض غمار الحرب التي نشأت بموجب الدولة الدينية. أما قولك (بين قوسين) “المنوط بها الخلاص” فلا أعتقد أنه يحتاج إلى رد مني، فهذه من بنات أفكارك وإسقاطاتك، بجانب أن ما قلناه أعلاه فيه ما يكفي في الرد على هذه المقولة. ولكن اسمحي لي بأن أعود مرة أخرى إلى ما أراه، بكل تقدير واحترام، بمثابة النقطة المحورية في التباس المفاهيم لديك، ألا وهو قولك: “فالناس هنا مرتبطون بالدين بشكل طبيعي ووجداني فأي محاولة لتصوير أن الحل يكمن في إبعاد الدين عن إدارة الحياة العامة ستقابل بالرفض ويجب علي دعاة العلمانية أخذ هذا العامل بعين الإعتبار …”. فهذا كلام يدل دلالة قاطعة بأنك تؤمنين بالدولة الدينية بوصفها حامية الدين، وهذا اعتقاد فاسد، كأنه يريد أن يقنعنا بأن السودانيين لم يعرفوا الدين إلا تحت ظل الدولة الدينية هذا بينما الجميع متفقون أن السودانيين لم تتفرق كلمتهم وتذهب ريحهم إلا تحت ظل الدولة الدينية في المهدية والإنقاذ. وأغرب منه قولك: “لا سيما فنحن في السودان نمثل حالة استثنائية وخاصة فالناس هنا مرتبطون بالدين بشكل طبيعي ووجداني …”. كيف وعلى أي أساس تحكمين بأننا حالة خاصة؟ بأيِّ معايير؟ هل نحن أكثر ارتباطا بالدين من الشعب التركي الذي يقرر فيه الدستور بأن تركيا دولة علمانية؟ أم نحن أكثر ارتباطا بالدين من شعوب آسيا الوسطى التي خضعت لحكم الاتحاد السوفيتي لعقود فما زادها ذلك إلا تمسكا بدينها الإسلامي حيث يشكل المسلمون فيها نسبة تفوق ال 95%، ثم مع ذلك أشارت دساتيرها بصريح العبارة بأن الدولة علمانية؟ هل نحن أكثر تمسكا بالإسلام من شعوب حزام السودان التي تذكر دساتير العديد منها أن الدولة علمانية؟ ما الذي يجعلنا حالة استثنائية؟ ومن الذي قال بأن العلمانية تعني إبعاد الدين من الحياة العامة؟ أولم يحكم هيلموت كول دولة ألمانيا الغربية لمدة 14 عاما بالحزب المسيحي الديموقراطي؟ أولا يحكم الآن رجب طيب أردوغان، عبر حزب ينتمي لحركة الإخوان المسلمين، دولة تركيا التي يتصدر دستورَها التقرير بصريح العبارة أن تركيا دولة علمانية؟ أخشى ما أخشاه انك تُسقطين فهما خاطئا خاصا بك على العلمانية التي تجهلينها جهلا تاما. أقول هذا والله وأنا لا أرمي إلا لقولة الحق من باب التقدير لك؛ فالحقُّ إذا كان أولى بأن يُتَّبع، فهو أيضا أولى بأن يُقال.

وكأني بك وقد اتخذت قرارا بألا تنتهي عجائب أحكامك وتقديراتك التي ما أنزل الله بها من سلطان! دعنا نستعرض قولك أدناه: “أيضاً عندما تقرر مجموعة بعينها ضرورة علمانية الدولة وتفرض ذلك علي كافة الشعب فهي ذات الطريقة التي تم رفضها بأن مجموعة فرضت الدولة الدينية علي الشعب”. حسنا! إذن، بموجب ما تقولينه هنا، فالدولة الدينية قد فُرضت فرضا! دعنا نتوقف هنا! ماذا كان يوجد لدينا قبل أن تُفرض الدولة الدينية فرضا؟ أي نوع من الدولة كان يوجد لدينا؟ بالطبع كان يوجد لدينا الدولة غير الدينية، أي الدولة العلمانية! لماذا؟ لأن ذلك هو ما يعرف عن الدولة الوطنية بالضرورة! فما الذي حدث؟ تم فرض الدولة الدينية بالقوة، مرة عبر قرار من نميري، وأخرى عبر انقلاب عسكري وغير شرعي ضد حكم ديموقراطي شرعي قام به الإخوان المسلمون. فما الذي ينبغي عمله؟ ما ينبغي عمله هو اتباع القاعدة التي تقول بأنه لا يصح إلا الصحيح، وما قام على باطل، فهو باطل مهما تقادم عليه الزمن. فماذا يعني هذا؟ انه يعني إلغاء الدولة بجدة قلم، أي بقرار، بالضبط كما تم فرضها بقرار.

هذا ما كان ينبغي أن يقودك إليه قولُك أعلاه وفق منطقه الداخلي؛ ولكن العجيب فيما خلصت انت إليه هو التأسيس على قولك هذا للوصول إلى نتيجة مضادة له، ألا وهي تحويل العلمانية من كونها شرطا لأزمة حتى تصبح مجرد خيار خاضع لآلية الانتخابات رفضا أو قبولا. وهذا ما لن يحدث أبدا! كيف ولماذا؟ لأن الصراع حول علمانية الدولة من عدمها قد بلغ درجته القصوى وهي الحرب الأهلية. فحملةُ السلاح من لفيف حركات الكفاح المسلح لن تقبل بأي اتفاق سلام لا يفضي إلى أن تستعيد الدولة علمانيتها. بالضبط كما حدث مع الإمبراطورية الرومانية المقدسة! فإما الدولة العلمانية التي تقوم على المواطنة أو الحرب!

أما قولك: “وهل الدول العلمانية المتحضرة المتطورة اليوم لا تعاني أي نوع من أنواع ف‍المشكلات كالإنحلال والأمراض النفسية والاجتماعية (الناتجة عن الخواء الروحي) وحتي الكثير من المشكلات الإقتصادية ..؟؟”، فلا أعتقد أنه يحتاج إلى رد. لكن اسمحي لي بأن أذكرك بأن نفس هذا الغرب المنحل الذي يعاني من الخواء الروحي، هو الذي يبتدع لنا جميع ما تعتمد عليه حياتنا من أدوية وتكنولوجيا وعلم … إلخ. فلو دخلنا مع هذا الغرب في جرد حساب وبدأ كل فريق في استرجاع ما له من فضل على الطرف الآخر، صدقيني يا أختي سوف نُضطرُّ لأن نمشي في الطرقات عرايا كما ولدتنا أمهاتُنا. فكل المجتمعات فيها الطيب وفيها الخبيث، وليس من الحكمة في شئ أن نصدر صكوك الإدانة المجانية في حق مجتمعات تقف اليوم على سدة قيادة البشرية. فمثل هذا الأسلوب يعني أننا لن نتمكن أبدا من اللحاق بركب التقدم طالما كنا أميل إلى استسهال إصدار صكوك الإدانة كما لو كنا قضاة التاريخ. دعينا نصنع التاريخ أولا كما صنعناه في ماضينا التليد، ثم بعد ذلك يمكن أن نتحاكم.

أخيرا وليس آخرا، أتوجه إليك إزاء قولك: “كما أرجو أن نبتكر ونبتدع نموذجا خاصاً بالسودان يراعي خصوصيته ويستوعب متغيراته وتنوعه وتناقضاته” بالسؤال التالي: هل تعنين بقولك هذا أن نبتدع نموذجا خاصا بالسودان بخلاف الدولة الدينية وكذلك بخلاف الدولة الوطنية العلمانية؟ فمع تأكيدي لك بأن أي أمة أو شعب تكون لديه خصوصية أسماها علماء الدولة الوطنية بروح الأمة، إلا أن المشتركات بين جميع الشعوب في مسألة تطور مؤسسة الدولة هو السمة الغالبة. هذا أللهم إلا إذا كنت تعتقدين أن الشعب السوداني شيء فريد لم يخلق مثله في التاريخ.

ويدوم الود والاحترام والتقدير؛؛

                 MJH

          18 March 2020

         Khartoum, Sudan

Print Friendly, PDF & Email

عن laalaa

شاهد أيضاً

حزب المؤتمر السوداني تصريح صحفي

Share this on WhatsAppحزب المؤتمر السوداني تصريح صحفي طالعنا البيان المؤسف الصادر من سكرتارية اللجنة …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.