*تجربة الإعتقال خارج أسوار الوطن* الحلقة الرابعة

#الهدف
#الهدف_ارشيف_اعتقالات

محمد الأمين أبو زيد

حراسة قسم الدقي تمثل الوجه الأبشع لصورة الحراسات المصرية التي تنتهك فيها آدمية الإنسان وحقوقه وكرامته،  مضيفة صورة إضافية من مأساة النزيل الأساسية التي ساقته إلى الحبس، تم ترحيلنا لهذه الحراسة ولا أدري ما المقصد من هذه المحطة في دورة الإعتقال؟
ربما القصد الإذلال وتقديم وجه آخر من وجوه المعاناة بالنسبة لنا..
المهم وصلنا إلى الحراسة في الصباح الباكر بصحبة ضابط الأمن الذي قام بإجراءات التسليم والتسلم الروتينية للضابط (النبطشى)، وبعد التحقق من الأسماء والعد والصف قام بإدخالنا إلى الحراسة التي لم تتعد مساحتها 16 مترا بها قليل من النزلاء، سلمنا عليهم وإنتحينا جانبا قصيا من المكان، توسدنا معاطفنا ودخلنا في نوبة من الثرثرة والمداعبات اللطيفة..
بعد هنيهة وبعد كسر الحاجز النفسي، وكعادة حب الإستطلاع لدى النزلاء بادرونا بالسؤال البديهى: (مالكم؟ ايه اللي جابكم؟).. وعندما عرفوا السبب كان التعليق من جانبهم (منهم لله ربنا ينتقم منهم.. ربنا على الظالم والمفتري)، ويتطوعون تباعا بسرد قصصهم التي ساقتهم إلى قدر الحبس ويتبارى كل منهم في إثبات براءته، ولعل أميز تلك القصص قصة ذلك الصعيدي (الأشيب) الذي كان يجلس بجانبي وهو يحكي قصته ببساطة شديدة:
(دا أنا واخد تأبيدة يا عم “25” سنة أصلي أنا قتلت بنت عمي، رفضت تجوزني وباعتني وإتجوزت غيري، ودا كان من أيام الريس عبد الناصر، ودي الوكت أنا مخلص المدة ومترحل على البلد.. وقتها كنت شباب وأديك إنت شايف عجزنا في السجن!! وربنا على الظالم والمفتري!!)..
يا للهول من هو الظالم في نظره ومن هو المفتري؟؟
إن في الحراسات والسجون قصص يشيب لها الولدان وتشي بالمثير والمحزن..
في كل حراسة مصرية وسجن تجد شخصية (الفتوة) وهي شخصية تنصب نفسها زعيما على السجناء، من واقع تراكم خبرة وتردد على السجون، شخصية ذات طبيعة متسلطة، وآمرة تمارس الإرهاب والتسلط على النزلاء خاصة الضعفاء وصغار السن وتسخرهم لخدمتها وإشباع غرورها اللعين.
بالنسبة لنا كنا عصبة قوية عصية على الإبتزاز والترويض وفي منأى من شرور هؤلاء المجرمون.
حاول ذلك الشاب قصير القامة (فتوة الحراسة) أن يقدم لنا فاصلا من مناظر فتوته لدى بعض النزلاء ضربا وأمرا وزعيقا، ولكننا قابلنا ذلك السلوك بالإستهجان (قعد الفتوة في علبو).
في أثناء إقامتنا القصيرة في حراسة الدقي إطمئنينا على سلامة (شققنا) التي تم تفتيشها بواسطة الأمن، ولم يعثروا على ما كنا نخشاه (وثائق حزبية)، حيث لم تكن مثار إهتمامهم فأنصب بحثهم على أسلحة ومتفجرات توهموها بفعل الشائعات التي كانت متداولة حينها بإستهداف أمن مصر وتفجير السد العالى، وقد تثنى لنا معرفة معلومة ذلك من خلال الزيارة الأولى التي قام بها وفد من السفارة وبصحبته رفيقنا (محمد الجاك) الذي نقل الينا تفاصيل ما يجري بالخارج، ونقلنا له مجريات التحقيق في الفترة الماضية، وتوجيهاتنا بما يجب عمله لحماية التنظيم من ضربات لاحقة والترتيبات الإدارية للمستقبل.
كنا على قناعة بدرجة كبيرة بقرار ترحيلنا للسودان وذلك من خلال إستنتاجنا لمجريات التحقيق ولأن ذلك هو القرار المريح والمجرب في حالات مشابهة، وعلى قول المثل المصري (إقطع العرق وسيح دمو)..
لم يكن القرار مزعجا لنا لأن أغلبنا خريجين، ولكن كان مزعجا في حق رفيقنا (أحمد بابكر) الذى ما زال وقتها طالبا بكلية طب الأسنان، وقد وجهنا رفيقنا (محمد أحمد خليل المشهور بالبرنس ) بأن يبذل أقصى الجهود مع السفارة لكى لا يتم ترحيله، وربما نجحت جهود السفارة، أو تقديرات أمنية خاصة بالأمن المصري في عدم ترحيله لاحقا وإطلاق سراحه وهذا ما أراحنا كثيرا.
كانت زيارة السفارة وزياراتنا لاحقا للسفارة بغرض تكملة إجراءات الترحيل فرصة سانحة ومريحة لتبادل الآراء والأفكار مع رفاقنا بالخارج عبر الرفيق المتابع وضعنا (ودالجاك) علاوة على ذلك توفر لنا فرصة طيبة لطعام نوعي.
أيام حراسة الدقي كانت بائسة جدا من حيث الطعام (فول وفلافل)، ومن حيث المكان فالحراسة الصغيرة كانت بها دورة مياه بدون باب، تفتح على الحراسة مباشرة والداخل اليها يتحفك بكل أناته وإنفعالاته والروائح المنبعثة تملأ أرجاء المكان وتعطر فضاءه، ولكن للضرورة أحكام وللحبس قواعده التي لا فكاك من التسليم بها.
قضينا أيامنا المقررة بتلك الحراسة الملعونة، ولم يكن لنا تماس مع العساكر إلا فيما يخص التمام الصباحي والمسائي والتسليم والتسلم ما بين نبطشية وأخرى، إلى أن بلغنا بأن يوم غد سيتم ترحيلنا لموقع آخر، كان (مبنى وزارة الداخلية) المهيب الذي لم يجرؤ مصري في ذلك الزمان على العبور أمام شارعها راجلا أو راكبا، ولذلك فصل آخر من تراجيديا التحقيق والتحري سنتعرض لها في الحلقة القادمة…
يتبع …