الجمعة , أبريل 26 2024
ardeenfr
أخبار عاجلة
الرئيسية / أخبار لالا اليومية / ✳️هذه هي شركة سكر كنانة التي نعرفها !

✳️هذه هي شركة سكر كنانة التي نعرفها !

بالأمس إطلعت علي تقرير أرسله لي الرفيق الأستاذ عبد العزيز سام المحامي، الذي أعدته الصحفية زمزم خاطر لصحيفة الشارع السوداني بتاريخ الأثنين الموافق ٢٣ مارس ٢٠٢٠م والذي يدور حول إستغلال الأطفال بمصنع سكر كنانة،  وتعرض الطفل حسن عبد الله حسن (١٧ عاماً) العامل (بقسم العلف) إلي بتر في يده اليمني إثر سقوطه في السير الناقل ، وموت زميله الآخر ويدعي (حسن) بذات الكيفية التي سقط بها ، وأن إدارة شركة كنانة لم والجهات المسئولة لم يحركوا ساكناً حيال هذه القضية الخطيرة، وإستغلال الأطفال في هكذا أعمال مخالفة لقوانين العمل.

لقد قرأت هذا التقرير المؤلم أكثر من مرة ، بدموع تخالجها الحسرة والألم علي الحال الذي وصلت إليه مدينتنا كنانة ، التي شهدت جزءًا من طفولتنا وكل شبابنا ، وطوال الفترة من عام ١٩٨٦ إلي ٢٠٠٦م لم أغادرها إلا في الإجازات وقضاء الخدمة الإلزامية والدراسة الجامعية.
نشأنا في بيئة كنانة بكل تفاصيلها وسماحة وطيبة وبساطة أهلها ، حيث كانت بمثابة سودان مصغر ونموذجاً للتعايش بين كافة مكونات السودان والوافدين للعمل من البلدان الأجنبية الأخري كالهند وباكستان والبرتغال وبريطانيا وغيرها من دول العالم.

تأسست شركة سكر كنانة في عام ١٩٧٥ في مساحة زراعية تقدر ب ١٦٨ ألف فدان ، وهي تقع في الإقليم الأوسط ( سابقاً) وولاية النيل الأبيض حالياً في الضفة الشرقية للنيل الأبيض ، بالقرب من مدينة ربك ، وتبعد من العاصمة الخرطوم حوالي ٢٥٠ كيلومتر ، وتنتج بجانب سكر القصب بأنواعه، الأعلاف، عسل القصب، والإيثانول، المولاص ، بجانب إمتلاكها مزارع للدواجن وأبقار اللحوم والألبان والمنتجات الزراعية من خضر وفواكه وأخشاب وأشجار زينة وغيرها.
نشأت كنانة كشركة مساهمة بين حكومة السودان وشركات وهيئات عربية وأجنبية وبعض الحكومات كالكويت والسعودية وغيرها.

يعتبر مصنع سكر كنانة ثاني أكبر مصنع لإنتاج السكر بالعالم ، ويخدم ما يفوق نصف مليون نسمة من العاملين بالشركة أو المستفيدين من المصنع بطريقة أو بأخري.

كان والدي الشيخ/ عبد الرحمن الناير عليه الرحمة من أوائل الذين عملوا بالمصنع منذ تأسيسه ، ومنذ إنشاء المزرعة التجريبية ( المزرعة ٣) ، وظل يعمل في قسم الهندسة المدنية إلي إحالته للمعاش في عام ٢٠٠٦م.

إن هذا التقرير الموجع جعلني أكتب عن بعض حقائق كنانة الغائبة عند الكثيرين، والتي تلمسناها منذ نعومة أظافرنا كوننا أبناء بررة لهذه المدينة العظيمة التي قدمت لنا كل شىء ولم نقدم لها سوي الحب والوفاء.

كانت شركة سكر كنانة في عهدها الزاهر تتقيد حرفياً بكافة قوانين ولوائح العمل لا سيما المتعلقة بمنظمة العمل الدولية (ILO) ، فلا مجال لتشغيل الأطفال بالمصنع وخلافه دون السن القانونية إلا في حالات معينة يحددها القانون (كالمراسلة) في مكاتب الشركة مثلاً وبضوابط معينة ، وغير مسموحاً التعيينات بالواسطة وصلة القرابة ، فقط الكفاءة وإجتياز المعاينات عبر مكتب العمل ، مع الأفضلية للذين عملوا سابقاً بكنانة ولديهم شهادة حسن سير وسلوك من الشركة أو المؤسسة التي عملوا بها، ولا مجال لحرمان أي عامل أو موظف من حقوقه بطريقة تعسفية وغير قانونية،  ، وفترة الدوام بالعمل يجب ألا تتجاوز حدود ثمانية ساعات في اليوم ، وأي زيادة في ساعات العمل سوف يترتب عليها أن تدفع الشركة مقابلها أجر إضافي للعامل ، وكذا الحال في العطلات الرسمية.

كانت الشركة تتكفل بكل شىء تجاه العاملين فيها ، بدءًا بالسكن أو مقابله المادي ( بدل سكن) والتعليم والصحة للعامل وأسرته وكل من يقعون تحت كفالته ، وحتي العلاج خارج السودان تتكفل الشركة بكافة نفقاته.

عندما كنا طلاباً ، يأتينا الترحيل المدرسي حتي منازلنا أو في أقرب محطة معلومة، والمدرسة تتكفل بكل النفقات والإحتياجات الدراسية بما فيها أقلام الرصاص! ، والشركة كانت تنتدب أميز الأساتذة والمعلمين بالسودان للعمل بمدارس كنانة، لإيمانها العميق بقيمة التعليم وحق العاملين عليها.

كانت كنانة تعمل بنظام التعاونيات ، ومن حق أي عامل أو موظف الحصول علي أي سلعة يريدها من التعاون عن طريق الإستدانة بما فيها التلفزيونات والثلاجات ، وحتي الخضار واللحم واللبن وغيرها من الإحتياجات المنزلية ، علي ألا يزيد خصم السداد عن ١٥% من المرتب الشهري للعامل أو الموظف، بغض النظر عن قيمة السلع التي تحصل عليها وإن كانت أضعاف راتبه الشهري ، والتى يتم خصمها بذات النسبة من خلال الشهور أو السنوات القادمة!.

كانت نقابة العاملين بكنانة من أقوي النقابات بالسودان ، التى لم تتخلي عن المطالبة بإنصاف العاملين بالشركة وزيادة رواتبهم وحوافزهم وترقياتهم ، وكانت الملاذ والحارس الأمين لحقوق العاملين والمعبر عن تطلعاتهم ، قبل أن يتبدل الحال بعد إنقلاب الجبهة الإسلامية في ٣٠ يونيو ١٩٨٩ الذي عمل علي تمكين محسوبيه في مفاصل الشركة، ومع ذلك إلا إنهم لم يستطعوا إحداث تغييرات كبيرة في نمط إدارة الشركة وحقوق العاملين ، من جهة أن الإدارة العليا للشركة كانت من الجهات المساهمة في إنشاء الشركة والتي لها النصيب الأكبر من رأسمال الشركة وإدارتها ، لذا كانت الإدارة العليا من الخليجيين، ولكن إنفرط العقد بعد أن آلت الشركة إلي حكومة السودان وفقاً لتعاقدات الشركاء.
ولهذه الأسباب التي ذكرتها لم تكن هنالك حوجة لعمالة الأطفال لا سيما أبناء العاملين بالشركة لأن كل الإحتياجات الضرورية للأسرة متوفرة، وكانت مدينة كنانة بها أكبر نسبة مواليد بالسودان، وأرجع ذلك للإستقرار النفسي وتوفر سبل الحياة.
أذكر عندما كنا في المرحلة الإبتدائية ، ولغاية سنة ١٩٩١م كانت لدي شركة كنانة أربعة مدارس إبتدائية فقط ، المدرسة الغربية الإبتدائية، المدرسة الشرقية الإبتدائية ، المدرسة الجنوبية الإبتدائية ، ومدرسة القرية ٢ الإبتدائية ( تمت أسلمة أسماء هذه المدرسة لاحقاً بعد إنقلاب ٨٩) ، وبعد عام ٢٠٠٠  وصل عدد المدارس الأساسية بكنانة إلي ٣٥ مدرسة تقريباً!.
كانت الشركة تتكفل بالرحلات السنوية للمدارس سواء كانت داخل مدينة كنانة أو غيرها من مدن الإقليم الأوسط والسودان عموماً ، وهذه الرحلات السنوية كانت إلزامية وهي ضمن أجندة وسياسات إدارة التعليم المعمول بها آنذاك.

إن مدينة كنانة كانت سودان مصغر،  لا تعرف الأصل الجغرافي أو العرقي ، وليس هنالك تمييز بين الناس علي أي أساس من الأسس ، (كل الناس صحاب وكل الناس أهل)، إبن المدير والخفير كلاهما يدرسان في مدرسة واحدة وفصل واحد ، والحي الذي تسكن فيه يضم كل الأقوام السوادانية شرقاً وغرباً وجنوباً وشمالاً، فالمزاج العام والشخصية (الكنانية) شخصية مرحة محبة للحياة والناس ، عنوانها التسامح والتصالح مع الذات قبل الآخر المختلف ، وكان زملاؤنا من الطلاب المسيحيين كانوا يحضرون معنا حصص التربية الإسلامية بإرادتهم وإختيارهم ، وأذكر أن صديقي جمعة بول دينق تور كان يمتحن مادة التربية الإسلامية ويحرز درجات أعلي من كثير من الطلاب المسلمين ، وكنا كذلك نحضر حصص التربية المسيحية بل كنت أذهب لأداء صلوات الأحد وأستمتع بالترانيم في كنيسة (كمبو ٤)  مع دفعتي وصديقي ألبرت فاولينو الذي كان والده قسيساً بالكنيسة ، وصديقي ألبرت هذا هو الذي أطلق علي لقب (الجزار) عندما كنا في الصف الثالث الإبتدائي ومثّلت آنذاك دور الجزار (بإجادة) في مسرحية ( الجزار واللصوص) ، وبعد دخولنا المرحلة المتوسطة ومعرفتنا لأبجديات اللغة الإنجليزية تحول اللقب إلي ( بوتشر) وصار ملازماً لي حتي الآن.
الجدير بالذكر أن كنيسة (كمبو ٤ ) كانت تمتلك أراضي وأسعة إستولت عليها منظمة الدعوة الإسلامية بقوة السلطة ودون أي مسوغ قانوني وأنشأت عليها المجمع الإسلامي الحالي ، وتم تحويل الكنيسة إلي المكان الذي توجد فيه الآن.

كنا في فترة الإجازات يتم تسجيلنا في الخلوة لدراسة القرآن والأحاديث للإستفادة من زمن الإجازة التي تمتد لأربعة أشهر ، فكنا ندرس علي يد الشيخ يعقوب (أبو سماح) في خلوة (الزاوية التجانية) ب(كمبو ٥) مربع ٣ ، ولم نكن ندرس القرآن وعلوم الحديث والسير وحسب ، بل كنا نتلقي دروساً في الإنجيل والتوراة والزبور ، ولأول مرة عرفنا شيئاً عن هذه الأديان والكتب المقدسة وحفظنا بعضاً من آياتها، وكان شيخنا الجليل يترجم قول الشاعر:

كلهن في الثري دوافع خير
بنت وهبٍ شقيقة العزراء.

إن هذه البيئة المتسامحة والمتصالحة التي نشأنا فيها ، هي التي أنجبتنا ونعتز بها أيما إعتزاز ، وكان مجتمع كنانة لا يحفل بالقبلية والجهوية ، وفي طفولتنا لا نعرف قبائل وجهويات زملائنا في المدرسة أو جيراننا في الحي ولا تهم هذه المسائل كثيراً في تعاملك مع الآخر  ، فالجميع كانوا أبناء شركة سكر كنانة، ويعرفون أنفسهم بها.
هنالك قصة طريفة حدثت لي أثناء حوار إسفيري مع دفعتي وصديقي الدكتور منتصر خلف الله، الذي لم أكن أعرف له قبيلة أو جهة إلا في ذلك الحوار الذي جري بيننا قبل سنتين تقريباً ، بيد أن معرفتنا وعلاقتنا تمتد لأكثر من ثلاثة عقود من الزمان! ، حيث علمت في معرض حديثه بأنه جعلي من شندي أو بربر لا أذكر!، وهذا الموقف أعادني سنوات للوراء حيث كنانة وما كان عليه مجتمعها وما أصبحنا عليه اليوم ، حيث صارت القبيلة في الأوراق الرسمية للدولة!.

من المحزن أن تصل (ماما كنانة)  إلي هذا الدرك السحيق ، وأن يموت أطفالها وتبتر أطرافهم في ماكينات المصنع ، وبعضهم الآخر يمتهن مهناً هامشية لسد رمق أسرهم التي شرد عوائلها سيف الصالح العام والمعاشات ، بدلاً أن يذهبوا للمدارس والتعليم!.

أنقذوا كنانة قبل أن تصبح مأساة أخري تضاف إلي مآسي الوطن المنكوب.
إن قضية كنانة تحتاج إلي قرارات تصحيحية شجاعة من الدولة والقائمين علي أمر السودان، فكنانة قدمت للسودان في كافة المجالات الإقتصادية والتنموية والتعليمية والصحية والتأهيل والتدريب ، وكانت سفيراً للسودان في كافة أرجاء العالم عبر علمها الأخضر علي جوالات السكر والعسل والمولاص والإيثانول وغيرها من المنتجات التي تصنع في كنانة ، وما أكثرها!.

إن شركة سكر كنانة، ولأهميتها بالتعليم،  كانت المدينة الوحيدة  بالسودان لا يخلو عام من الأعوام من أن يكون أحد نوابغها ضمن العشرين أو المائة الأوائل بالسودان في إمتحانات الشهادة الثانوية ، حيث كان أول السودان في إمتحانات  سنة ٢٠٠٠ منها،  وقد كنت رئيساً لرابطة طلاب شركة سكر كنانة بجامعة الخرطوم لدورتين متتاليتين  في الفترة ما بين ٢٠٠٤ – ٢٠٠٦م ، وأعرف ما قدمته كنانة للسودان في كافة المجالات عبر أبنائها الكثر الذين أنجبتهم وثقفتهم علي قيم الوطنية وحب الخير والجمال والناس.

#قلبي_علي_كنانة

محمد عبد الرحمن الناير ( بوتشر)
         ٢٤ مارس ٢٠٢٠م

 

Print Friendly, PDF & Email

عن laalaa

شاهد أيضاً

حزب المؤتمر السوداني تصريح صحفي

Share this on WhatsAppحزب المؤتمر السوداني تصريح صحفي طالعنا البيان المؤسف الصادر من سكرتارية اللجنة …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.