الثلاثاء , أبريل 30 2024
ardeenfr
أخبار عاجلة
الرئيسية / أخبار لالا اليومية / بيوت الأشباح قصة نزيل الزنزانة رقم (19)

بيوت الأشباح قصة نزيل الزنزانة رقم (19)

__________________
دكتور مأمون محمد حسين: المحكمة العسكرية حكمت عليّ بالإعدام شنقاً حتى الموت
__________________
في “بيوت الأشباح” تكون مُتوتِّراً بسبب ما يُمارسونه ضدك من ضغوط رهيبة وإهانات واستفزازات
__________________
حارس بوّابة المُعتقل اتّجه نحوي قائلاً: إنت يا دكتور لسة ما شنقوك؟!
__________________
ضباط الأمن كانوا يقولون لنا في المعتقلات: (نائمين والناس بموتوا في الجنوب)
__________________
“دكاترة شنو.. الطب كلو كتابين كتاب الدواء وكتاب العلاج”
__________________
كانوا يتوجّهون إليك بسؤال إنت شيوعي، فأقول لهم “أنا ما شيوعي”
__________________
بعد أن انتهى رئيس المحكمة من حديثه انبرى ممثل الاتهام بإلقاء خطبة الاتهام بكلام “خارم بارم”
__________________
تُهمنا أننا تسبّبنا في تعريض أمن الدولة للخطر، والاتصال مع حركة قرنق كان جريمة
__________________
إدارة السجن تخصِّص الزنازين (الشرقيات) و(الغربيات) للمحكومين بالإعدام
__________________
رفيقاي في الزنزانة الموحشة الشابان “مجدي محجوب وعلي المريود” وكانا ينتظران تنفيذ حكم الإعدام بتهمة الإتجار في العملة
__________________
مجدي كان شاباً في منتصف الثلاثينيات من عمره، وقد واجه الموت بشجاعة مُتناهية
__________________
كنا نسمع بحكم قرب زنزانتنا من حجرة الإعدام، صوت المشنقة وهي تُعد طوال نهار اليوم
__________________
عند إعدام أي شخص فإنّكم تقتلون معه (40) محكوماً منتظرين
__________________
تكاد تلامس الصدق ينضح في ثنايا كلماته وهو يُحدِّثك عن تجربته مع حبل المشنقة التي قارب عنقه كحبل وريدها لخمسة أشهر أو يزيد، من ديسمبر 1989 حتى مايو 1990.. ولزهاء السَّاعتين جلس نائب نقيب الأطباء الأسبق الدكتور مأمون محمد حسين يروي تفاصيل الحكاية، وكيف أنّه وقف ينتظر المَوت في كُل لحظة بعد صُدور حكم الإعدام ضده على خلفية إضراب الأطباء الشهير في 1989م، وبالرغم من مرارة القصة وقتامة فصولها، لكن شعوراً يعتريك بأن الرجل ليس حاقداً على من زُجِّوا به في غياهب السجن أو أدنوا عنقه من المشنقة، بل تجده أقرب للرثاء والشفقة عليهم من بُؤس ما صنعوا ومن زيف ما كانوا يدعون.
الخرطوم: خالد فتحي – جمال إدريس
(1)
في هدوء جراح يشق بطن مريض، أخذ الدكتور مأمون يسترجع كيف بدأت الأحداث وتصاعدت وتائرها ثم توالت عاصفة في تلك الأيام التي كان فيها فوران انقلاب الإنقاذ لا يقبل القسمة على الإطلاق على اثنين.
يوم تحول الوطن كله إلى سجن كبير وأضحى الجميع خلف أسواره مثار شكوك إلى أن يثبت العكس.
يقول الدكتور مأمون، إن إعلان الإضراب لم يستغرق سوى دقيقتين، عندما وقف في العاشر من نوفمبر 1989م أمام حشد من الأطباء داخل قاعة البروفيسور داؤود خالد، ليقول كلمات لا يزال صداها يرن في أذنه: “السلام عليكم، بسم الله الرحمن الرحيم (والعصر إن الإنسان لفي خسر، الا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر)، حسب قراركم السابق سيكون الإضراب عند الساعة العاشرة صباح السبت “مع تغطية الحوادث، مع تغطية الحوادث، مع تغطية الحوادث” كرّرها ثلاث مرات، – فقد كان الرجل أكثر أعضاء النقابة إصراراً على ضرورة تغطية الحوادث – وقُوبل إعلان الإضراب بتصفيق عاصف وهتافات قوية، ارتجّ لها المكان فقد كانت المشاعر مُفعّمة ولا يزال الأمل في استعادة الديمقراطية التي ضاعت أو ضيعت منذ أشهر قليلة غضاً طرياً يُراود النفوس.
وخرج دكتور مأمون بعد أن انفضّ الاجتماع، قاصداً منزل شقيقه “الرشيد” في ضاحية الطائف بالخرطوم، رغم شُعوره بأن الرقابة الأمنية تكاثفت حوله أكثر من ذي قبل، لكنه لم يكترث، فقد كان يعلم آنفاً كما أبلغه أحد أصحاب المحال المُواجهة للمستشفى أن سيارته تُخضع لتفتيش دقيق بصورة يومية، ووصل الى منزل شقيقه بعد أن أفلت من الرقابة إلى حين .
وعند الساعة الثانية فجراً، داهمت قوة أمنية منزل أسرته في الخرطوم (2) لكنهم لم يجدوه وأجبروا من بالمنزل على الاتصال بمنزل شقيقه للاستفسار عن مكانه، ومن خلال الحديث الذي دار على الهاتف استشفوا أنه هناك فأسرعوا إليه.
وبينما كان نائماً دخل عليه شقيقه “الرشيد” وأيقظه قائلاً: “مامون في ناس عايزنك برّه”، وأثناء حديثهما اقتحموا عليهما الحجرة وطلبوا من الدكتور مأمون بلهجة آمرة جافّة خالية من الرفق مُرافقتهم، وحملوه في سيارة صغيرة، بعد أن عصبوا عينيه، وداخل العربة جلس اثنان بجانبه أحدهما على يمينه والآخر على يساره، وانطلقت بهم السيارة دون أن يخبروه إلى أين يأخذونه.
وفي عسعس الليل البهيم حملوه حتى وصلوا إلى أحد معتقلات الأمن التي اشتهرت وقتها بـ”بيوت الأشباح”، دفعوا به داخلها بعنف وقسوة، وهناك أشبعوه ضرباً وصفعاً وركلاً.
تتخلّلها عبارات استفزازيةٌ وإهاناتٌ سخيفةٌ، دُون مُراعاة لكبر سنه كما يقول، حيث كان قد تجاوز الخمسين من عُمره وقتها.
ولم يتحمّل جسده قسوة التنكيل والتعذيب فسقط فاقداً الوعي.
ولم تحرك سقوطه مغشياً عليه، من أفراد الأمن الذين قست قلوبهم شيئاً، وبادروا بسحبه بعد أن تكوم على أرضية الغرفة بلا حِرَاكٍ إلى مكان آخر، لم يلبث فيه إلا قليلاً بعد استعادته الوعي، حتى سُحب إلى حمام ضيِّق به “بانيو” يكاد يملأ ثلاثة أرباع من مساحته وداخله كان يوجد (15) مُعتقلاً  تقريباً، وما زاد الأمر سُوءاً أن الأرضية كانت (طافحة) بمياه آسنة، ارتفعت بمقدار خمسة سنتمترات تقريباً.
وتوزع المعتقلون داخل الحمام وقوفاً على الأرجل وفئة اختارت الوقوف على حافة البانيو.
ويمضي الدكتور مأمون ليقول: وهؤلاء من استقبلوني وأجلسوني على مقعدٍ، لكنني لم أستطع الجلوس من آثار الضرب ولما ظهر عليّ الإعياء الشديد، قام المُعتقلون بطرق الباب بعنف لتنبيه الحُرّاس الذين جاءوا والضجر يرتسم على وجوههم، وذهبوا بي إلى حجرة أخرى وأعطوني محلولاً وريدياً “دِرِبْ”.
وبعد إفاقتي صباحاً وجدت نفسي داخل مكتب وحولي مجموعة من المُعتقلين عرفت منهم الكثير أطباء ومهندسين وعُمّالاً وغيرهم، ولم نلبث إلا قليلاً حتى عاد رجال الأمن يرسلون علينا شواظاً من لهب الإهانات والاستفزازات دون أدنى احترام أو تقدير لأعمارنا أو أعمالنا، وحتى دون مُراعاة لأية قيمة أو فضيلة من القيم أو الفضائل الإنسانية أو الأخلاقية التي يتّصف بها السودانيون عموماً.
وأذكر أنه في إحدى المرات كنا في حلقة لتلاوة القرآن الكريم، فجاء أحدهم وأطفأ النور “اللمبة” فذهبت إليه قائلاً: “يا ابني نحن بنقرأ قرآن ولِّع النور لو سمحت”، ولم أعِ منه سوى هَمهمات غاضبة ومسيئة.
ولم يكتفوا بذلك فقد كانوا يدخلون علينا ليُثيروا الذُّعر وليمنعوننا من النوم ويُوجِّهون حديثهم إلينا “نائمين والناس بموتوا في الجنوب”، “دكاترة شنو الطب كلو كتابين كتاب الدواء وكتاب العلاج، أي واحد يقراهم ويعرف أي شئ”.
كان هذا الأمر يتكرّر بنفس العبارات وبذات الطريقة دون أن تتغيّر كلمة واحدة أو تتزحزح من مكانها، كأنّ ذلك الشخص يسمعها عليك من شريط. ويضيف الدكتور مأمون قائلاً: جلسنا كذا يوم في المُعتقل وكما كان الاعتقال إهانة وتقريعاً، كان ما يسمونه استجواباً أو تحرياً شيئاً من ذات القبيل، مثلاً يتوجّهون إليك بسؤال إنت شيوعي، فأقول لهم أنا ما شيوعي، كنت عضواً في الحزب لكنني فارقته منذ العام 1970م ولم أعد إليه مرة أخرى، الأمر كان استفزازاً ولم يكن استجواباً.
(2)
يقول د. مامون: في عصر ذات يوم اقتادونا من المعتقل أنا والدكتور سيد  محمد عبد الله والدكتور جعفر محمد صالح والدكتور انقوق، وخرجوا بنا على سيارة نصف نقل “بوكس” دون أن يخبرونا إلى أين نحن ذاهبون، حتى وصلنا إلى جنينة السيد علي الميرغني بالخرطوم وأدخلونا إلى حجرة صغيرة وبعد قليلٍ، دخل ثلاثة أشخاص لا أذكر أسماءهم، وبعد أن استووا على مقاعدهم، أبلغونا أنهم أعضاء هيئة المحكمة العسكرية التي ستقوم بمحاكمتنا، وبأننا نملك حق الدفاع عن أنفسنا أو الاستعانة بصديق، لطلب الاستشارة القانونية التي يمكن أن تمحنها إيانا المحكمة نفسها، يعني “زيتنا في بيتنا”.
بعد أن انتهى رئيس المحكمة من حديثه، انبرى ممثل الاتهام بإلقاء خطبة الاتهام بكلام “خارم بارم”، كنا نضحك منه مثل تسببنا في تعريض أمن الدولة للخطر، والاتصال مع حركة قرنق، وكلام كثير لا أوّل له ولا آخر.
وبعد فراغه، طلبنا من المحكمة إمهالنا فرصة للتشاوُر، وبالفعل استجابت المحكمة لالتماسنا ورفعت الجلسة لـ(15) دقيقة، واقترحت على رفاقي الاتصال بمُحامين على الأقل ليعلم أهلنا أين نحن باعتبار أن أخبارنا انقطعت عنهم منذ اعتقالنا.. وأيضاً استجابت المحكمة لالتماسنا بالاستعانة بصديق.. ونجحت خطتنا لأنه عندما انعقدت بعد يومين، ظهر بعض أهلنا في المحكمة، وبعد جلستين أو ثلاث حكمت المحكمة العسكرية علي بالإعدام شنقاً حتى الموت، وعلى الدكتور سيد محمد عبد الله بالسجن (15) عاماً، وبراءة الدكتور جعفر محمد صالح والدكتور انقوق، باعتبار أنّ الدكتور جعفر الذي كان يشغل حينها مدير مستشفى مدني لم يكن مُلِمّاً بتفاصيل الإضراب، فقد جاء إلى الخرطوم لقضاء بعض الأعمال وتصادف مجيئه مع إعلان الإضراب، بينما تمثّلت جريرة سيّد في أنّه ظهر بجانبي أثناء إعلاني الإضراب، وكان يَتَحَرّك خلف المَنَصّة.
وعلمت لاحقاً أنّ الشاب الذي حاكمني دخل في أزمة ضمير بعد ان راجعه البعض في قساوة الحكم وعدم ملاءمته لمجريات العدالة، فكان يتعلّل بأنه كان يُطبِّق اللائحة فقط.
وعن وقع حكم الإعدام عليه، يؤكد محدثنا في شهادته على تلك الأيام قائلاً: كنت مرتاحاً جداً لأننا سنغادر المعتقل ونمضي إلى سجن كوبر، لأنك في “بيوت الأشباح” تكون متوتراً بسبب ما يُمارسونه ضدك من ضغوط رهيبة من إهانات واستفزازات من قبيل “والله ما نخليك والله إلا نكتلك”.
ولا أنسى في إحدى المرات ونحن عائدون من إحدى جلسات المحكمة الصورية، توجّه حارس بوابة المعتقل بحديثه نحوي قائلاً “إنت يا دكتور لسه ما شنقوك”؟!
(3)
ويمضي نقيب الأطباء الأسبق ليقول: كان من نصيبي عندما وصلت إلى سجن كوبر أن أكون نزيلاً على الزنزانة رقم (19) التي تقع ضمن الزنازين الشرقية للسجن العتيد، أما الدكتور سيد محمد عبد الله فتم اقتياده إلى زنازين تسمى (المعاملة).
وللذين لا يعلمون، فإن إدارة السجن تخصِّص الزنازين (الشرقيات) و(الغربيات) للمحكومين بالإعدام، وهي حجرات مفتوحة على بعضها، تفصل بينهما ساحة صغيرة (حوش)، يتجوّل فيها المحكومون عند فتح الزنازين، من الثالثة عصراً حتى السادسة مساءً، لكن غير مسموح لهم على الإطلاق مُغادرتها إلى مكان آخر داخل السجن، قبل أخذي إلى الزنزانة مررت بإجراءات السجن المعتادة أو الروتينية، حيث تقوم باستبدال ملابسك وتُمنح (بِرِش) للنوم، و(كوز) للشرب.
وقتها كان عدد المحكومين بالإعدام (40) نزيلاً تقريباً بالزنازين الشرقية، وكان من نصيبي أيضاً أن يكون رفيقي في الزنزانة المُوحشة الشابان “مجدي محجوب” و”علي المريود” وكانا ينتظران تنفيذ حكم الإعدام بتهمة الإتجار في العملة، ولاحقاً أُعدم مجدي في حين أفلت المريود من الموت، ومن الأشياء التي لا تُنسى إنني عندما دخلت الزنزانة لأول مرة، وجدت نفسي مُستغرباً من تبادُل صاحبي السجن الحديث بصوتٍ مُرتفعٍ، وطلبت منهما أن يخفِّضا صوتهما قائلاً: “إنتو ما توطوا صوتكم شوية بتتكلموا بصوت عالي كده ليه”، حيث كنا في المُعتقل لا نتبادل الحديث إلا هَمساً، واكتشفت فيما بعد إنهما كانا يتحدثان بطريقة عادية وليس بصوتٍ مرتفعٍ، لكنها كانت إحدى طبائع المعتقلات التي غلبت على نفسي في ذلك الوقت.
وداخل السجن، وجدت معاملة مُحترمة من لدن مدير السجن آنذاك اللواء الكامل محمد سليمان، وكل ضباط السجن الآخرين، معاملة لم أجد لها مبرراً أو تفسيراً حتى اليوم، لكني أشهد بأنهم تجاوزوا كل الأعراف والقواعد المتبعة داخل السجن وجعلوا الزيارة مفتوحة في أي وقت بالرغم من أن زيارة المحكومين بالإعدام تكون مرتين فقط في الشهر، كما وضعت عنا الأغلال التي كانت تُكبّل أيدي وأرجل المحكومين بالإعدام كما جرت العادة، بل وصلوا درجة بأن عرضوا عليّ السماح باستجلاب سرير ومرتبة وارتداء ملابس عادية، لكنني رفضت السرير والملابس، واكتفيت بمرتبة فقط بسطتها على أرضية الزنزانة.
وأضاف الدكتور مأمون بضحكة خفيفة ومن “جاهي” نهل مجدي ومريود من ذات الميزات. وعَبْرنا نحن الثلاثة خُفّفت عن نزلاء (الشرقيات) قيود كثيرة.
مجدي محجوب وعلي المريود اللذين قاسما  د. مامون في الزنزانة، كان محكوماً عليهما بالإعدام أيضاً في قضية تتعلّق بالإتجار في العملة التي كان محرماً وقتها.
ويقول دكتور مأمون: مجدي كان شاباً في منتصف الثلاثينيات من عمره، وقد واجه الموت بشجاعةٍ مُتناهيةٍ، ولم يكن خائفاً من مصيره أبداً، وأذكر أنه عندما حانت لحظة إعدامه وقف قبالة الزنزانة قائلاً: «مأمون وعلي مع السلامة وشدُّوا حيلكم».
ولك أن تتخيّل هو ذاهبٌ إلى الموت وهو شابٌ صغيرٌ، ورغم ذلك يصبرنا.. وكان تنفيذ الإعدام يتم في وقتٍ مُتأخِّرٍ من الليل، والمُحزن في الأمر أننا كنا نسمع بحكم قُرب زنزانتنا من حجرة الإعدام، صوت المشنقة وهي تعد طوال نهار اليوم، ثم عندما يبدأ التنفيذ ليلاً ويرفع الشخص حتى يهوى بجسده في الفراغ. كل هذا تسمعه بأذنيك وأنت جالسٌ في مكانك. تلك كانت من أصعب اللحظات التي مرّت علينا، وأذكر أيضاً أننا ظللنا لأكثر من ثلاثة أيام في جو خانق بعد إعدام مجدي حتى انجلت القتامة بعد مدة ليست بالقصيرة، وبعدها طلبت من أحد ضباط السجن واسمه «الجمري» على ما أذكر أن يبلغ مدير السجن طلبنا بإبعاد المقصلة عن الزنازين.
وقلت له: «عند إعدام أي شخص فإنكم تقتلون معه 40 محكوماً منتظرين».. لكن شيئاً من هذا لم يُنفّذ وظَلّ الوضع على ما هو عليه، وبعدها جرى إعدام اركانجلو والقبطي جرجس الذي حل نزيلاً معنا في الزنزانة بعد إعدام مجدي، لكنه مضى مثله بعد أن تولدت بيننا صلات جميلة.
ويواصل دكتور مأمون ذكرياته ويقول: أصدِّقكم القول، فبالرغم من كل ما كان يحدث أمامي، لكنني والحمد لله لم أكن خائفاً على الإطلاق، قد لا يصدق البعض حديثي هذا لكنها الحقيقة، لقد قذف الله سبحانه وتعالى إيماناً ويقيناً في قلبي أبحث عنه الآن ولا أجده.
وتحضرني حادثة أحب أن أرويها، بطلتها شقيقة زوجتي التي أغرقت وجهها بالدموع في إحدى الزيارات، قبل أن تتحول إلى البكاء بصوٍت مُرتفعٍ، فقلت لها «إنتي عارفة روحك حتموتي متين؟ قالت لا، قلت ليها خلاص أنا وإنتي واحد، وإنتي بدل ما تبكي عليّ أبكي على روحك». وكنت أصبرها قائلاً «كلنا حا نموت والله وحده من يدري متى وأين وكيف وفي أي أرض نموت».
وهذه الكلمات كنت دائماً أردِّدها بيقين كامل أمام كل الذين زاروني في السجن، حقاً لم أكن مكترثاً بالإعدام الذي ينتظرني، ولم أشغل بالي بشئ و«رامي حمولي على الله» كما يقولون، وفي تلك الأثناء وبعد أن قضيت عدة أشهر بالسجن، كانت المعلومات تتسرّب بين حينٍ وآخر بأنّ النظام لن يجرؤ على تنفيذ حكم الإعدام، ولاحظ الكثيرون بأنّ الحكومة نفسها كانت (مُجهجهة) ولا تدري ماذا تفعل بنا خَاصّةً بعد الضغوطات الداخلية والخارجية الرهيبة التي واجَهتهَا منذ الوهلة الأولى.
(4)
ومِمّا يجدر ذكره بأنّ وزير الداخلية حينها اللواء فيصل علي أبو صالح جاء لزيارتي ليلاً، حيث جاء أحد الحُرّاس وأيقظني من النوم ولفتت الحركة انتباه نزلاء الزنازين «الشرقيات والغربيات».
وظنّ الكافة وأنا منهم أن لحظة الشنق قد حانت، لكن الشاويش طمأن الجميع بأن لا شئ سيحدث، وبالفعل وصلنا إلى مكتب الضابط المناوب ووجدت الوزير وفي معيته عددٌ من الضباط، ووجّه حديثه اليّ قائلاً «قالوا عذّبوك في المعتقل، أنا جيت عشان عايز أشوف آثار التعذيب»، لكنني رددت عليه قائلاً: أنا لم أُعذّب أنا ضُرِبت فقط، والذي ينظر إلى الضرب على أنه تعذيبٌ «راجل جبان».
ولماذا تريد أن تشاهد آثار التعذيب أصلاً.
فقال لي «أعفو عنا».. فقلت له أنا رجلٌ ذاهب إلى الموت.. «عافي ليكم».. لكنه عاد مرة أخرى وأصرّ على رؤية آثار الضرب، ولما شاهد آثاره على ظهري وقدمي قال مرة أخرى وبتأثر شديد هذه المرة «أعفي عننا»، عندها قلت له إنني أريد أن أقول لك شيئاً، لا أقوله لتطلق سراحي، لكن لأنها الحقيقة، أنا كنت مُعترضاً على إعلان الإضراب في الأساس، ولكني أيّدته عند إعلانه، لأنه كما يقول الشاعر «هل أنا إلا من غزية أن غوت غويت وإن ترشد غزية أرشد».. فلم يكن من الرجولة أو الشهامة خذلان رفاقي حتى لو دفعت حياتي ثمناً لهذا الأمر، فلم يزد سوى أن قال لي: أبشر.
وبعد خمسة أشهر، أصدرت الحكومة قراراً بالعفو عني وإطلاق سراحي بعد مجهود بُذل من قِبل أصدقاء وأقارب وضغوط داخلية وخارجية، بينها خطاب بعث به الأمين العام للأمم المتحدة آنذاك خافيير بريز دي كويلار إلى الحكومة طالباً عدم إعدامي، وأذيع نبأ الإفراج عن شخصي ومعي الدكتور سيد محمد عبد الله بالتلفزيون، وضجّت الزنازين بالهتاف وعمّت الفرحة أرجاء السجن، لقد كانت لحظات رائعة بحق، حيث حملوني على الأعناق حتى وصلت إلى عنبر «المعاملة» مكان احتجاز زميلي سيد، والذي كان يمتلئ بالسجناء السِّياسيين، وهناك تحوّل المشهد إلى لوحة أسطورية من الهتافات والغناء والضجيج وحملوني على الأكتاف وطافوا بي بين الزنازين، وبعد أن خرجت من السجن اقتادوني إلى جهاز الأمن، وهناك طلبوا مني كتابة تعهُّد بعدم تكرار ما حدث، وعندما وقّعت على الإقرار نظر الضابط إليه قائلاً «بي امضتك الصغيرة دي عاملين الزحمة دي كلها»..؟
#الحراك_السياسي

 

Print Friendly, PDF & Email

عن laalaa

شاهد أيضاً

حزب المؤتمر السوداني تصريح صحفي

Share this on WhatsAppحزب المؤتمر السوداني تصريح صحفي طالعنا البيان المؤسف الصادر من سكرتارية اللجنة …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.