الخميس , مايو 2 2024
ardeenfr
أخبار عاجلة
الرئيسية / أخبار لالا اليومية / تجربة الإسلام السياسي فاشلة وأودت بالبلاد إلى التهلكة

تجربة الإسلام السياسي فاشلة وأودت بالبلاد إلى التهلكة

لمفكر اليساري البارز د. الشفيع خضر

تجربة الإسلام السياسي فاشلة وأودت بالبلاد إلى التهلكة

الديانات والمعتقدات لا تخضع لمعيار وقانون الأغلبية والأقلية

(ملتقى نيروبي) عادي جداً وهدفه خلق أرضية فكرية بين الأضداد

مفهوم الدولة المدنية له جذور ضاربة في عمق التراث والفكر العربي الإسلامي

العلاقة بين اليسار واليمين في السودان ليست كلها صراعات

قواعد التيار الإسلامي كانت تحلم باقامة (المدينة الفاضلة)

مفهوم اليسار حالياً متخطي لليسار الكلاسيكي

التزاوج بين مجموعات التماس سينتج أجيالا تحترم التعايش

انفصال الجنوب سياسي وليس انفصال في الوجدانيات

ينحو  المفكر اليساري البارز، والكاتب المرموق، وعضو اللجنة المركزية السابق بالحزب الشيوعي السوداني،  د. الشفيع خضر منحى وسطاً حيال الجدال الدائر حول مفهوم الدين والدولة، وذلك رغماً عن اعترافه صراحة بأنه مع فصل الدين عن السياسة.

ويقول عضو اللجنة المركزية للحزب الشيوعي السابق، في حواره مع “الصيحة”  إنه لا يمكن تسييس الدين لصالح الأجندة والمطامح الشخصية للباحثين عن السلطة والجاه بأي ثمن، كما ولا يمكن قبول أن تستأسد فئة بإسم الدين لتعطي قدسية لمشيئتها ورؤاها السياسية حتى تفرضها على الآخرين. وفي المقابل نوه إلى أنه يدرك بأن فصل الدين عن السياسة، ليس ضمان كافيًا لسيادة وكفالة الحريات والديمقراطية وحقوق الإنسان والعيش الكريم، مشيراً إلى أن التاريخ يشهد على تجارب علمانية قدمت أسوأ أنواع الديكتاتوريات والأنظمة المعادية لحقوق البشر، بما في ذلك حق الحياة، ومن ثم أعلن انحيازه صراحة للدولة الديمقراطية، التي توفر فرص المشاركة العادلة في السلطة والتوزيع العادل للموارد والثروة، في ظل حاكمية والقانون، ومظلة المؤسسات، في ظل احترام تام لحقوق الإنسان.

حوار : الهضيبي يس

1- لماذا يستمر الخلاف والجدل حول علاقة الدين بالدولة؟

بصراحة إستمرار الجدل سببه التيار الإسلامي. لأن كل تيارات الحركة السياسية السودانية الأخرى، بما فيها التيارات ذات المرجعية الإسلامية، كالأمة والإتحادي، قطعت شوطا معتبرا في إتجاه حسم طبيعة هذه العلاقة في مؤتمر أسمرا 1995، وطبعا التيار الإسلامي الحاكم لم يحضر ذلك المؤتمر. عموما القضية ظلت دون علاج نهائي منذ فجر الإستقلال، شأنها في ذلك شأن القضايا الأخرى، المصيرية والتأسيسية للدولة السودانية، وأعني قضية الهوية وقضيتي المشاركة العادلة في الحكم والتوزيع العادل للموارد والثروة. وكل هذه القضايا سيستمر الجدل والخلاف حولها، ولا يمكن أن تحل حلا ناجعا إلا عبر مشروع وطني مجمع عليه. أما أن ينتفض هذا الفصيل أو ذاك ليفرض رؤاه الخاصة حول هذه القضايا، سواء بإسم القداسة أو الثورية، فلن يحصد الوطن سوى الإحتراب، مثلما هو حالنا اليوم حيث إستوطنتنا الحرب الأهلية، وإستوطننا القصور والتخلف في كل المجالات.

2- لكن، إلى متى سيستمر هذا الخلاف وهذا الجدل؟

إلى أن تتم مساومة ما بين أنصار الخيار الإسلامي وأنصار الخيار المدني والعلماني، وهذه لا يمكن أن تتأتى إلا إذا تخلى كل منهما عن المواقف القطعية التي تزعم أن الحقيقة معه وحده دون الآخرين، وإمتنع كل منهم عن تخوين الآخر وتكفيره، وتوقف عن التعامل معه بإعتباره مجرد بٌغاث طير، لا شريك أصيل في الوطن على قدم المساواة.

3- هل المسألة لها علاقة بالنخب؟

طبعا، بل هي إنعكاس لفشل النخب، خاصة القوى المدنية والعسكرية التي ظلت في الحكم منذ فجر الإستقلال، والتي لم تركز إلا على مسألة بقائها في السلطة، وأهملت الأهم المتمثل في التصدي لتلك القضايا المصيرية والتأسيسية، ومن ضمنها قضية علاقة الدين بالدولة، فظلت هذه القضايا دون علاج شاف، أو قدمت لها معالجات خاطئة.

4- هل يمكننا إعتبار علاقة الدين والدولة هي جوهر الصراعات في السودان؟

هي مفصل رئيسي من مفاصل الصراع وإحدى تجلياته لكنها ليست جوهره. وأعتقد إذا حاولنا تصوير جوهر الصراع السياسي والإجتماعي في السودان وكأنه صراع بين الإسلاميين من جانب، ودعاة فصل الدين عن السياسة من جانب آخر، سنجد صعوبة بالغة في تفسير الحرب الأهلية في دارفور المسلمة، وتفسير مطالبات وإحتجاجات أهل السدود واصحاب الاراضى فى مشروع الجزيرة، وإحتجاجات أهل الشرق، والإختلافات البينة بين أنصار التيار الإسلامي وأنصار كل من مولانا الميرغني والإمام الصادق المهدي، واللذين لا يمكننا المزايدة على إسلامية أي منهما. إن جوهر الصراع في السودان هو حول كيفية تحقيق المشاركة العادلة في السلطة والتوزيع العادل للموارد والثروة، وكيفية التأسيس لدولة المواطنة الديمقراطية، ودولة المؤسسات والقانون وحقوق الإنسان. ياخي بإختصار كده، ما هو الهم الرئيسي عند المواطن السوداني البسيط؟ هل هو توفير العيش الكريم، أم مصدر التشريع في الدستور؟ وإذا كان هذا المواطن يعاني الفاقة والفقر والمرض وموت أطفاله والشعور بالظلم والقهر، وفي نفس الوقت يرى الآخرين يرفلون في نعيم الدنيا، هل سيكون راضيا مسلما بقدره لمجرد النص في الدستور على أن الشريعة الإسلامية هي مصدر التشريع، وأن الدولة إسلامية؟ هل ما يهمه هو شكل الحياة وانماط المعيشة اليومى والقضايا المجتمعية، أم الجدل والصراع حول إسلامية أو مدنية وعلمانية الدولة؟… أعتقد أنها أسئلة تحمل في طياتها إجاباتها الواضحة والبسيطة.

5- لكن الإسلاميين ينطلقون من قاعدة قوية أساسها أن الأغلبية الساحقة من السودانيين مسلمون؟

ولكن ياخي المسألة لا علاقة لها بالدين، نحن نتحدث عن سياسة، عن توفير قوت الناس ورعاية مصالحهم، ولا نتحدث عن تعليمهم الفقه والعبادات وفرائض الوضوء…  المعتقدات والديانات، ويشمل ذلك الإسلام والمسيحية والمعتقدات المحلية، أو الديانات الأفريقية، كما هو الحال عندنا، لا ولن تخضع لمعيار وقانون الأغلبية والأقلية. ومن هنا شرط التسامح والاحترام في المعتقد الديني كمقدمة للمساواة في المواطنة، وبالتالي العيش والتعايش في كنف الوطن الواحد. والسودان، على تعدد أديانه ومعتقداته، إتسم تاريخه بسيادة روح التعايش والتسامح الديني، إلا في محطات قليلة أبرزها عندما فرض المخلوع نميري قوانين سبتمبر 1983 الإسلامية، ونصب نفسه إماما جائرا على بيعة زائفة. ثم ما تبع ذلك من ترسيخ لدولة الإستبداد والطغيان باسم الدين بعد 30 يونيو 1989.

6- وماذا عن تاريخنا وتراثنا الإسلامي الذي أيضا يستند عليه الإسلاميون في حججهم؟

ماذا عنه؟ هو أيضا تاريخ وتراث الجميع، إسلاميين وغيرهم، وهو مكون أساسي لوجداننا بل وحتى لأفكارنا الراهنة، حول اليسار والدولة المدنية. فبالمناسبة، مفهوم الدولة المدنية ليس مفهوما مستوردا من الغرب، بل له جذوره الضاربة في عمق التراث والفكر العربي الإسلامي وفي تاريخ مجتمعاتنا، حيث أن رجال الإصلاح الديني، الذين شكلوا جزءا من الإنتلجنسيا التنويرية الحديثة، كانوا قد لعبوا دورا بارزا في إشاعة مبادئ الدولة المدنية، حتى وإن لم يستصحبوا المصطلح. وكما جاء في إحدى وثائق الأزهر الشريف، والتي أصدرها بعد ثورة يناير المصرية، فإن مبادئ الدولة المدنية العصرية لا تتعارض مع الحفاظ على القيم الروحية والإنسانية والتراث الثقافي، بل تحمي المبادئ الإسلامية، التي استقرت في وعي الأمة وضمير العلماء والمفكرين، من التعرض للإغفال والتشويه أو الغلوّ وسوء التفسير من قبل التيارات التي ترفع شعارات دينية أوطائفية أو أيدلوجية متطرفة. وحتى وقت قريب، كان من الممكن أن يناقش الباحثون والمهتمون ثورية الدين في المبتدأ، وأن يحاكموا بنى أمية، ولكن ما بشرت به ونشرته التيارات والمدارس الدينية، القائمة على تكريس النظرة الاحادية ووضع المعايير الذاتية لتفتيش الضمائر، لا علاقة له بأولئك اللذين إخترعوا الصفر، وترجموا الحكمة الفارسية والهندية، كما في “كليلة و دمنة”، وقدموا لنا عصارة الادب والفكر العربى الإسلامي الذى أعلى من شأن العلم والعقل وحرية الفرد وقيم التعايش السلمى.

7- إذن أنت من أنصار الفصل التام بين الدين والدولة؟

هنالك مسائل في السياسة لا يمكن التعامل معها بطريقة طرّة أم كتابة…، وعموما، وحتى لا يحدث أي خلط أو إلتباس، آمل أن تلخص موقفي حول العلاقة بين الدين والدولة بدقة، وأسوق الموقف في النقاط التالية:

‌أ.       أنصار الخيار الإسلامي يرفعون شعار (لا ولاء لغير الله). وأنا، بكل بساطة وبكل صدق، أتفق وأردد معهم: نعم، لا ولاء لغير الله! وهل يمكن لأي مؤمن عاقل أن يقول غير ذلك؟. أيضا، بالطبع لا يمكن طرد الدين من الحياة أو المجتمع. ولكن أيضا لا يمكن تسييس الدين لصالح الأجندة والمطامح الشخصية للباحثين عن السلطة والجاه بأي ثمن. ولا يمكن قبول أن تستأسد فئة بإسم الدين لتعطي قدسية لمشيئتها ورؤاها السياسية حتى تفرضها على الآخرين. وفي الحقيقة، أنا أفهم شعار (لا ولاء لغير الله) بأنه يعني رفض السلطة المطلقة، ورفض حكم الفرد مقابل سلطة المؤسسات الجماعية، ورفض قمع الآخر بإسم الله، ورفض تمكين البعض من ذوي الحظوة، ورفض إنفراد القيادة بالرأي مقابل تشجيع المجتمع المدني والمبادرة الشعبية وتأسيس المؤسسات الجماهيرية الوسيطة التي تساهم في ردم الهوة بين القاعدة والقيادة. ولا يمكن رفع شعار لا ولاء لغير الله ردا على مطالبات الجماهير بحقوقهم. فالجماهير ستحس بالقيمة الحقيقية لهذا الشعار، عندما يكون هم الحاكم هو إعطاء كل ذي حق حقه، وعندما تعلو قيم الشفافية والمحاسبية، وعندما تتجسد العلاقة المباشرة بين هذه الجماهير ومؤسساتها المنتخبة دون تزوير أو تلاعب.

‌ب.   وبدون أي لف أو دوران، أنا من أنصار فصل الدين في السياسة. وموقفي هذا لا يعني نسخ أو إستصغار دور الدين في حياة الفرد، وفي تماسك لحمة المجتمع وقيمه الروحية والأخلاقية وثقافته وحضارته. ولكني أقول، وبذات البساطة والقناعة التامة، أن إقحام الدين في السياسة سيلقي بظلال سالبة على الممارسة السياسية، تصل حد النتائج الكارثية، خاصة وأن هذا الإقحام يتسم، من جهة بعدم الإتفاق والإجماع، حتى بين دعاة الخيار الإسلامي، حول كيف يتم تجسيد علاقة الدين بالسياسة، وحول الشروح والتفسيرات المتعلقة بالنصوص الدينية. كما يتسم من جهة أخرى بالإمكانية الكبيرة والمحتملة بنسبة عالية، كما أكدت التجربة الإنسانية القديمة والمعاصرة، لإنزلاق دعاة إقحام الدين في السياسة نحو الإرهاب والطغيان وقمع الآخر. وأعتقد، لن يعترض أحد، إلا المكابر، على أن المجتمعات التي تحكم بإسم الدين دائما ما تقمع فيها كل معارضة سياسية، وأن الحالات التي تمّ فيها اضطهاد أفراد أو جماعات دينيّة كانت في المقام الأوّل نتيجة إثارتهم لمشاكل سياسيّة، وليس بسبب إيمانهم في حدّ ذاته بصفة أساسيّة.

‌ج.     بالمقابل، أنا، مع آخرين، أدرك وأقر بأن فصل الدين عن السياسة، ليس ضمانا كافيا لسيادة وكفالة الحريات والديمقراطية وحقوق الإنسان والعيش الكريم. فقد شهد التاريخ تجارب علمانية قدمت أسواء أنواع الديكتاتوريات والأنظمة المعادية لحقوق البشر، بما في ذلك حق الحياة، مثل ألمانيا النازية وروسيا الستالينية وعدد كبير من أنظمة العالم النامي.

‌د.      لكن رفضنا لإقحام الدين في السياسة لا يعني قفل الطريق أمام توافقنا مع أصحاب الخيار الإسلامي، بل نحن نسعى للتوافق معهم على أساس مساومة تاريخية نعمل من أجلها سويا. وكأساس لهذه المساومة، نحن ندعوهم لمناقشة مفهوم الدولة المدنية الديمقراطية، والتي في تصورنا لا تقوم على معادة الدين، بل ترتكز على مبادئ لتنظيم المجتمع، يأتي في مقدمتها إحلال مفهوم الفرد المواطن محل مفهوم الرعية، وتسييد مبدأ الإعتراف المتبادل مع الآخر، وإعتبار أن السلطة تنبع من الشعب وليس من سلطة “الحق الإلهي”، وأن العلاقة بين الإنسان وربه هي علاقة فردية ومباشرة لا تحتاج إلى وسيط أو رقيب، وهي ضد التكفير ومع ضمان إستقلال الإرادة وحرية البحث والتفكير والإجتهاد في كل المسائل، بما فيها المسائل الدينية.

8- تحديدا، ما هي عناصر هذه المساومة التي تقترحها بين التيار الإسلامي والتيار العلماني حول مسألة الدين والدولة؟.

أولا: بالطبع من حق أي حزب أن يتبنى ما يشاء من المنطلقات الآيديولوجية، وأن يدافع عن تصوراته حول كيف يريد أن يحكم السودان. وبالتالي، من حق أحزاب الخيار الإسلامي أن ترفع شعار الإسلام وتدافع عن خيارها هذا. ونحن من جانبنا لا نطالبها بالتخلي عن هذا الخيار، بقدر ما نطالبها بإحترام الآخر والنظر إليه على قدم المساواة في الحقوق والواجبات، دون توهم إكتسابهم لأي سمات قدسية من رفع شعار الإسلام، هي في الحقيقة غير موجودة وغير حقيقية، تضع هذه الأحزاب في موقع الأعلى بالنسبة لأصحاب دعوة فصل الدين عن السياسة.

ثانيا: نحن ندعو إلى مساومة تاريخية بين الخيار الإسلامي والخيار العلماني أو المدني، ترتكز على مجموعة من المبادئ التي تعبر عن فهمنا للنظام السياسي المدني الديمقراطي التعددي. ونحن نستخدم مصطلح النظام المدني بإعتباره الأقرب لواقعنا من مصطلح “النظام العلماني” ذو الدلالات الأكثر ارتباطا بالتجربة الأوروبية، وبإعتباره يعبر عن تمايز طريق شعب السودان نحو الدولة الديمقراطية الحديثة، عن طريق شعوب ومجتمعات أوروبا.

ثالثا: ومجموعة المبادئ التي نقترحها لترتكز عليها هذه المساومة، تشمل:

1- المساواة في المواطنة، مع كفالة حرية العقيدة وحرية الضمير.

2- الشعب مصدر السلطات والحكم يستمد شرعيته من الدستور، مع التقيد الصارم بمبدأ التداول السلمي الديمقراطي للسلطة، ومبدأ الفصل بين السلطات، ومبدأ سيادة حكم القانون وإستقلال القضاء، والإلتزام بقواعد الحكم الرشيد وبمبادئ الشفافية والمحاسبة.

3- المشاركة العادلة في للسلطة، والتوزيع العادل للموارد والثروة، مع الإلتزام الصارم بتوفير الحياة الكريمة للمواطن.

4- ضمان حقوق الإنسان والحقوق والحريات الأساسية السياسية والمدنية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، المنصوص عليها في المواثيق الدولية، وإعتبارها جزءاً لا يتجزأ من القوانين السودانية، ويبطل أي قانون يصدر مخالفاً لها، ويعتبر غير دستوري.

5- يكفل القانون المساواة الكاملة بين المواطنين تأسيسا على حق المواطنة واحترام المعتقدات وعدم التمييز بين المواطنين بسبب الدين أو العرق أو الجنس أو الثقافة، ويبطل أي قانون يصدر مخالفا لذلك ويعتبر غير دستوري.

6- كفالة حرية البحث العلمي والفلسفي وحق الاجتهاد الديني.

رابعا: وأعتقد، وفق هذه المبادئ، يمكن أن تتسع الاجتهادات لكي تشمل مصادر التشريع الدين والعرف مع عطاء الفكر الإنساني وسوابق القضاء السوداني، وفي إعتقادي أيضا، أن هذه المبادئ من الممكن أن تلبي أشواق أصحاب الخيار الاسلامي، وكذلك طموحات دعاة الدولة المدنية.

9- في ختام هذا المحور، نسأل عن لقاء نيروبي الأخير حول علاقة الدين والدولة، وعن ما أثير حول ترشيحك لمنصب الأمين العام للنظام الخالف؟

بصراحة لا أدري، من الناحية الموضوعية، سر الضجة التي أثيرت حول ملتقى نيروبي والذي نظمه منظمتا مشروع الفكر الديمقراطي ومنتدى إيلاف للحوار والتنمية، وهما من منظمات المجتمع المدني السودانية. فاللقاء، جاء مثل غيره من عشرات اللقاءات التي ينظمها المجتمع المدني السوداني، حول القضايا السياسية الفكرية، والتي تسعى لخلق أرضية فكرية للقاء الأضداد، إذ في لقاء واتفاق الأضداد يكمن سر إنقاذ الوطن. لقاء نيروبي لم يكن تفاوضا أو لقاءا سياسيا لإقتسام كيكة السلطة، ولم تتم فيه تنازلات عن المحاسبة أو عفو عن الجرائم، ولا أدري مصدر العبقرية التي تربطه بمخططات المجتمع الدولي حول “الهبوط الناعم”، مثلما لا أفهم كيف سيعرقل مسعى الثائرين نحو تفجير الإنتفاضة؟! واللقاء، كما ذكرت، ليس فريد عصره، بل نظمت منظمات المجتمع المدني السودانية عشرات اللقاءات التي تناولت نفس الموضوع. طبعا كل هذا لا يعني عدم انتقاد الحدث ونتائجه وكل ما يتعلق به، ولكن دون هذه الضجة التي تعكس حالة العجز التي نعيشها. بالنسبة لمشاركتي، فكانت بدعوة مباشرة من الأستاذين المحترمين، شمس الدين ضو البيت عن مشروع الفكر الديمقراطي، ودكتور خالد التجاني عن منتدى إيلاف للحوار والتنمية، وأعتقد مساهمة أي من الرجلين في مجال الفكر وتوسيع مساحات الإستنارة ونقد الواقع، بما في ذلك واقع النظام الحاكم، تاج فخر في رأسيهما. بالنسبة لقصة النظام الخالف، فلابد في البدء من الإعتراف بأن ليس لي أدنى معرفة بطبيعة هذا النظام وماهيته، وإطلاقا لم يحدثني عنه أي شخص، المرحوم الشيخ الترابي أو غيره، وكل الكلام الوارد في الخبر لا علاقة لي به. ولكن الملفت للنظر في الخبر المنشور في الصحيفة، أن هنالك إفادات منسوب لثلاثة أسماء وردت في الخبر لم يرد في أي منها إشارة لعلاقتي بالنظام الخالف، وإنما الإشارة جاءت مقرونة بإفادة من “مصدر مطلع” دون ذكر أسمه، بل وذات “المصدر المطلع” تحدث عن أتفاق مكتوب حول الأمر في حين ما دام هو مكتوب كان من الممكن أن يتحدث عنه أي من القياديين الثلاثة الواردة أسماؤهم في الخبر!! ألا يثير هذا الأمر بعض الشكوك؟

10- هل صحيح ان قضية الهوية تعتبر جزءا من الأزمة السودانية؟

طبعا…، بل، وكما اجبت في سؤال سابق، تعتبر مسألة الهوية من ضمن القضايا المصيرية والتأسيسية الواجب حسمها لصالح بناء الدولة الوطنية الحداثية في السودان. ويؤكد تاريخ السودان أن الهوية السودانية تبلورت عبر مخاض ممتد لقرون وحقب، أسهمت فيه عدة عوامل بدءاً بالحضارة المروية قبل الميلاد مرورا بالحضارات المسيحية والإسلامية ونتاج الكيانات الإفريقية القبلية والعرقية وبصمات المعتقدات الإفريقية والنيلية، وحتى النضال الوطني ضد المستعمر. لذلك فالهوية السودانية منبثقة من رحم التعدد والتنوع والتباين، وهذا مصدر ثراء حضاري جم إذا ساد مبدأ الاعتراف بالتنوع والتعدد في كل مكونات صياغة وإدارة المجتمع. ومع سيادة هذا المبدأ فإن عوامل الوحدة والنماء كفيلة بتجاوز دوافع الفرقة والتمزق. لذلك من الخطأ انتزاع مكون واحد من مكونات الهوية السودانية ورفعه لمستوى المطلق ونفى ما سواه، مثلما فعل نظام الإنقاذ عندما حاول التعامل وكأن المكون الحضاري للهوية السودانية يقتصر على المكون الإسلامي وحده….!

11- وماذا عن اللغة العربية؟

لن يقلل من قيمة اللغة العربية، ولن ينفي دورها كلغة رسمية، أن نقر بحقيقة تعدد لغات أهل السودان بتعدد ثقافاتهم، لذلك المبدأ الأساس هو بإعطاء كل اللغات السودانية الفرصة الأقصى للتطور وتصبح أدوات متقدمة للتعبير والتعليم، مما سيفتح المجال للمثاقفة الحرة التي تؤدى إلى التفاعل بين هذه اللغات وينتج عنه واقع ثقافي جديد. هناك قوميات قد تتخذ اللغة العربية بمحض إرادتها أداة للتخاطب، هذا لابد من الترحيب به، لكن لابد من الوقوف ضد أي محاولة لفرض اللغة العربية على من لا يرغب. وفى نفس الوقت لا بد من  هزيمة المفاهيم اللغوية الضيقة والتي تؤمن بنظرية النقاء اللغوي فتحول بين اللغة العربية وبين تمثل واستيعاب كل الألفاظ ذات القدرة التعبيرية العالية في لغات القوميات غير العربية. إن أي جهاز دولة لا يستوعب هذا الواقع ويتعامل معه وفق تدابير ملموسة، سيكرس من مفاهيم الاستعلاء العرقي.

12- حالة التعدد والتنوع في المجتمع السوداني، أهي نعمة أم نغمة؟

التعدد والتنوع، نعمة ومصدر ثراء بشرط أن نحسن إدارتهما. وضربة البداية في مشوار حل الأزمة السودانية تبدأ بالوعي بحقيقة أن السودان وطن متعدد بالمعنى الواسع للكلمة: متعدد في مستويات التطور الاجتماعي، ومتعدد الأعراق والإثنيات والقوميات، متعدد الدياناتوالثقافات والتقاليد واللغات. وفي نفس الوقت، فإن السطوع القوي لهذا التنوع والتعدد لا يعمى نظرنا عن رؤية عوامل وحدة المجتمع السوداني والتي تراكمت عبر القرون. والمطلوب هو إدارة هذا التعدد والتنوع بنجاح، بمعنى ليس الوقوف عند الإعتراف بهما فحسب، بل التقدم لصياغة الحقوق السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية التي تترتب على هذا الإعتراف. صحيح أنمهام إعادة بناء الدولة الوطنية السودانية، تختلط في الأولويات والترتيب، كما أن القوى المناط بها تنفيذ هذه المهام تتشتت بدلا من أن تتجمع وتتوحد. وهي قوى، بحكم طبيعتها وتركيبتها الآيديولوجية والإجتماعية، متعددة الألوان والأطياف والرؤى. لكن المهمة التي أمامها، مهمة إعادة البناء، تقتضي التمازج والتشابك، وبالضرورة التنازل، حتى تصل غاياتها في بناء دولة الوطن. والفشل الذي صاحب هذه المهمة حتى الآن ليس قدرا محتوما أبديا، بل من الممكن التصدي له بالحراك في الاتجاهات المتعددة حتى تتقاطع الخطوط وتنتج فعلا مقاوما لعوامل التفرقة، ومقاوما لمحاولات بناء الوطن برؤية أحادية. ومن هنا، فإن الوعي بضرورة مقاومة المشروع الأحادي المتناقض مع مهام تأسيس الوطن القائم على واقع التعدد والتنوع، يشكل عاملا أساسيا وحاسما من عوامل التغيير ونجاح إدارة التنوع. وهذا الوعي، ينبني، بالضرورة، على أسس ومداخل نظرية ومفاهيمية، تشكل في مجموعها نموذجا معرفيا جديدا “Paradigm Shift”. ومن البديهيات المعروفة أن الناس، بطبعهم، مختلفون. وحتى أصحاب الديانة الواحدة، مسلمين أو غير مسلمين، لا يفكرون بنفس الطريقة ولا يرون الأمور من الزاوية نفسها. ولذلك، دائما من المصلحة أن نغذي طبيعة التنوع فينا ببسط عدالة لا تستثنى أحدا، بدلا عن إضطهاد وقمع الآخر المختلف. وبسبب نزعة التعصب الديني، شهد تاريخ العالم الكثير من الحروب التي هلك فيها البشر أو زجوا في السجون، وبددت الثروات، وسنت القوانين المجحفة المروعة للنفوس الآمنة. ولكن أيضا، وبسبب ذات الحروب، إمتلئت جيوب البعض ورفلوا فى النعيم، بينما ترك بقية الناس ليصطلوا بنار الفقر وشظف العيش.

13- لكن، ألم يتأثر واقع التعدد والتنوع هذا بإنفصال الجنوب؟

طبعا لا.. صحيح البعض عول كثيرا على انفصال الجنوب، وكأنما بأنفصاله إنبتر الجزء المختلف وصرنا نحن في الشمال إلى تماثل أو تشابه سيامى، وهذا غير صحيح ولا علاقة له بالواقع، فالمسألة ليست بهذه الميكانيكية…! فمازلنا، في الشمال، قوميات وإثنيات وثقافات متنوعة ومتعددة تستوجب الإدارة الحكيمة والرشيدة. وبالمناسبة، إنفصال الجنوب هو إنفصال سياسي وليس إنفصال في الوجدانيات.

14- ماذا تعني بذلك؟

أعتقد ستتفق معي بأن فصل مكون عن الاخر في الوجدانيات لا يتم بمثل عملية فصل المركبات الكيميائية فى المعامل. ووجدانيات الشعب السوداني في الجنوب والشمال، شكلتها ذات المكونات المتشابكة والمتداخلة رغم إختلاف السحنة واللغة والدين. والمكونات التى تساهم فى تشكيل الوجدان يصعب تحديد نسبها وأوزانها، كما تصعب امكانية فصلها عن بعضها البعض لأنها تتماوج بشكل جنونى، مدا وجذر، صعودا وهبوطا. فما تشكله من قمم صغيرة في هذه اللحظة، تنحسر بسرعة لتشكل قمما اخرى في لحظة تالية. فتارة صعودا لصالح القبيلة، وتارة اخرى لصالح الدين، وثالثة لصالح الهوية الكبرى “الوطن”، ورابعة لصالح “الانا الفردية”، وخامسة لصالح “الانا الجمعية”.. وبالاضافة لما نلاحظه من تداخل مثير للجدل فى العلاقة بين هذه المكونات، فإن المكون الثقافى يصعب فصله عن الاجتماعى والدينى والاثنى. لذلك، ظلت الحكمة تقول: علينا جميعا ان نغذى ونربى ما يجمع لا ما يفرق، ما يدفعنا لنتفهم بعض ونتفهم أسباب الحدة والتشنج ونعالج ونزيل سوء الفهم لا ان نكرس الجهد لتأجيج روح الحرب والعداءات. وصعوبة فصل المكونات الوجدانية هذه عن بعضها البعض ليس بسبب اندماجها فقط، بل أيضا لانها تخلق شكل علاقات جديدة. أي إن تداخل المكونات الوجدانية تنتج عنه مكونات جديدة من حالة التماذج والتلاقح بين المكونات المختلفة. فمثلا فى حالة التزاوج بين القبائل المختلفة، تنشأ مع الايام اجيال جديدة تأخذ بسمات مختلفة تظهر فيها تاثيرات المكونات الاولى جنبا إلى جنب مع الطابع الخاص للأجيال الجديدة. وهكذا الحال فى احوال المساكنة والاشتراك فى مصدر الرفد سواء كان البيئة أو الرزق أو التعليم. أعتقد أن التزاوج بين المجموعات الإثنية المختلفة، في مناطق التماس في السودان، مثلا، سينتج أجيالا أكثر قدرة على فهم ضرورة التعايش بين هذه المجموعات، وطبيعة تكوين هذه الأجيال ستجعلها أكثر تمسكا بالارض وبالهوية الجديدة التي عنوانها تعايش مكوناتها الأولى واللاحقة. وهذه الأجيال ستكون هي الأكثر تضررا من الحرب والتوتر وحالة العداء، وبالتالي ألأكثر قدرة على إنتاج حلول حكيمة.

15- كيف تقيم تجربة حكم الأسلام السياسي في السودان؟

حال الوطن والمواطن بعد ثلاثة عقود من حكم الإسلام السياسي يغني عن أي سؤال. تجربة فاشلة أودت بالبلاد إلى التهلكة، ولا أعتقد سيتغالط إثنان حول هذا التقييم حتى ولو كان أحدهما من أهل الإسلام السياسي. لقد ظللت على الدوام أعبر عن قناعتي الخاصة، بأن قواعد التيار الإسلامي في السودان كانت فعلا تحلم بتحقيق حلم المدينة الفاضلة، وبتكرار تجربة عدالة وسماحة مجتمعات صدر الإسلام. وفي سبيل ذلك، لم تتوانى تلك القطاعات في التضحية بالروح والدم. وأعتقد، أو أفترض، أن ذلك كان هو حال كل من عبيد ختم، ووداعة اللة، ومحمود شريف، وصلاح القدال….وآخرين. لكن أحلام هذه القطاعات، سرعان ما اصطدمت، بواقع التجربة، وواقع ممارسات قياداتها. فالتجربة لم تحقق لا العدالة ولا التنمية ولا الأمن ولا الأمان ولا السلام، وإنما أتت بعكس كل ذلك، إضافة إلى شطر البلد إلى بلدين. وهكذا تبخرت تلك الأحلام سرابا، وتشتت تلك القطاعات زرافات ووحدانا، ليسلك بعضها طريق “هي للجاه”، ولم يعد معنيا بحلم المدينة الفاضلة أو مجتمع العدالة في صدر الإسلام بقدر ما أصبحت بوصلته تشير فقط إلى قطب شهوة السلطة والمال، والبعض الآخر أخذ يبحث عن طريق “هي لله” خارج تلك المنظومة، كافرا بها. ومن واقع هذه التجربة نقرأ إن الدولة التى تقوم على مراعاة مصلحة جماعة بعينها وتمييزها دون الجماعات الاخرى، وتطمع فى تسييد اخلاق وثقافة هذه الجماعة على الآخرين، وتسعى لكسب الولاء، حتى ولو عن طريق إخضاع هولاء الاخرين واذلالهم، هى دولة كلما اقتربت من  تحقيق مطالب جماعتها، كلما ابتعدت عن القيم والمبادى الانسانية التى ينادى بها أى دين. يا ترى، هل كان لأثر الخليفة الفاروق، عمر بن الخطاب “لو عثرت بغلة فى العراق….” أي موقع في ذاكرة قادة هذه التجربة؟، علما بأن ما قاله الخليفة الفاروق في تلك الحادثة، لم يكن مجرد حديث لحظي أو لواقعة محددة، بل كان (مانيفستو) لرفع الحساسية تجاه المسئولية العامة.

16- هل صراع اليمين واليسار يعتبر سببا في إنعدام الاستقرار في السودان؟

من الصعب الموافقة على ذلك، لأن السبب في عدم إستقرار السودان يعود، كما ذكرت لك من قبل، إلى فشلنا في التصدي للمهام ذات الطابع التأسيسي للدولة السودانية المستقلة، وإنجازها في إطار مشروع وطني مجمع عليه من كل المكونات السياسية والقومية في البلد، يتعهد بقضايا التنمية وبناء دولة ما بعد الإستقلال على أساس المشاركة العادلة في السلطة والتوزيع العادل للموارد. وحتى اللحظة لا زالت هذه المهام تنتظر التنفيذ، وهي في الواقع تشكل جوهر الحلقة الشريرة الساكنة في أرض الوطن، كما تشكل جوهر الصراعات الدائرة في البلد حد الحرب الأهلية، بحيث يمكننا القول إن عدم التصدي لهذه المهام التأسيسية يجعل السودان يعيش في فترة إنتقالية ممتدة منذ فجر الإستقلال وحتى اليوم. والعلاقة بين اليسار واليمين في السودان ليست كلها صراعات، بالعكس، ففي تاريخ البلد محطات كثيرة شهدت تحالفات بين اليسار واليمين، وهي محطات موجودة منذ فترة النضال ضد المستعمر وحتى اليوم. ثورة أكتوبر 1964 وإنتفاضة ابريل 1985، أنجزتا من خلال قوى واسعة فيها اليمين واليسار. وخلال الثلاثين عاما الماضية، ظل اليسار واليمين المعارض متحالفين، في التجمع الوطني وخلافه، ضد يمين حاكم…وهكذا. صحيح البعض، وخاصة في معسكر اليسار، يلخص الصراع السياسي في السودان ويحصرهبين اليسار واليمين. لكن، أعتقد هذا تفكير تبسيطي ونظرة خاملة تعكس العجز عن إعمال الذهن للخوض في تعقيدات الصراع السياسي وكشف متناقضاته، أي العجز عن صياغة تاكتيكات مرتبطة بالواقع. وفي هذا الصدد تثار عددا من التساؤلات حول الخط الفاصل بين اليسار واليمين: أين يمر؟ ومن يملك الحق في رسمه؟ وهل معايير التصنيف إلى يساري ويميني تنبع من الرغبات الذاتية لهذا الحزب أو ذاك، أم هي معايير موضوعية؟. أفتكر، في عصرنا الراهن، من الصعب ترسيم الحد الفاصل بين اليسار واليمين، كخط مستقيم خال من التعرجات والتداخلات، بذات السهولة التي كانت فيما مضى، أي لم تعد معالم هذا الخط واضحة كما كانت في مرحلة سابقة. فكثيرا ما يشترك اليمين واليسار في نفس الأطروحات، كالتمسك بالديمقراطية والدفاع عن حقوق الانسان والعدالة…الخ، غض النظر عن صدق النوايا!!. ومن زاوية مختلفة، يمكنني الزعم، بأن مفهوم اليسار في السودان يتوسع حاليا متخطيا اليسار الكلاسيكي ليحتل مساحة اوسع، تمتد من قوى الحداثة والاستنارة في المدينة أو المركز إلى حركة الهامش المحتجة والمتمردة في الأطراف رغم أن قوتها الدافعة مثقلة بالطابع الاثني والقبلي، وهي متمردة على الإجحاف والتهميش خلال مسيرة الدولة المستقلة، وعلى قياداتها التقليدية في أحزاب اليمين الحاكم والتي ظلت تدين لها بالطاعة لعقود طويلة، لكنها لم تحصد سوى الريح.

17- ماذا عن تسخير المؤسسة العسكرية من قبل الساسة لصالح الوصول للسلطة؟

هذا شيئ طبيعي ومتوقع بالنسبة للبلدان النامية، أو العالم الثالث، والتي لم تستقر فيها مقومات ومؤسسات الدولة الحديثة، ولم يترسخ فيها النظام الديمقراطي التعددي. ففي أقل من عامين بعد إستقلالنا أصبحت مؤسستنا العسكرية طرفا فاعلا في العملية السياسية، من خلال إنقلاب 17 نوفمبر 1958، ثم الإنحياز إلى ثورة أكتوبر 1964، فإنقلاب 25 مايو 1969، فالإنحياز لإنتفاضة أبريل 1985، وأخيرا ما حدث في 30 يونيو 1989. وفي إعتقادي، عدم تسخير المؤسسة العسكرية من قبل الساسة، وحمايتها من الخضوع لإرادة هذه القوى السياسية أو تلك، يمكن أن يتأتى عندما ننجح في بناء دولة الوطن، لا دولة هذا الحزب أو ذاك، دولة القانون والمؤسسات والحكم الراشد، دولة التحول الديمقراطي الكامل، دولة ما بعد الإستقلال الوطنية التي تبنى، أو يعاد بناءها، على أساس مشروع قومي مجمع عليه، يشارك في صياغته وتنفيذه الجميع، بمافيهم أفراد المؤسسة العسكرية.

19- هل نحن في حاجة إلى مراجعات؟

دائما وأبدا يحتاج الناس إلى مراجعات وإلى تقييم ووقفة مع الذات ونقد ذاتي، خاصة ونحن في السودان، ومنذ فجر الاستقلال، لا نزال نقبع في حفرة تصادم رؤى النخب السياسية، مما جعل بلادنا في حالة أشبه بلعبة السلم والثعبان: ما أن نبدأ في تسلق سلم الديمقراطية نحو مخرج الأزمة، حتى يأتي ثعبان السياسات الخاطئة ضيقة الأفق، حد الإنقلابات وإشعال الحرب الأهلية، فيرجعنا إلى مربع البداية. وأعتقد فعلا آن أوان أن تراجع النخب السودانية قناعاتها… فلقد ظلت هذه النخب، ولأسباب سياسية واجتماعية وتاريخية وربما إقليمية…، تتخاصم وتتصارع حقبا طويلة. لكنها الآن، عليها أن تقتنع بان الوطن كله أصبح في مهب الريح، وأن خطرا داهما يتهددها جميعا، وأن التفكير السليم يقول بأن ما يجمعها من مصالح، في الحد الأدنى الضروري للحياة، أقوى مما يفرقها، وأنه آن الأوان لكيما تلتقي بجدية واخلاص لصياغة واقع جديد في السودان. وكما هو واضح، فإن مهام بناء الدولة السودانية، وفي الحقيقة بناء أي دولة، لا يمكن أن ينجز على أساس آيديولوجي، أو وفق برامح هذه القوى أو تلك. إنها مهمة شعب بأسره، وبمختلف مكوناته السياسية والعرقية والجهوية..الخ. ومهمة من هذا النوع، تستوجب إدارة الصراع الاجتماعي حول كافة قضاياها بصورة سلمية وديمقراطية، وهو ما يقربنا من مفاهيم المشروع الوطني والإجماع الوطني والمؤتمر الدستوري، والمدخل لأي منها هو التحالف السياسي الواسع، وتوسيع مبدأ القبول والمشاركة لتتعايش القبائل، الاديان، والألسن المتوعة والمتعددة. اما إذا كانت هنالك مجموعات ترى في دحر الآخر هدفا استراتيجيا لبلوغ مبتغاها، فلتستعد لبناء ترسانتها الحربية، وليستعد الوطن لنزف ما تبقى من دمائه.

1 أبريل 2017

Print Friendly, PDF & Email

عن laalaa

شاهد أيضاً

حزب المؤتمر السوداني تصريح صحفي

Share this on WhatsAppحزب المؤتمر السوداني تصريح صحفي طالعنا البيان المؤسف الصادر من سكرتارية اللجنة …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.