استلمت من الباحثة الاجتماعية المسئولة عن ملفي ، الخارطة والتذاكر الخاصة بالباص (32) وطلبت مني التحرك باكرا” للذهاب (للبرفكتور ) ، لتغيير عنوان السكن ، فقد تم نقلي لمدينة (روان) وعلي تغيير جميع مستنداتي ، ووجدت نفسي أحمل خارطة عليها العناوين والاتجاهات ، وبعضا من الكلمات ، وإشارات باللغة الفرنسية التي لا أجيد منها سوي بعض العبارات الترحيبية ، والشئ الوحيد الذي اعلمه من هذه الخارطة نهاية مطافها وهي مدينة (روان).
وانطلقت باكرا والضباب يغطي الأفق ، في رحلة البحث عن ذاك المجهول بريكفتور مدينة (روان) وكان الضباب يحمل في ثناياه دعاش ، ورزاز ، وامطار تتساقط لتبلل تلك الخارطة اللعينة التي احملها ، وانا باحثا عن من يدلني لمحطة الباص المتجه لتلك المدينة ، وجميع مواطني القرية يتسابقون لأعمالهم ، والبعض الآخر منشغل بالنظافة ، والطلاب يتدافعون نحو مدارسهم برفقة ذويهم ، وكلما اوقفت احد انطلقت حنجرته بعبارات الترحيب التي هي من الضروريات للمجتمع الفرنسي والحمدلله انها من ضمن الكلمات التي اعرفها وبعد ذلك امنحه الخارطة ويبدأون كالعادة في توجيهي ، وانا اراقب حركات يديهم فما يقولونه لا افهمه ، ولكني أحاول ان لا اشعرهم بذلك ، حتي وصلت محطة باص صغيرة يقف فيها مجموعة من الفرنسيين ، وعقلي يدور بالهواجس ، وأتسأل هل هي المحطة المقصودة أم لا ؟ وبدأت انظر فيمن حولي ، ربما أجد واحدا” من المغاربة أو الجزائريين ، كي أساله حتي وقع نظري على تلك الشقراء الحسناء التي تتوسط الفرنسيين وهي تقف شامخة ، وبريق عيونها الخضراء الزجاجي ينعكس من كل الجوانب ، ويتلألأ من فرط جماله ، وشعرت بها ايضا تتلصص لتنظر لذلك الغريب ، فتقدمت نحوها وانا احمل الخارطة بلا إستأذن حتي شعرت بانني إقتحمت خصوصيتها فبادرتها بترحاب إيذانا بقبول خدمتي ، وتمعنت فيها واي تمعن هو ؛ وانا أنظر لشعرها المذهب الذي تغني به الشعراء وهو يتهدل علي جبينها لتزيحه بيدها فيبرز ذاك الوجه الصبوح الناير ، التي لم تتركني اتشبع في مشاهدته فشرحت لي طريقي بلا إشارات كما تعودت من السابقين ، ولكنها حقيقة مختلفة منهم فشفاها تتحرك وكأنها تغني ، لقد كانت من النوع الذي يتحدث بعيونه ، ويشرح بملامح وجهه ، ويا له من وصف ! فقد تبخر من عقلي ، وانا اتمعن ذاك البهاء والجمال الذي يسر النفس ، حتي إنشغلت عن كل واجباتي ، ونسيت كل الدنيا وأحسست بأني اشاهد رسمة تمنى رسامها ، أن تكون بهذا الشكل من الروعة ، وعذوبة صوتها تغرد في اذناي لتبرز جمال اللغة الفرنسية التي امقتها ، لكن من فمها لها طعم آخر ، وعندما انتهت من حديثها توقفت تنظرني فقلت لها : بالانجليزية انا لا اتحدث الفرنسية ، ولكنها ايضا لم تفهم عبارتي فهي لا تجيد الانجليزية ، فشرح لها احد الموجودين بقربنا ، فضحكت ، وهي تنظرني وانا مشدوه في هذا الكائن السماوي ( سبحان المصور) فطبقت الورقة بهدوء واحسست في تلك البرهة بانها ستزجرني لأنني اضعت وقتها في الشرح ، وكان على أن أخبرها من البداية بعدم معرفتي باللغة الفرنسية ، وفجاة وجدت عيونها ترمقني بنظرة غريبة وهي تفكر وتقدمت نحوي بخفة وقبضت يدي اليسري ، فسلمتها لها ، وتأبتطها وسحبتني مثلما يسحب العريس عروسه في ليلة زفافهما ، واستسلمت لها وهي تلتصق بي بعد ان تأبطتني ووجهها يبتسم ، وتطلق بعض الكلمات الفرنسية تطالبني بالتحرك بسرعة أكبر والجميع ينظرني حتي احسست بالحسد يلمع في عيونهم ، وجسمها الممشوق يلاصقني ، ويدها الناعمة كالحرير تمسك بيدي ، ولا اكأد اتنفس ، واحاول ان ابتعد بقدر مناسب خوفا من سماعها لأصوات خفقات قلبي العليل ، ونحن نسير متجاورين ملتصقين ، وتمنيت لو كان هنالك واحدا” من اصدقائي ليلتقط لي صورة توثيقية لتكون تاريخا لعهدي الحديث ، وهديل خطواتها الممشوق يحتك بالأرض كأنها مهرة عربية أصيلة ، فيشعرني ذلك بحوافر ، وصهيل سيوف ومعارك تدور ، ولا يزال( صلاح الدين) يعلمنا باننا هزمنا، فقد اخذ ( ريتشارد ) قلب الأسد معه الإستبارية والفلامنكيين ، وترك لنا الهيكل بلا بنيان ، فاتينا منكسرين مرة اخري لننتصر ، لم يتركني الزمن اتسامي ، وأعيش خواطري فاشاهد مستقبلا للبطارقة ، والقساوسة ، فأسقط في الصبغة التي اعمت طلاسم التمدن والتدين لواقعنا ، حتي وجدت نفسي أقف في محطة باص أخري لا أدري كيف اشكرها ؟ بعد ما رأيت العلامات والأرقام متشابه مع الخارطة التي احملها ، فعجز لساني من الكلمات الانجليزية حتي انا لم افهم ماذا قلت ! فسحبتني وشعرت بوجهها يقترب من وجهي وعرفت انها تريد ان تقبلني القبل الفرنسية المعلومة لهم المجهولة لشخصي ، والتقت خدودنا بلمسات حانية تعكس اصطدام قطار بسيارة صغيرة ، وصاحبتني رعشة حركت في اعماقي مواجع مخزونة ، وبثت شيئا لم احسسه الا في عالمي الذي احلم به ، وانا اقف انظرها بعد ما اعلنت نداء الوداع الاخير بإبتسامة البشاشة ، والروعة . وعادت من حيث أتت ، وتوارت خلف المباني ، وتركتني وافكاري تتساقط كأوراق الأشجار التي عصف بها الشتاء القاسي ، لقد ظننت عند مشاهدتها للوهلة الأولي انه الحب ، وانني مغرم بها حتي الصبابة ، ولكن نبهني صوت الباص الي حضوره ، وبدأ الجميع في الصعود . فنظرت للخارطة التي احملها فمزقتها ورميتها في سلة المهملات ، وإنطلقت عائدا للمبني الذي اتيت منه ، حتي التقيت بالباحثة الاجتماعية المسئولة من اجراءاتي وجلست صامتا انظرها ، فقالت لي ببشاشتها المعهودة : لماذا لم تذهب (للبرفكتور) ، فقلت له: لقد فقدت الخارطة وتاخر الوقت سوف أذهب غدا” .
فطبعت لي خارطة أخري وعدت لغرفتي ، لأستعد ليوم غد، وابدأ من نفس المحطة علني أراها …
Ghalib Tayfour