السبت , مايو 4 2024
ardeenfr
أخبار عاجلة

قصة أُسرة

وعينا على هذه الدنيا ونشأنا على هذا الاسم الذى فُطمنا عليه منذ أن أبصرت أعيننا النور، لم نتمرد عليه لأننا شربنا منه الأخلاق الفاضلة والصفات السمحة على يد مربٍ فاضل أفنى كل حياته لهذا الحزب العريق، ونحن صغارٌ ترعرع فينا حب هذا الحزب، فعملنا لأجله بكل تفانٍ ونكران ذات، كُنا نرى ذلك في والد حرم نفسه وأسرته من كل مباهج وبهرجة الحياة من ترف وغيره، واهباً نفسه لمهنة أحبها وحزب عشقه حتى الثمالة.
ونحن صغار كانت والدتنا وما زالت لا تعشق السياسة ولا ميل لها بها، لكنها كانت تمنحنا بصبرٍ الحب والحنان، عانت في تربيتنا وتحملت كل مشاق الحياة والمعاناة التي تجسدت في دواخلنا بغياب الأب الدائم في السجون والمعتقلات، ونحن صغار لم نعش حياة طفولة كسائر الأطفال، ولم نهنأ بوجود الأب، بل كان الخوف من فقدان والدٍ أحببناه جليساً لنا، لكن كُنا دائماً نفتقده، ونحن صغارٌ كان الخوف يسكننا. كنا دائماً نترقب طرقات الباب لنجد العشرات يداهمون منزلنا ويتوزعون في أنحائه، يعبثون بمحتوياته. ويكون السكون والرهبة عندنا كأطفال هو سيد الموقف، بل ويرهبنا الخوف وترتعد فرائصنا مما يفعله

قصة أُسرة

قصة أُسرة

وعينا على هذه الدنيا ونشأنا على هذا الاسم الذى فُطمنا عليه منذ أن أبصرت أعيننا النور، لم نتمرد عليه لأننا شربنا منه الأخلاق الفاضلة والصفات السمحة على يد مربٍ فاضل أفنى كل حياته لهذا الحزب العريق، ونحن صغارٌ ترعرع فينا حب هذا الحزب، فعملنا لأجله بكل تفانٍ ونكران ذات، كُنا نرى ذلك في والد حرم نفسه وأسرته من كل مباهج وبهرجة الحياة من ترف وغيره، واهباً نفسه لمهنة أحبها وحزب عشقه حتى الثمالة.
ونحن صغار كانت والدتنا وما زالت لا تعشق السياسة ولا ميل لها بها، لكنها كانت تمنحنا بصبرٍ الحب والحنان، عانت في تربيتنا وتحملت كل مشاق الحياة والمعاناة التي تجسدت في دواخلنا بغياب الأب الدائم في السجون والمعتقلات، ونحن صغار لم نعش حياة طفولة كسائر الأطفال، ولم نهنأ بوجود الأب، بل كان الخوف من فقدان والدٍ أحببناه جليساً لنا، لكن كُنا دائماً نفتقده، ونحن صغارٌ كان الخوف يسكننا. كنا دائماً نترقب طرقات الباب لنجد العشرات يداهمون منزلنا ويتوزعون في أنحائه، يعبثون بمحتوياته. ويكون السكون والرهبة عندنا كأطفال هو سيد الموقف، بل ويرهبنا الخوف وترتعد فرائصنا مما يفعله أولئك.
لم نكن نفهم لماذا يحدث كل هذا؟ كُنا دائما أثناء وجودهم ننزوي في أحد أركان المنزل والدموع تتقطر من أعيننا خوفاً، لم نكن نفهم لماذا وماذا يحدث؟ كُنا نشاهد أبي وعلى يمينه ويساره أشخاص لا يتركونه يتحرك، لحظات من الزمن لا أستطيع وصفها سوى بالخوف والارتجاف الذى كان يتقمص أجسادنا أنا وإخوتي، كنت أرى الحزن والدموع في عيني والدتي، كُنا نتساءل لماذا يأتي هؤلاء دائماً لمنزلنا فقط من غير المنازل التي حولنا وبينما تدور هذه التساؤلات كنت أراهم يأخذون بعض الأشياء ويذهبون ومعهم والدي، يتركون لنا المنزل في حاله يرثى لها من الفوضى، يأخذون والدي إلى المجهول، نعيش أياماً وأسابيع وشهور والدمع هو صديقنا، وأمي كانت هي الصابرة التي تروينا بحنانها كانت هي المنفذ الذي تمنحنا الطمأنينة وهي الضوء الذي ينفذ إلى دواخلنا، أبي نفتقد وجوده معنا، نفتقد حنانه نفتقد (لمة) الأسرة، يأخذونه ولا نعرف إلى أين.. ولماذا يفعلون معه ذلك، ومتى سيعود؟
أذهب إلى المدرسة وفى أثناء الحصة تتقاطر الدموع من عيني تسألني المُدرسة وزميلاتي: لماذا الدموع ؟؟ فتكون إجابتي من أجل والدي، فيكون السؤال: وماذا به والدك؟ أقول لهم ببراءة الأطفال: والدي في السجن وأنا أفتقده، كنت أجد بينهن من تضحك أو بعضهن يسخرن، وغيرهن يستهزأن بي. كنت أسمع همس بعضهن: والدها في السجن، كانوا يبتعدون مني وكنت لا أستطيع الدفاع عن نفسى لأنني أعرف أن السجن للمجرمين ولكن كنت أتساءل: وهل أبي من هؤلاء المجرمين؟؟
كنا نزوره في السجن، كنت أجرى لأعانقه طيلة الفترة التي كُنا نقضيها معه كنت أكون ملتصقة به، كنت أخاف لحظة نهاية اللقاء. كنت أراه قوياً صامداً كالجبال، لم أره قط في يوم ما مهزوزاً. كانت الابتسامة لا تفارق شفتيه، تمر اللحظات بأحاسيسها لنبحث عن غيرها.
كبرنا وفهمنا أن هذا الإنسان.. هو التفاني.. هو الإخلاص.. هو الوفاء.. هو الصدق.. هو النقاء.. هو الإنسان الشيوعي، كبرنا وبدأ وعينا يتشكل وفهمت أن قضية والدى هي (قضية وطن).. قضية انتماء.. قضية عشق.. قضية أمل.. قضية مستقبل سيتحقق بكلمة (شيوعي). هذه الكلمة تربعت في أعماقي وكانت تمدني بالقوة والإيمان لإنجاز المستحيل، أصبحت أفتخر بوالدي أمام أصدقائي وصديقاتي، وكنت أرفع هامتي بينهم وأقول والدي اعتقلوه لأنه (شيوعي). كان هذه الكلمة (كبيييييييرة) في معناها، لم يكن يحكي لنا قط عن معاناته ولكن كُنا نراها في جسده الذى بدأ يتآكل داخل المعتقلات وبدأ المرض ينهش جسمه.
ولكن كل هذه المعاناة لم تجعله يتخلى عن مبادئه، بل ازداد تمسكاً بها وثباتاً على ما آمن به. أحياناً كُنا نذهب لزيارته، ولكن لا نجده لنعرف أنهم قد نقلوه إلى سجن آخر خارج الخرطوم لا نستطيع الوصول إليه أو رؤيته. ونبدأ في البحث مرة أخرى ونجتهد في الاتصالات ومعرفة مكانه. كان حجم المعاناة يزداد بمرضه وحاجته للعلاج والدواء، وهو داخل السجون والمعتقلات لم يهنأ بأسرته وأطفاله ولم   يهنأوا به حتى ذهب إلى عالم آخر وتركنا لنعيش باقي فصول المأساة والمعاناة، وكنا في أشد الحاجه لوجوده .
في آخر خطاباته من المعتقل وكأنه كان يشعر بدنو أجله كان يقول لنا لم أترك لكم شيئاً في هذه الدنيا غير الحزب، تركت لكم الحزب الشيوعي السوداني فيه ستجدون الأمان والوالد، وذهب إلى دنيا أخرى، حتى جثمانه لم يجد حرمة الموت بل اًحضر من السجن وترك في فناء المنزل تحت لهيب الشمس، حتى حضرت والدتنا فجأة لتجده جثة هامدة. صرخت وتوافد الجيران والأهل ووري جثمانه الثرى.
قليلة هي اللحظات التي كُنا ننعم فيها بالاستقرار الأسري، لأن معظم حياته كانت إما في المعتقلات داخل السجون أو الفصل من العمل. وبعد وفاته بدأت فصول المعاناة تأخذ شكلاً آخر لأننا كُنا قد فقدنا الأمان، فقدنا العائل والملاذ، لكن كُنا قد تعلمنا الصبر الصمود وأدمنا المعاناة، وتعلمنا كيف نواجه الصعاب وكيف نكون أقوياء ونطرد الضعف، عشنا الألم والمآسي بكل فصولها، لكن بالإصرار تحدينا المستحيل وتجاوزنا الصعاب، وبالإصرار اجتزنا كل العوائق والعقبات.. ونجحنا. وأخذنا طريقنا في الحياة، بالرغم من كل شيء لم نفقد إيماننا بالحزب، بل كان هو الدم النابض في عروقنا.

ونواصل..
منى عبد المنعم سلمان

Print Friendly, PDF & Email

عن laalaa

شاهد أيضاً

الحزب الشيوعي السوداني سكرتارية اللجنة المركزية

Share this on WhatsAppالحزب الشيوعي السوداني سكرتارية اللجنة المركزية بيان فيما تحتل جماهير شعبنا الشوارع …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.