الأحد , مايو 19 2024
ardeenfr
أخبار عاجلة
الرئيسية / أخبار لالا اليومية / كنت حضوراً يوم مشهده العظيم تنفيذ حكم الإعدام على الأستاذ محمود محمد طه

كنت حضوراً يوم مشهده العظيم تنفيذ حكم الإعدام على الأستاذ محمود محمد طه

د.  أبوذر الغفاري بشير عبد الحبيب

هذا المقال مقتطف من كتاب قيد الاعداد بعنوان (مذكرات طالب بكلية القانون)، أروي فيه لحظات تنفيذ حكم الإعدام على الأستاذ محمود محمد طه صبيحة يوم 18/1/1985، وقد كنت حضوراً في ذلك اليوم.

الجمعة 18 يناير 1985
أعلن أن تنفيذ الحكم على الأستاذ محمود سيكون صبيحة الغد يوم الجمعة 18 يناير 1985عند العاشرة صباحاً بساحة سجن كوبر. فاستيقظت في ذلك اليوم مبكراً، وعقدت العزم على حضور ذلك المشهد، فتحركت حوالي الساعة السادسة من غرفتي بداخلية النشر قبل أن تبزغ الشمس، وعبرت جسر النيل الأزرق سيراً على قدمي. والمسافة بين داخلية النشر التي أسكن فيها وسجن كوبر قريبة، فلا يفصل بينهما سوى النيل الأزرق وبعض المباني التي تتبع لقوات الشعب المسلحة في الضفة الأخرى من النيل الأزرق. وقد كانت الحركة هادئة في تلك اللحظات، إلا من بعض السيارات وبعض المارة، فاليوم لا يزال مبكراً والطقس تطغى عليه برودة الشتاء، ولا تزال المدينة تغط في نومها ولم تستيقظ بعد. وحين وصلت إلى محيط السجن اختلف الأمر، فقد أحاطت عدد من المركبات والآلات العسكرية بساحة السجن من جهته الشمالية، واصطف عدد من الجنود بملابسهم العسكرية. وتكاد تكون أنوار الساحة مضاءة بكاملها، كما أن بابها الكبير مغلق، ويمر حراس السجن جيئة وذهاباً على أعلى سور الساحة، ولا يوجد أحد من الجمهور سوى بضعة أشخاص جاءوا مثلي لحضور التنفيذ. كما ظهر للعيان الجزء العلوي من المشنقة بأعمدته الحديدية الأربعة بلونها الأحمر القاني، فوقفت أنتظر فتح باب السجن حتى يمكنني الدخول.

ما هي إلا لحظات حتى بدأت تتزايد أعداد الجموع الوافدة، فمئات من القادمين يردون أفراداً وجماعات ويستقرون في الميدان الشمالي من السجن، في انتظار فتح باب ساحة التنفيذ. وحين اقتربت الساعة الثامنة طلب العساكر من الحضور الاصطفاف في ناحية السور الشمالية، ابتداءً من باب الساحة الكبير باتجاه الشرق نحو جسر القوات المسلحة، فأسرع الناس للوقوف حتى صار الصف طويلاً طويلاً، وكان دوري أن وقفت ضمن العشرة الأوائل الذين اصطفوا، ثم بدأ الجنود حركة تفتيش مكثفة ليس مرة ولا مرتين وإنما عدداً من المرات، يطال التفتيش فيها المرء من رأسه حتى أخمص قدميه. وما أن ينتهي تفتيش حتى يبدأ آخر. وكان العساكر الذين يقومون بمهمة التفتيش يأخذون كل شيء يجدونه لدى أي شخص يقف في الصف. وأذكر أنه كان بجانبي شخص يحمل مذياع جيب صغير، فطلبوا منه تسليمه لهم، لكنه مانع واحتج بأنه جندي في القوات المسلحة وأن ما يحمله لا يعدو أن يكون مذياعاً وليس أي جهاز يشكل خطراً، إلا أن ذلك لم يشفع له ولم تجد حجته أذناً صاغية، فطلبوا منه أن يسلم المذياع أو يغادر الصف، ففضل أن يغادر. وتطلعت ببصري إلى آخر الصف فلم ألحظ له نهاية، وبدا لي أن الجموع التي تداعت للحضور أكبر عدداً من أن تقدر.

دنت الساعة التاسعة صباحاً ففتح العساكر باب الساحة، وطلبوا من الحضور السير في طابور على نفس الهيئة التي كانوا عليها في الصف، والدخول فرداً إثر آخر، والجلوس في الساحة ابتداء من حائط السجن الشرقي. وكان نصيبي أن جلست في الصف الأول المقابل للحائط، وهو بعيد نسبياً عن المشنقة المنصوبة في وسط الميدان. فكنت كلما اكتمل الصف أغافل عين الرقيب وأنتقل للصف الذي يليه، واستقر بي الأمر أخيراً في أقرب الصفوف إلى المشنقة. وحين اكتملت الصفوف أغلق باب السجن وتم الاكتفاء بالذين جلسوا على الأرض. ثم جيء بأشخاص يلبسون ملابس مدنية، وخطر في ذهني أنهم من عساكر جهاز الأمن، وقفوا بين الجماهير والحائط الحديدي الذي يفصل بين المشنقة والجماهير. كما وقف عدد من عساكر السجن في هذه المنطقة للحراسة ومراقبة الجمهور.

ساحة السجن فسيحة من الداخل، يقسمها سياج حديد خفيف إلى نصفين، ويفصل بين قسميها الشرقي والغربي، فجلسنا على الجزء الشرقي منها. أما الجزء الغربي فقد بنيت في أقصاه غرفة الانتظار، التي يبقى فيها المحكوم عليه ريثما يتم استدعاءه للتنفيذ. وهي غرفة بيضاء اللون لها باب شرقي صغير يتجه مباشرة نحو المشنقة، وكان مغلقاً حين دخلت الساحة. ويبدو أن الأستاذ محمود قد جيء به إلى هذه الغرفة قبل دخولنا الساحة، فلم ألحظ منذ أن دخلت الساحة اقتراب شخص من الغرفة، ولم أكن أعلم حتى تلك اللحظة من بداخلها. وانتصبت أمام الغرفة مباشرة في وسط الساحة المشنقة بأعمدتها الأربعة العالية، ولونها الأحمر القاني. ويقود إلى أعلاها سلم صغير يصعد عليه المحكوم عليه للتنفيذ.

لم تعد تفصلنا عن الساعة العاشرة وهي الوقت المحدد لتنفيذ الحكم سوى عشرين دقيقة من الزمان، فجيء بعدد من المعممين وأصحاب الزي الأفرنجي من خلال باب صغير في أقصى الناحية الغربية التي تقود إلى مباني السجن، وعرفت أن بينهم قضاة ومستشارون قانونيون لهم صلة بالقضية، جلسوا على جانب الحائط الجنوبي من الساحة. ثم جيء من نفس الباب بتلاميذ الأستاذ محمود محمد طه الأربعة الذين صدرت أحكام بالإعدام في مواجهتهم مع وقف التنفيذ إلى حين استتابتهم، وتم إيقافهم على الحائط الغربي من السجن في المسافة الفاصلة بين الغرفة البيضاء والباب الصغير الذي يؤدي إلى المباني الداخلية. كان مشهداً مؤثراً ينفطر له قلب كل من له قلب. أربعة شباب يرتدون ملابس الإعدام وهم يرسفون في الأغلال، أتي بهم ليشهدوا إعدام أستاذهم ومرشدهم أمام أعينهم، قبل أن يتم تنفيذ الحكم بحقهم. لا أدري أي خواطر كانت تجول في دواخلهم وأي حديث كان يخامر عقولهم، لكني أعلم أن تلك اللحظات كانت فوق قوة احتمال أي شخص عادي.

من داخل مباني السجن كانت هتافات المساجين وأصداء أصواتهم المستنكرة لتنفيذ الحكم تتردد في أنحاء الساحة، دون أن تجد من يتجاوب معها من الحضور في الساحة. عدد من الهتافات تعلو وتقترب ثم تخفت، وصيحات أشخاص عالية تواصل صراخها (مليون شهيد لعهد جديد) و(لن ترتاح يا سفاح) ثم تخبو، وكأنما هناك شخص يطاردهم، أو كأنهم يقتربون من الساحة ثم يذهبون بعيداً. إلا أن الوضع المنفعل داخل السجن لا يشبه الوضع في ساحة التنفيذ، فقد تسيد الصمت الساحة، ولم يكن العساكر يسمحون بأي فعل يثير شكاً. فكل حركة تجري في هذا المسرح صامتة صمت القبور ومراقبة.

التنفيذ
صعد أحد عساكر السجن إلى سطح المشنقة وأمسك بحبلها وهزه بشدة، كأنه يريد أن يختبر صلاحيته ويتأكد من جاهزيته للمهمة المنتظرة، فظهر أنه مربوط في الأعلى بإحكام وأن عقدته ملتفة بقوة، ثم نزل. وذهب اثنان من العساكر نحو الغرفة البيضاء ففتحا بابها ودخلا، وما هي إلا دقائق معدودة حتى خرجا يتوسطهم الأستاذ محمود. هذه أول مرة تقع فيها عيناي عليه. رجل مربوع القامة أخضر اللون بلهجة أهل السودان، ليس به سمنة ولا نحافة، يلبس ملابس السجن وهي سروال وقميص قصير الأكمام من القماش القطني الخفيف الأبيض، وقد غُطي وجهه بقناع أحمر. وربطت يداه على وسطه بحبل سميك، كما قيدت يداه ورجلاه بجنزير حديدي، وينتعل حذاءً خفيفاً ناصع البياض من النوع الذي يطلق عليه السودانيون مركوب الجزيرة. سار خطواته القصيرة بين الغرفة البيضاء وسلم المشنقة وئيداً متزناً مرفوع الجبهة، ثم توقف قليلاً عند السلم، فخلع نعله اليمين ثم نعله اليسار وتركهما على حافة المشنقة، وصعد بهدوء حتى استقر على سطحها، متجهاً بكليته إلى جهة الشرق. ونزع السجان القناع الأحمر عن وجهه، فهاجت جموع المعارضين له مبتهجين وهم يرددون شهادة التوحيد.

كان وجهه مضيئاً كقرص الشمس التي تسقط ضوءها عليه، وارتسمت على شفتيه ابتسامة عريضة لونت وجهه بلون الفرح. ثم جعل يجيل بصره في الحاضرين حوله من اليمين إلى اليسار ومن اليسار إلى اليمين، وكأنه يتفرس وجوههم ويدقق في ملامحهم. هذا مستوى معجز من الثبات والشجاعة، فلا شيء في قسمات وجهه يوحي أنه مقدم على الموت ومغادرة الدنيا إلى الأبد.

هدأت عاصفة التهليل التي أثارها بعض المعارضين في الساحة، ولم تهدأ أصوات وحركة المساجين داخل السجن، فقد ظلوا يواصلون الهتاف العالي ويرددونه طوال الوقت بنفس الشعارات السابقة. وتقدم القاضي المكاشفي طه الكباشي إلى منبر صغير منصوب شمال المشنقة التي يقف عليها الأستاذ محمود، وقراً خطبة قصيرة استغرقت ما لا يزيد على خمس دقائق، تلى فيها أسباب الحكم بالاعدام وردد بعض الحيثيات التي استندت عليها المحكمة، وحيا فيها حكومة (جعفر المنصور) قاصداً بذلك جعفر نميري. وطاف بذهني، إذا كان هؤلاء الجلادون يقيمون حداً من حدود الله، ويعملون من أجل دين الله فلماذا زج باسم جعفر المنصور لأغراض السياسة في هذا المقام.

ركزت بصري على وجه الأستاذ محمود وهو يستمع لخطبة القاضي المكاشفي طه الكباشي، فلم يظهر على صفحته سوى الثبات ولم تفارقه الابتسامة المشرقة الأخاذة. ولم يزل يجيل بصره في وجوه الحاضرين يمنة ويسرة كأنه يودعهم فرداً فرداً. يا الله، هذه الشجاعة المتناهية في مقابلة الموت تفوق كل تصور، وتعجز كل الكلمات عن وصفها. سحرني هذا الوجه في وجه الموت، وتمنيت لحظتها لو أنني التقيت به من قبل، واستمعت إليه قبل أن يمر على تاريخ حياتي عياناً في هذه اللحظة الخاطفة.

حينما انتهى القاضي المكاشفي من خطبته، صعد السجان مرة أخرى إلى سطح المشنقة وأعاد القناع الأحمر إلى وجه الأستاذ محمود، ثم وضع الحبل حول رقبته ونزل، و كانت الساعة وقتها قد بلغت العاشرة وعشر دقائق. ثم داس الجلاد على مزلاج المشنقة، فانفتحت قاعدتها إلى نصفين وارتمى جسد الأستاذ محمود إلى أسفل. وهنا انطلق صياح الجمهور عالياً بالتكبير والتهليل، وتعالت أصوات مبتهجة بصورة هستيرية، والجسد معلق على المشنقة. وظل الوضع على هذا النحو عدة دقائق. ثم صعد اثنان من عساكر السجن يحملان نقالة مثل النقالات الطبية التي تستخدم لحمل المرضى في المستشفيات، ووضعاها على أرضية المشنقة، وصعد معهما رجل يلبس ملابس مدنية اتضح فيما بعد أنه طبيب. فرفع السجانان الجسد ووضعاه على النقالة، ونزعا القناع الأحمر، فبدا وجهه وكأنه يخلد إلى هجعة صغيرة، محفوفاً بالبهاء الذي لم يفارقه منذ أن نزع القناع الأحمر عنه وهو على سطح المشنقة. ثم حلا الحبل الذي قيدت به يداه إلى وسطه، فبانت طراوة الجسم ولينه، حتى أن اليد اليمنى ارتمت مبتعدة قليلاً عن باقي الجسد. وأخذ الطبيب في الكشف على الجسد مستخدماً يديه وسماعة طبية كان يحملها، فلمس يديه وكشف على صدره، ثم أعطى إشارة بيده تفيد أنه قد غادر الحياة، فحمل السجانان الجسد على النقالة ونزلا بها من سطح المشنقة، عابرين بها إلى داخل مباني السجن.

أعيد تلامذة الأستاذ محمود مرة أخرى إلى داخل السجن، وعاد الرسميون من القضاة والمستشارين الذين حضروا التنفيذ، من نفس الباب الذي دخل منه التلامذة، ثم فتح باب الساحة الكبير مرة أخرى لخروج الجمهور المحتشد من ساحة السجن. وقبل أن أغادر السجن أقلعت طائرة مروحية كانت ترابض غرب السجن، واتجهت نحو جهة الشمال الشرقي، وعرفت لاحقاً أنها الطائرة التي حملت جثمان الأستاذ محمود حيث  تم دفنه في الصحراء الممتدة غرب مدينة أم درمان، وأن اتجاهها للجهة التي سارت عليها أولاً ربما كان لأغراض التمويه.

 

Print Friendly, PDF & Email

عن laalaa

شاهد أيضاً

حزب المؤتمر السوداني تصريح صحفي

Share this on WhatsAppحزب المؤتمر السوداني تصريح صحفي طالعنا البيان المؤسف الصادر من سكرتارية اللجنة …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.