الثلاثاء , أبريل 30 2024
ardeenfr
أخبار عاجلة
الرئيسية / أخبار لالا اليومية / *❤️بابا: عايزة نت…!!*

*❤️بابا: عايزة نت…!!*

صغيرتي (مايا) بنت الأربعة سنوات ، وكلما تراني (مبحلقاً) في هاتفي ، باحثاً عن مستجدات الأخبار والأحداث ، تحمل هاتفها ( المتهالك) وتقف خلف الباب ، وتناديني بنبرة آمرة ( بابا: عايزة نت)!
أحياناً أستجيب (لأوامرها) تناولني هاتفها لإدخال كلمة مرور (الواي فاي) ، إذا كانت لدي قيمة معتبرة من باقات الإنترنت ، وحيناً أعتذر لها إذا كانت الباقة لا تكفي ، بمبررات أن الزمن قد تأخر يجب أن تنامي الآن وعند الصباح إن شاء الله  سوف أمنحك ما تريدين ، أو أن بطارية الواي فاي قد شارفت علي الإنتهاء ، وأحضنها بحنو الأب وأطبع قبلة علي جبينها وأحملها علي كتفي وأذهب بها إلي سريرها لتنام.

إن طلبها الملحاح والمتكرر قد فتح  أمام خاطري نفاجات من الأسئلة والمقارنات بين (جيلهم وجيلنا) ، وما أتذكره من هوايات قد كنا نمارسها عندما كنا صغاراً.

في أقصي شمال غرب مدينة لقاوة علي مسيرة يوم كامل تقريباً تقع قرية ( دبكاية الناير) التي شهدت بدايات طفولتي في بدايات الثمانينيات ، والتي تعرف أيضاً بقرية (الملم) حيث يلتقي عندها وأديا ( شلنقو والفار) ، وقد كانت الحياة فيها بسيطة كبساطة ساكنيها ، ولم نكن نعرف حينها شيء أسمها تلفزيون ناهيك عن مجرد السماع بالإنترنت ، فالمألوف عندنا هو  جهاز الرادي الذي لا يمتلكه إلا قليل من الناس الذين مكنتهم الظروف من زيارة المدن والبلدان الأخري أو المثقفين الذين نالوا نذراً يسيراً من التعليم ، وكان من الطبيعي أن تجد حلة بكاملها لا يتملك أحد فيها جهاز راديو أو من يستطيع قراءة جواب ( خطاب) ، ومن يصله جواب من قريب بعيد يجوب الحلال (جمع حلة) باحثاً عمن يقرأ له جوابه ، وليس غريباً البحث في القري المجاورة عن شخص يمتلك جهاز راديو للتأكد من ثبوت صيام شهر رمضان ، وكذلك تستخدم النقارة كوسيلة للإعلام  بضربات معلومة لإخبار سكان القري والبوادي أن شهر رمضان قد ثبت ويوم غدٍ هو أول أيام الصيام ، فالنقارة لها إستخدامات عدة في البادية في المسير وضياع شخص أو العثور عليه وغيرها من الإستخدامات المتعارف عليها وبضربات محددة لكل حدث يعلمها الجميع.
ظهر جهاز المسجل مع المغتربين العائدين من دول النفط بالخليج العربي ، وكل قادم منها يحمل معه كرتونة من أحجار البطارية وعدداً من أشرطة (الكاسيت) لعمالقة الفن السوداني أمثال محمد وردى ، ود اللمين ، عبد الرحمن عبد الله ، الكابلي ، إبراهيم موسي أبا ، عبد القادر سالم ، عثمان حسين ، عبد العظيم حركة وغيرهم ، فضلاً عن الهدايا والشاي والسكر والحلويات وكل مستلزمات الضيافة ، وتذبح الذبائح وتقام كرنفالات الأفراح التي قد تستمر لأسابيع ، وكنا نستمتع أيما إستمتاع بالرقصات الشعبية مثل النقارة والمردوم وأم قدرة ، ونستنشق (عبير) وأطاتنا المتطاير في الهواء بفعل قوة رقص الشبان والشابات الذي يعني لنا فيما يعني متانة العشق الأبدي للأرض والثقافة وروح الإنتماء.
إن هذه الإحتفالات والكرنفالات كانت تتيح فرصة شرب كميات معتبرة من الشاي (الباتيل) دون قيود ، ففي الظروف العادية كان الأطفال يمنعون من شربه أحياناً بسبب أباطيل بعض الخرافات.

ففي الساعات الأخيرة من ليل الكرنفال ، تجتهد حبوباتنا في تقطيع البصل وتحميره إستعداداً لوجبة فطور الغد ، ويتم إكرامهن بذبح(تيس سمين) تشجيعاً لهن ومقاومة السهر ، وقد كنا نستغل ضعف نظرهن ووهن عظامهن ونخطف قدراً من لحم البرمة (إناء الطبخ) ، دون أن يلاحظن ذلك ، ونجري بعيداً عنهن ونتقاسمه وكلنا سعادة بصنيعنا هذا ، وأيضاً كنا نلاحقهن في صاج المنون ( الزلابية) ولكن بخطة أكثر مكراً ودهاءًا ، ونقوم بتثبيت شوكة سميكة من نبات الطلح أو الهجليج في عصا من ساق الذرة أو العدار الجاف ، ونطعن بها الزلابية (المنون) في الصاج ونجذبها إلينا ونجري بها بعيداً ، ونكرر فعلتنا هذه مرات ومرات حتي نشبع ، وأحياناً يتم إكتشاف مخططاتنا ونطرد شر طردة ، ونجري للإحتماء بزريبة الغنم أو الإختباء خلف قفص الجداد ، وسرعان ما نفكر في وسيلة أخري أكثر نجاعةً ، ولا يهزمنا إلا النعاس والنوم!.
في الأيام العادية إن برنامجنا لا يتعدي الذهاب لخلوة جدنا الفكي المأمون عليه الرحمة لحفظ القراءن وتعلم مباديء القراءة والكتابة ، إلا أن الطريقة التي كانت تستخدم في التدريس وما يصاحبها من عنف وأكل أم دفانة (أشبه بالرغيف وتصنع من عجينة دقيق الذرة ويضاف لها الماء والملح وتطمر في الرماد الحار ، وتؤكل ساخنة) والقيود من الذهاب للعب وغيرها ، جعلتنا ننفر من الخلوة وندعي المرض أحياناً حتي لا يتم إجبارنا للذهاب لدروس الخلوة ، وكلما يغفو جدنا الفكي المامون نهرب متسللين إلي بيوتنا أو إلي الوادي القريب لممارسة هوايتنا المفضلة في مطاردة الطيور والحيوانات الصغيرة كالصبرة والأرانب ، ولكن صيد الطيور من الهوايات المحببة إلي نفوسنا ، ومن وأجباتنا آنذاك رعاية السخلان والحملان بالقرب من الحلة ، وعندما كبرنا قليلاً عهد إلينا رعاية الأغنام التي حررتنا نوعاً ما من الخلوة ( القراية أم دق) وكنا نشعر بشئ من التحرر والزهو ، ونتدرج في المهام والمسئوليات حسب السن إلي أن تصل لمرحلة رعاية العجول وصولاً إلي القمة وهي السرحة (الرعي) بالأبقار!.

كانت الحياة جميلة وبسيطة والطموحات محدودة ومتواضعة لا تتعدي إمتلاك أبقار وفيرة والزواج من فتاة حسناء مسيرتها درب ترتل (ضفائرها كطريق التراكتور)!.

عندما يذهب الوالد إلي السوق للتبضع ، فإنه يأتينا بأنواع من الحلوي المعروفة في زماننا ( حلاوة حربة ، حلاوة دربس ، حلاوة نعناع وبسكويت وطحنية وحلاوة لكوم بالإضافة إلي الحلاوة (أم فريخات) التي تقدم في الأعياد والمناسبات ومؤخراً علمنا أن سكان البنادر يسمونها (حلاوة سعد)!.
الخبز أو الرغيف كان نادراً في القري والبادية ، ويعاب علي سكان المدن بأنهم (هوانات) لا يتحملون الشدائد كونهم يعتمدون في طعامهم علي الرغيف ، ولكن بالنسبة لنا كأطفال بمثابة الحلوي ، وعندما يأتيك الوالد برغيفتين من السوق ، فهي مناسبة سعيدة جداً وتجري لإخبار كل أطفال القرية ( أبّا جاب ليكم  رغيف) ، ولا تنسي أن تضع قطعة الرغيفة في أنف الطفل ليشم رائحتها ليتأكد من صحة ما تقول ، وإذا طلب منك قطعة منها ، فإنها فرصة سانحة للمساومة بأن يعطيك منضرته ( المرايا) أو صفارته أو سكسك أو كشكوش عثر علي في نقعة اللعب ، وفي الأخير سوف تصل معه لإتفاق ما ينال بموجبه (قرمة من الرغيفة)!.

إن الذهاب للحفير أو البئر لجلب الماء علي ظهور الحمير مع الفتيات والصبايا ، يعتبر متعة أخري لا تضاهيها متعة ، فلابد من إرتداء أجمل الثياب والأحذية التي لا تتعدي المركوب والشدة ( الظريف) التي يجب أن تكون خالية من الترقيع ، وطاقية برتقالية اللون وسكين في الضراع عليها قنطرة من الفضة ، حمل عصا أو فرار ، وأحياناً حراب (طبيقة وشنقا) إذا لزم الأمر ، حتي تكون جاهزاً بكامل هندامك وعتادك الدفاعي ، لأن الدنيا ( بتلدي بلا درة كما تقول البادية) فالحرص والإستعداد واجب في كل الأحوال ، وإلا سوف تكون موضوعاً لأغاني الحكامات والبنات إذا واجهك خصم ولم تقم بحسمه بما يجب  ، فالموت أفضل ألف مرة من الهروب من العدو إنساناً كان أو حيواناً ، فالشاب الجبان ترفض إبنة عمه الزواج منه ، ولن يكون أمامه سوى ترك المنطقة وهجرها بعيداً تاركاً خلفه سيرته المشئومة تحفظها أغاني البنات لأجيال وأجيال ، ومن يتم طعنه من الخلف في معركة ما ، يتم تفسيره بأنه هرب من المواجهة وتمت ملاحقته وطعنه من دبره ، فالرجل الشجاع يجب أن يطعن من الأمام!.

إن السودان كان بالنسبة لنا هو محيطنا الذي نعيش ونتحرك فيه ،  ولا يوجد أي إحساس وجداني بأن السودان وطن واحد ، حتي مدينة الأبيض عاصمة كردفان آنذاك ، كانت نظرتنا لها لا تتعدي كونها مدينة نائية حياة الناس فيها تختلف عن حياتنا وفيها بيوت من الطوب الأحمر والعربات ومضاءة بأنوار الكهرباء وليس نيران حطب الوقود أو مسرجة الجازولين ، ويتنقل الناس فيها عبر عربات اللواري وليس ظهور الدواب مت حمير وجمال وثيران!.
أما مناطق السودان الأخرى  (دار الصباح) بالنسبة إلينا مثلها مثل بلاد السعودية والعراق وغيرها من البلدان التي نسمع بها ولم نرها ، وليس لدينا الإحساس بإنها جزء من سودان المليون ميل ، فالسودان في وعينا هو قريتنا وما جاورها وحيث تسير (ضعينتنا) وما عدا ذلك بلاد أخري!.

إن غياب الدولة عن قضايا المهمشين عموماً والعرب الرحل خاصةً وعدم الإهتمام بهم وبمعاناتهم ، ولا يروا لها أثراً إلا في جمع الضرائب والعشور التي لا تتهاون الدولة في جمعها منهم ، كل ذلك جعل الدولة في مخيلة البدوي ما هي إلا جهاز لجبي الضرائب ولا تختلف عن حكم الأتراك والإنجليز ، بل هي المستعمر الجديد ، وصارت الحكومة في المخيلة هي العدو المستبطن ، وكل ما تقوم به من مشاريع أي كان نوعها ، محل إستهداف من كثيرين ، وإستفحال الجهل والأمية والتهميش ساعد في تغذية هذه المفاهيم في المجتمعات البدوية.
أتذكر عند (المسير) بحلول فصل الخريف وإتجاه (الضعائن) شمالاً حيث الأراضي الرملية في رحلاتنا الموسمية ، تحط رحالنا في مخارف حول مدينة أبو زبد ومناطق خماس وكدام وغيرها ، وعند مرورنا بخط السكة حديد ، نعمل علي تقطيع أسلاك إرسال التيلغراف لإستخدامها كحامل ل(حلة تمبلباي) أو سلك لتجفيف الملابس ، ولم تسلم منا تخريبنا حتي فلنكات السكة حديد التي تستخدم كمقاعد للجلوس ، والأطفال يقذفون الحلقات المصنوعة من مادة (الصيني) التي توضع أعلي أعمدة التلغراف كعوازل بين الأسلاك  ، بالعصي والحجارة ويهشمونها فرحين ، ولم نكن ندرك إن أفعالنا هذه قد تكلف خزينة الدولة ملايين الجنيهات لإصلاح ما قمنا بتكسيره ، وللأسف لا يهمنا ذلك طالما هو ملك الحكومة التي لا نراها إلا في جمع الضرائب والعشور ومصادرة أبقارنا!.
كم أشعر بالأسف والحزن والندم عندما أتذكر ما كنا نقوم به ونحن أطفال من تخريب متعمد للمتلكات العامة ، دون أن نجد من يفهمنا ويبصرنا بفداحة ما نقوم به علي خزينة بلادنا التي نجهلها!.

إن غالبية أجيال اليوم ، أكثر وعياً ونضجاً من سابقاتها ، وإستفادت من توفر سبل التعليم وتلقي المعرفة والإنفتاح علي العالم والثقافات ، ونهلت من التطور التكنولوجي ، حيث أصبح الكون قرية صغيرة بلا حدود ، وأن الإنترنت أصبح من أساسيات الحياة الحديثة ، خاصة لدي سكان المدن.
بات الأطفال الصغار  يجيدون فن التعامل مع الهاتف والكمبيوتر علي نحو مذهل لم يتوفر لجيلنا المحروم .
للأسف إن معظم أطفال قري وبوادي السودان في الجيل الحالي يعيشون حياة مماثلة لما عشناه في أزمان سابقة من جهل وأمية وتهميش ، ونظرتهم للدولة لا تختلف كثيراً عن نظرتنا السابقة ، بل الدولة عندهم هي العشيرة والقبيلة!.

كنا عندما نسمع أحدهما يتحدث عن الكهرباء والتلفزيون ، نعتبرها خطرفات مثل أحاجي الغول و(الزّي حنيجير الجدي) التي نسمع عنها ولا نراها!.

أذكر أن زوجتي تغالطت مع إبني أركاماني ، حول هل الحوت يبيض أم يلد ، وكلاهما يدعي صحة رأيه ، فتدخلت الصغيرة (مايا)  ، وقالت لهما: (مش عندكم يوتيوب بتتغالطوا ليه؟!.

محمد عبد الرحمن الناير (بوتشر)
        17 أغسطس 2020م

 

Print Friendly, PDF & Email

عن laalaa

شاهد أيضاً

حزب المؤتمر السوداني تصريح صحفي

Share this on WhatsAppحزب المؤتمر السوداني تصريح صحفي طالعنا البيان المؤسف الصادر من سكرتارية اللجنة …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.