الجمعة , مايو 17 2024
ardeenfr
أخبار عاجلة
الرئيسية / مكتبة غالب طيفور / سر في قاع المحيط …

سر في قاع المحيط …

سر في قاع المحيط …

ونحن أمام بوابة مطعم في منطقة ( الأشابيل ) بالعاصمة الباريسية الساعة تتجاوز التاسعة مساء” ومعي صديقي (صدام) توقفنا ونحن نهم بدخول المطعم لتحية أحد الاشخاص المعروفين بالنسبة له ، وانا مشغول بانفاسي التي تخرج معها الأدخنة مع كل زفرة ، وتعيد لي شريط ذكريات قديمة ونحن نشاهد الافلام الاجنبية في بلادنا الحبيبة ، ونندهش من اللقطات التي يظهر فيها الممثليين وأدخنة تخرج من أفواهم ، اثناء حديثهم وكانهم يدخنون السجائر ، بسبب البرد الشديد ، والرطوبة العالية .
لم أسافر بعيدا” بخيالي ، فصديقي يقف امام احد الشباب ليداعبه ، والشاب غارق في افكاره يقف في الصقيع والبرد بلا شعور ، سارحا في عالم آخر ، وصديقي ينتظر ان تعود انظاره الشاردة ليحيه حتي فقد الأمل ، فوضع يده امام أعين ذاك الشباب الذي انتبه الينا ، وعاد من خياله ليسلم علينا ببشاشة ، وعندما صافحته شعرت بيده كانه اخرجها من ثلاجة ، وانتبهت كيف يقف هذا الشاب في هذا البرد القارس وكيف يتحمله ؟ كان شيئا غريبا” استيعاب هذا اللغز . والحمدالله اني صديقي اصر عليه بالعشاء معنا ، رغم رفضه للدعوة الا انني ايضا اصررت عليه حتي قبل الدعوة ، التي كانت بيتزا كبيرة بالتونة ، وكان  المكان مزدحما ، حتي وجدنا منضدة فارغة بعد عناء فجلس ثلاثتنا ، ويبدو أنه علي صلة وثيقة به ، فتركتهم يتجازبا الحديث لمعرفة السر الذي يظهر في محيا هذا الشاب الحزين ، المتوتر ، الغير مطمئن ، حتي سمعت صديقي يقول له:  لماذا تعود قبل ان تكمل اجراءاتك؟ ، أصبر أيام فانت عبرت من منطقة الخطر ، وجازفت بحياتك حتي وصلت فرنسا ، إنتفض الشاب بصورة هستيرية حتي سمع بعض الجالسين صوته ، وقال له : لو اعطوني الرئاسة الفرنسية سأعود للسودان ، لقد قدمت عودة تطوعية وتحدد لي يوم الاثنين للسفر ، تدخلت انا بدبلوماسية : ياصديقي طول بالك نحن اخوتك ونحبث لك علي أفضل ، ونحن نري لو صبرت ايام سيتغير حالك ، رد علي غاضبا” : أعمل  سائق ، ويمكنني تدبر أمري ، وتوفيق وضعي بالسودان ، قلت له:  يمكن ان تدخر لك بعض المال وتعود ، وتكون عوضت خسارتك التي اضعتها ، رجع في جلسته ، ونظر لي ، نظرات بعيدة  وحزينة ، وكأنه يحمل مآسي العالم ، واحسست انه يحمل سرا” وصدق حدسي ، اذ إقترب مني بوجهه وقال لي : لقد سافرنا من السودان لمصر  قبل  (5 ) أشهر كنت مع اخي وزوجته وطفلتيه ، حضرنا جميعا من السودان بعد ان ضاقت بنا سبل العيش وضيقت علينا الحكومة في اعمالنا ، وحزمنا امرنا السفر لاوروبا عبر البحر ، ووجدنا ضالتنا من تجار البشر ودفعنا ما علينا ، وتم ادخالنا المخزن وهو طبعا المكان الذي تنطلق منه الرحلات البحرية وكان ذلك قبل اربعة أشهر ، وكان  اخي وزوجته واطفاله الاثنين فرحين بما يسمعونه عن أوروبا ، والمعاملة الكريمة التي نفتقدها في بلادنا ، ودخلنا المخزن جميعا وكان بمدينة الاسكندرية ، حتي حضر المهربين بعد ثلاثة ايام ، واقتادونا جميعا بسيارة نصف نقل حتى توصلنا جوار الشاطئ ، وكنا حوالي (40) شخص وركبنا علي ظهر السيارة وجلسنا جميعا في ارضية السيارة ، قام المهربين بانزال غطاء كبير فوق صندوق السيارة حتي لا ترانا السيارات التي نلتصق بها ، واصبح الجو خانق فقلت في نفسي انها دقائق ، وقبل أن  تتحرك السيارة بدأت بنت اخي الصغيرة تسعل ويبدو انها لم تستطيع التنفس فاوقفت السيارة ، وقال السائق للمهرب هؤلاء الاطفال لا يستطيعون التحمل فيجب ان ننزلهم حتي لا يقبض علينا ، واستجاب المهربين لحديثه وطلب من اخي وزوجته واطفاله النزول ، ونزلت معهم فقالوا لي :اركب انت وهم سوف يلحقون بك في السفينة اليوم ، نظرت لأخي فطلب مني أن اذهب وهو سيلحق بي ، ودعته وركبت السيارة من عدد كبير من المهاجرين ، وماهي الا ساعات حتي كنا في ظهر السفينة ، التي كانت تقف مسيرة ساعات من الشواطي المصرية .
واكتمل اليوم ولم يظهر قارب ، وقبعنا خمسة ليالي كلما ظهر قارب ظننت فيه اخي وزوجته وطفلتيه ، ولم يظهروا ، وراودني احساس بانه تم القبض عليهم ، حتي وصلنا ايطاليا بحمدالله ، واتصلت بالمهرب وسالته وقال لي تحركوا قبل يوم او يومين ، وانتظرتهم في ايطاليا لأيام فلم يظهروا وخفت ان يكونوا وصلوا ايطاليا ، وغادروها مباشرة فالخطوط كثيرة ، والمواني متعددة ، تحركت حتي وصلت فرنسا ، اربعة شهور لم اسمع عنهم شيئا ، لا هم ولا سفينتهم ، بينما كان يحكي والطعام امامنا حتي الآن لا اعرف ماذا كنت أكل ، لم أذق طعم  الطعام ؛ لأني أعلم بأمر هذه السفينة التي غادرت اسكندرية يوم (2016/8/19) وفي بطنها اكثر من (300) مهاجر ، وحتي الآن لا يعرفون اين ذهبت ، اختفت بلا دليل ، وفيها اثنان من ابناء منطقتنا 
لم استطيع ان اخبره ، وكتمت الأمر في نفسي ، وصمت صمت القبور ، تحول كل شئ امامي لظلام ، وعرفت سرتحمل هذا الشاب  لهذا البرد ، وحق له أن يكره فرنسا ، ويحس أنها كذبة كبري ، ولا تزال كلماته في اذني ، وهو يحكي عن والدته المريضة بالسكري وهي يوميا تتصل به لتساله عن اخيه وزوجته  وابناءه ،وهو يبكي ولا يملك الرد ، فيغلق الهاتف بهدوء ، ويصرخ مع نفسه كل ليلة ، لقد اختفوا في قاع البحر الأبيض  .
وحتى كتابة هذه السطور بتاريخ 2016/12/14 م لم يظهروا أربعة أشهر إلا عدة ايام . ولا أحد يعلم أين ذهبت هذه السفينة.
أساءلك بالله أيها البشير ماذا فعل لك شعبنا ؟؟! حتي تعاقبه مقبورا ، وتائها بحرا وجوا. 
ودعوت في سري :
– اللهم نسالك بان ترفع عنا هذا البلاء وتولي فينا من يصلح ..
بعدها لم استطع الجلوس معه أكثر من ذلك اذ شعرت بغصة تسد حلقي ، وشعرت بحرارة في جسمي رغم شدة البرد،واحسست اني محتاج ان اتنفس هواءا نقيا، فاستئذنت وخرجت مثقل القدمين…

Ghalib Tayfour

Print Friendly, PDF & Email

عن laalaa

شاهد أيضاً

أصدر تحالف قوى الاجماع الوطني احد مكونات قوى الحرية والتغيير بيانا،انتقد فيه الميزانية التي اجازتها الحكومة الانتقالية

Share this on WhatsApp#الهدف_بيانات أصدر تحالف قوى الاجماع الوطني احد مكونات قوى الحرية والتغيير بيانا،انتقد …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.