الأحد , أبريل 28 2024
ardeenfr
أخبار عاجلة
الرئيسية / أخبار لالا اليومية / *الجنرال جيمس أجونقا ماوت* *وجه الجنوبي المضيء*

*الجنرال جيمس أجونقا ماوت* *وجه الجنوبي المضيء*

ياسر عرمان

للجنوبي وجهان مثل القمر مضيء ومظلم، وكالات الأنباء العالمية ودعاية أنظمة الخرطوم سرعان ما تصطاد وجهه الذي تريد في أزمنة الحرب، على مدى نصف قرن أو يزيد، وأنظمة الخرطوم حينما تبرز وجه الجنوبي الذي تريد تبرز وجهها في صورة الجنوبي، وتخطيء عمداً وجهه المضيء، وجه الجنوبي قمر وثورة، تمرد وحروب، تجاهلت أنظمة الخرطوم الجنوبي حينما قاتل من أجل وحدة السودان لأنه يريدها جديدة، وأعلن الجنوبي رغبته في الوحدة صراحة على لسان قائده، تدلفنت وكالات الأنباء الدولية التي تمثل مصالحها لا مصالح الجنوبي، واختارت لازمة جديدة تطلقها لتوصيف الحرب والجنوبي (المتمردين الجنوبيين المسيحيين، الذين يقاتلون الشمال العربي المسلم) ثنائيات المثلث الكولونيالي كما أسميتها.

والجنوبي صاحب البدايات الجديدة في ١٦ مايو ١٩٨٣م في بحثه عن التحرير والثورة والوحدة على أسس جديدة  في سماوات رؤية السودان الجديد، انطلق الجنوبي من بور من مجتمع ما قبل الرأسمالية والتشكيلات الطبقية الحديثة، حينما أراد السعي نحو التحرير لم يكن بإمكانه الخروج من جلده الي رحابة المكان والفكرة الجديدة خارج النسق تماماً، فكيف له الخروج والتركيبة الاجتماعية هي ما قبل الطبقات، وحينما ختم الجنوبي جواز الخروج صدمته القبيلة والفساد والحرب، ووجهان وجه الدولة التي يحاربها، ووجه المصالح الخارجية، وكان الجنوبي يتكئ على مجتمع ما قبل الطبقات وما قبل التشكيلات الحديثة، ولأن قرنق مبيور كان وما يزال فأتكئ الجنوبي على فكرة السودان الجديد أحياناً، وعلى حدود الجنوب تارة، وعلى القبائل والتحيزات المحلية مرات، ولكن الجنوبي كان دائما مشبعا بالحيوية، وزاد المقاومة ولا يزال.

إن صورة الجنوبي التي ترسم الان لا تتعدى (الحرب والقبلية والفساد) وهي الصورة الذهنية التي رسمها خصوم الجنوبي الذين أكتفوا بملامسة السطح دون الغوص في الاعماق، وهي صورة ظاهرياً صحيحة، ولكنها قاصرة، ولأن للجنوبي الذي في خاطري صورة أخرى لا تتوقف عند عتمة وجهه الاخر، وتفسح الطريق الي وجه الجنوب المضيء بالتضحية وحب الحياة والنهوض والقيام من الركوع والقيم النبيلة والبدايات الجديدة  من رماد وبارود ونار.

وجه الجنوب المضيء ليس من صنعنا بل من صنع الجنوبي نفسه من دماء الضحايا في أطول حروب البلاد منذ ١٩٥٥م الي ٢٠١٨م، مع هدنة مبعثرة لا تدوم طويلاً.

في دنيا النزوح واللجوء الطويل وفي معسكراتها التي أمها الجنوبيون لم تنتشر الجريمة او المخدرات او الدعارة، بل بحث الجنوبي في ثنايا الحرب ومشاقها عن ما يسد رمق الحياة ويرتق نسيج الاسر ومن وسط الحرائق أنشأ مدرسة للأطفال الصغار ولذا فإن حب الجنوبي فرض عين.

في يوم الجمعة ٢٠ ابريل  ٢٠١٨م صحوت عن الفجر وراجعت الرسائل النصية الواردة في الهاتف في تطبيق الرسائل الفورية (واتساب)، ثم أغلقت الهاتف فكرت في قضايا اليوم قليلاً وفيما مضى وما سيأتي حتى زارني النوم مرة اخرى وهو أحياناً صديق جافي، وفي بادية الصباح رجعت للهاتف مرة أخرى تكدست رسائل عديدة للأصدقاء ورأيت إن معظمها لأصدقاء من جنوب السودان فقلت ماذا حدث في الجنوب في هذا الصباح؟ اتت الرسائل من رفاق قدامى ينقلون لي خبر رحيل الجنرال جيمس أجونقا ماوت رئيس هيئة اركان قوة دفاع جنوب السودان، فقد أسلم الروح الي بارئها عند نهايات النيل في العاصمة المصرية القاهرة، والنيليون غالباً ما يتخذون اتكأتهم الأخيرة على ضفاف النيل، منذ مروي ونبتة وطيبة في مصر القديمة.

قبل أسبوع من رحيله أطلعت على اخبار من معارضين لحكومة جنوب السودان مبتهجين بإن الموت قد غيب أجونقا ماوت، إنقبضت لهذا الخبر ثم سرعان ما نشر أحد أفراد أسرته صورة له من داخل المستشفى يطمئن الناس على إن أجونقا ما يزال، وسعدت بتلك الصورة لأن أجونقا ماوت صديق ورفيق عزيز وتمتد معرفتي به لسنوات الحرب الطويلة وهو ليس بالشخص العادي، بل جنرال حقيقي خاض الحروب ولم تنل منه، وأجونقا ماوت أهم من الموقع الذي إحتله عن جدارة.

انضم أجونقا ماوت الي الحركة في عام ١٩٨٤م وفي رواية أخرى في العام ١٩٨٣م، وبذا فهو من جيل المؤسسين للحركة والجيش الشعبي، وقد درس بمدرسة رومبيك الثانوية، وهو من أوائل أبناء وبنات بحر الغزال الذين إنضموا للحركة وينحدر من قومية (الجورشول) التي تنتمي لمجموعة (اللوا) وهي تمتد في السودان وكينيا ويوغندا، وقد إنضم العديدين من مثقفيها للحركة الشعبية منذ البداية، وهي نفس القبيلة التي ينحدر منها الشهيد جوزيف قرنق أوكيل، وأجونقا تربطه صلة الدم بقبيلة الدينكا، ووالده سلطان بن سلطان، وخاض جيمس أجونقا معارك عديدة طوال سنوات الحرب وشارك في تحرير مناطق عدة في بحر الغزال، وأسندت له مهام عسكرية شديدة التأثير ومن ضمنها معارك مدينة واو وما حولها، وعرف أجونقا ماوت بصفات نادرة هي ما دعتني للكتابة عنه، وقد كتبت هذه المقالة في شهر ابريل الماضي عند رحيله، وهأنذا اعود اليه مجدداً، فرحيله خسارة للحاكمين والمعارضين في جنوب السودان على ضفتي الساحل، وغيابه اتى في وقت كم يحتاج لأمثاله جنوب السودان، ولأسباب سنأتي على ذكرها.

جيمس أجونقا ماوت انسان عالي التهذيب، ومتواضع لا يلفت الأنظار اليه في طريقة أداءه وهو على عكس معظم ضباط الجيش الشعبي لتحرير السودان الذين عرفوا بالاهتمام بمجريات السياسة اليومية ولاسيما في اضيق حدودها البحث عن السلطة والصراع من اجلها، كان أجونقا ماوت اكثر ضباط الجيش الشعبي مهنية، وبالكاد يجهر بآرائه السياسية، وذو ولاء صميم للمؤسسة التي انتمى لها، وهي واحدة من اسرار نجاحه، وجيمس أجونقا ماوت يكاد يخلو سجله من العداء، وطوال سنوات خدمته لم يكن في عين أي من العواصف التي شملت الكثيرين، وحظي بحب الجيش الشعبي وقوميات الجنوب المختلفة، فهو بحكم نشأته إعتبره (الدينكا) جزءاً منهم وكذلك قوميات بحر الغزال الأخرى، وبالإضافة للغة (الجورشول) يتحدث لغة (الدينكا) بطلاقة، وامتدت صداقاته الي كل ارجاء الجنوب، وامتدت يده احياناً شمالاً، ويحظى بالقبول في تنوع الجنوب المعقد، ولو أن أجونقا ماوت تسلم مهامه في رئاسة الأركان في أزمنة غير التي يمر بها جنوب السودان لتوج كبطل وطني لكافة القوميات، ولكن في المقام الاخر فإن قوات دفاع جنوب السودان كانت تحتاج شخص مثله، لأن الجنوبيين بعد نهاية الحرب سيحتاجون لبناء جيش وطني يمثل تنوعهم وتعددهم، وحينما يتم البحث عن إنسان مؤهل ومهني لهذه المهمة فإن أعينهم لن تخطيء أمثال أجونقا ماوت، وهنا تكمن الحسرة والاسف على رحيله في هذا الزمان العصيب.

تولى وليم نيون وسلفاكير ميارديت ووياي دينق أجاك وجيمس هوث ماي وبول ملونق أوان رئاسة اركان الجيش الشعبي، ثم تولاها جيمس أجونقا ماوت في مايو من العام الماضي، ومضى أقل من عام على توليه مهامه ولم يغادر مهامه فحسب بل غادر الحياة، وحينما تولى منصبه أرسلت له عدة رسائل مع أصدقاء مشتركين ومع بعض اقاربه الذين جمعتني بهم تقاطعات الحياة، ذكرته بالمهمة النبيلة في إعادة بناء القطاع الأمني وجيش جنوب السودان على أسس مهنية يحتاجها الجنوب أثناء وبعد الحرب، وتعكس تركيبته المعتقدة، وذكرت له إن اختياره هدية من السماء الي أهل الجنوب، وإنه يتحلى بميزات قل ما أن توجد، وشعرت بالحزن على رحيله المبكر، أجونقا ماوت إنسان جميل مظهراً وجوهراً، ونحن الذين تعرفنا عليه لم نغفل مؤهلاته وميزاته وقد انتزع احترام الجميع.

دفع الجنوبيين ثمن أحلامهم عداً ونقداً من دماءهم، وما يهمني عند الحديث عن أجونقا ماوت ليس محاكمة تجربة الجنوب، فما للجنوب متروك للجنوبيين أنفسهم، ولكني ما يهمني هو الاحتفاء بالجنرال جيمس أجونقا ماوت كوطني جنوبي مخلص خدم جنوب السودان بشرف وانتماء عالي، والقيم التي مثلتها صفاته النادرة.

اخر مرة التقيت بها جيمس أجونقا قبل سنوات حينما ذهبنا معاً بطائرة خاصة برفقة رئيس هيئة الأركان الأسبق جيمس هوث لأداء بعض المهام، وأمضينا معاً ثلاثة أيام، اقتربت فيها اكثر من عالمه المتزن، واستمعت لآرائه في الكثير من القضايا ذات الأهمية في ذلك الوقت، وهو مقتصد في الكلام ولا يبتدر الحديث، لم التقيه مرة أخرى الا لقاءاً عابراً في بهو احد الفنادق بأديس أبابا، تبادلنا التحايا بحرارة رفقتنا القديمة حينما كنا ننتمي الي بلاد واحدة، ورغم اننا لم نعد كذلك ولكن حرارة اللقاء لا تزال كما هي بالرغم من برودة طقس أديس أبابا. سيفتقد كثير من الجنوبيين أجونقا ماوت ربما حتى الغاضبين عليه سيدركون فقده حينما يحتاجون لمواصفات مثل مواصفاته.

مثلما انضم جيمس أجونقا ماوت للحركة الشعبية مبكراً في عام ١٩٨٣م، غادرها كذلك مبكراً بعد اقل من عام من اختياره رئيساً لهيئة اركان قوات دفاع جنوب السودان، وبين تاريخي الوصول والمغادرة خدم بشرف وكرامة في رحلة ذات بريق ومعنى وأشواك، وله سجل ناصع في حرب التحرير ولم تعرف عنه النزعة القبلية، وهي صفات يحتاجها جنوب السودان لبناء جيشه الوطني، وقد اكتشف قدراته في وقت مبكر دكتور جون قرنق دي مبيور وحظي أجونقا بثقة قرنق وسلفا، وكان اختياره لرئيس هيئة الأركان اختياراً صحيحاً وموفقاً رغم إنه كان في وقت شائك ومعقد، حتى بالنسبة لأجونقا نفسه الذي لم تسعفه صحته في رحلته الجديدة، إن الوقت لم يكن مناسباً لرحيل أجونقا ماوت، ولكنها كانت إرادة خالق الأرض والسماء.

سيحزن الكثيرون عليه مثلما سيحتفل آخرين بحياته والعزاء لأسرته وأهله ورفاقه وأصدقائه، وقد كان من حسن حظي أن أديت واجب العزاء لزوجته عبر الهاتف حينما ذهبت زوجتي لعزائها.

أزمنة الحروب لا تقبل جوابي الأراضي الباردة وذاكرتها تحتفظ بالشجعان والشهداء نساءً ورجال، وقد كان أجونقا ماوت إنساناً شجاعاً خدم ببسالة وشرف وتواضع رفض الموت ان يقابله وجهاً لوجه في ساحات الوغى وتسلل الي سريره حينما غفا في رحلته الأخيرة على ضفاف النيل مستشفياً، ولإن الحياة كانت دائماً دون قضية لعنة، فسلام على أجونقا ماوت عند اللقاء وعند الرحيل.

03 أكتوبر 2018م

 

Print Friendly, PDF & Email

عن laalaa

شاهد أيضاً

حزب المؤتمر السوداني تصريح صحفي

Share this on WhatsAppحزب المؤتمر السوداني تصريح صحفي طالعنا البيان المؤسف الصادر من سكرتارية اللجنة …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.