الثلاثاء , أبريل 30 2024
ardeenfr
أخبار عاجلة
2016101803.jpg

القاص

2016101803.jpg

القاص :

عزام مرسي

البيت الصغير ، الارضيّة التي كانت حتي وقت قريب مفروشةً بحبيبات الرمل الذهبي الناعم ، السقف المعروش بسعف النخيل المصفوف بعناية بالغة ، رائحه المساء التي تأتي بعد ان تعانق المياه الأرض بشوق العاشق لاحتضان حبيبته عند غياب اعين المتلصصين ، بخار الماء المتصاعد من الارض التي تنتظر مساء كل يوم حتي تستحم بلا خجل أمامنا ، الحب المتدفق من آنامل المراهقين الذين يحملون ( العناقريب ) حتي يكتمل فرش ( الحوش ) في انتظار الزائرين ، و تبادل الاحاديث البسيطة بكل عفوية اثناء ارتشاف أكواب الشاي الممزوجة بالحليب و البهارات المخصصة له ، طباخة الشاي فن لم يعد له وجود ، اندثرت هذة العادة مع العديد من الاشياء التي اندثرت في هذا الزمان الغريب .
الزمان النصف الثاني من تسعينات القرن الماضي ، و انا أمارس هوايتي المفضله بالخروج من منزلنا و التسلل عبر الشارع الي ذلك الحوش المسور الغير مأهول بالسكان ، آدلف اليه و اتوجه مباشرة للحائط المبني من طين الارض الذي يفصل بين ذلك ( الحوش ) ، وبين بيت العم ( سالم ) ، اتسلق الحائط و اقفز داخل منزلهم كالمعتاد فأنا احب ان ادخل الي منزلهم عن طريق الحائط لا ادري لماذا ! وهم يستقبلونني دوماً ببشاشة و رحابة صدر اجلس و اجلس أتبادل معهم اطراف الحديث و الرسم علي ارضية الغرفة، و انتظر بلهفة عودة خالتي ( مستورة ) من العمل ، حتي نتناول طعام الغداء المكون من ( فته ) الكسرة بالماء وبعض بقايا الرغيف مع عجينة الفول السوداني ( الدكوة ) بالبهارات، نتحلق كلنا حول تلك المائدة البسيطة الغنية بالحب .
تلك الاسرة الرائعة التي قدِمت من جبال النوبة زرعت في داخلي أول تعاليم الإشتراكية الفطرية و ساهمت في توجيهي الي الاتجاه الصحيح ، و اثبتت ان الكرم و مكارم الاخلاق هي غرائز فطرية في البشر ككل ، و ان الثقافة العربية التي تحاول ان تجعل مكارم الاخلاق عربية الهوية ليست سوى ثقافة مزورة بنت مجدها بالتعتيم علي الثقافات الاخري .
لم اتجراء ان ادعو اي فرد من تلك الاسرة ، للقدوم وتناول اي نوع من انواع الطعام في بيتنا المبني من ( الإسمنت ) فعلاقتنا العائلية باردة كحوائط منزلنا تماماً ، فأختي الكبيرة لاتريد  ان يزعجها احد وهي تستلقي علي كرسي الجلوس وتشاهد القنوات الفضائية ، التي كانت حكراً علي طبقه معينة من المجتمع في ذلك الزمان ، و امي ايضاً لا اعتقد انها مستعدة لتستقبل اصدقائي و هي التي تمنعني من الذهاب اليهم و توبخني بعنف ان رأتني العب كرة القدم مع احد ابناء تلك الاسرة ، لا ادري ما السبب الذي يجعلها تفعل ذلك ، فبيتنا الكبير يمكن ان يسعنا جمعياً و الطعام الذي عندنا يمكن ان يشبعنا كلنا ، لكن الطعام الذي في بيتنا لم يصنع بحب مثل الطعام الذي في بيت العم ( سالم ) ، يا لقسوتي وتفكيري الاناني ، انهم يقاسمونني زادهم البسيط الذي لا يكفيهم بحب وانا لا استطيع ان اتقاسم معهم وجبة طعام بسبب القيود الطبقية الظالمة التي تسيطر علي عقول المجتمع .
لازلت اذكر ذلك اليوم الذي قفزت الي منزلهم كالعادة ، و وجدت والدة العم ( سالم ) وقد جاءت في ذلك اليوم من قريتهم التي نسيت اسمها لكن اعرف انها من ضمن القري المحاصرة و التي تتلقي نصيبها من القصف بالطائرات الحكومية كل يوم ، بمعجزة الهية تمكنت ( حبوبة ) من الهرب من القرية برجل محروقة بمادة كيميائية جعلت قدمها بعد ان شفيت من الحروق، متورمة ومتضخمة ، وشبه عاجزة عن الحركة الا بمساعدة عصا تتوكأ عليها، وما زلت اذكر ( سفنجتها ) مربوطه بقطعه قماش في أسفل قدمها حتي تظل ثابته ولا تنزلق اثناء تحركها .
لماذا ؟ لماذا تقوم قوات بلادي بقتل الابرياء من المدنين والعزل ؟، دار هذا السؤال في مخيلتي و انا لم ابلغ الثانية عشر من العمر في ذلك الزمان ، تذكرت في تلك اللحظة ذلك البرنامج السخيف الذي يتابعه اخي الاكبر ( ساحات الفداء ) و عرفت ان اخي مخدوع مثل الكثيرين ، وأن الأبطال الذي يحاول ذلك البرنامج تسويقهم ، ليسوا سوي سفاحين وقتلة مأجورين ، و الدليل الماثل امامي هو هذة السيدة التي كانت اكثر سكان تلك القرية حظاً و خرجت من تلك القرية التي قُتل أغلب سكانها، عندما نجت هي بمعجزة آلهية .
لم يكترث احد منهم بوجودي معهم في ذلك اليوم ، ولم يقم احد بمداعبتي او تبادل اطراف الحديث معي فقد كانت صدمتهم اكبر من كل شئ عندما عرفو انهم صاروا بلا أقارب ، فكل افراد شجرة العائلة تم احراقهم وقتلهم بواسطة طائرات النظام الاسلامي . عقلي الصغير يكاد ينفجر فهؤلاء ايضاً مسلمون و ( حبوبة ) رغم آلامها مازلت تصلي بخشوع رغم ان ذلك البرنامج السخيف يعلن ان هذة الحرب هي لنصرة الاسلام ، لم يستعوب عقلي الصغير هذة التناقضات ، جلست علي الارض و تقافز الدمع من عيني ، لم استطع ان اخبر احد بما اشعر به ، لم أتوقف عن البكاء الا في حضن خالتي ( مستورة ) التي طلبت مني العودة الي المنزل ، لان الوقت قد تأخر . عدت للمنزل و لم اتكلم مع احد من اخوتي او امي او ابي لكن قررت ان أضع حد لأكاذيب النظام ، وقمت بكسر التلفاز حتي لا يقوم ذلك البرنامج اللعين ببث الاكاذيب داخل منزلنا ، و خداع اخي الاكبر . قامت امي بتوبيخي ، و عند منتصف النهار كان عندنا تلفاز أكبر و أكثر حداثه من التلفاز السابق .
……. يتبع

Print Friendly, PDF & Email

عن laalaa

شاهد أيضاً

أصدر تحالف قوى الاجماع الوطني احد مكونات قوى الحرية والتغيير بيانا،انتقد فيه الميزانية التي اجازتها الحكومة الانتقالية

Share this on WhatsApp#الهدف_بيانات أصدر تحالف قوى الاجماع الوطني احد مكونات قوى الحرية والتغيير بيانا،انتقد …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.