الإثنين , أكتوبر 7 2024
ardeenfr
أخبار عاجلة
الرئيسية / مكتبة غالب طيفور / السماء تمطر شهداء…

السماء تمطر شهداء…

السماء تمطر شهداء…

      أخي لم يكن الوضع كما تراه أنت ، هكذا بدأ( اندرايج ) حديثه ،  فأنا كنت في مدينة (كالي)  النقطة الحدودية الاخيرة لفرنسا ، يقابلها من الجانب الآخر دولة بريطانيا ، التي يجتهد اللاجئين للعبور اليها ، وكل يحمل طموحه وآمانيه للعبور ، الذي لا يخلو من المجازفة ، عن طريق الاختباء في الشاحنات ، التي تحمل رخصامرورية ،  أو الباصات السفرية ، وتقابلنا عوائق وهي : ثلاثة بوابات ضخمة ، والتفتيش يكون دائما مكثف ودقيق ، ويعتمدون علي الأجهزة ، والكلاب البوليسية المدربة ، ورغم ذلك ، فيكون النجاح متواصل للعبور بدخول بعض اللاجيئن سهوا ، او الاختباء في اشياء تمنع الأجهزة والكلاب المدربه من كشفها .
        التقينا أنا  و(مصطفي علي بشير ) في معسكر (كالي) الضخم الذي يحوي أكثر من ستة الف لاجئ ، وكان شخص هادئ متطلع مجتهد ، ولم يوفق في العبور كما هو حالي ، فقررنا بعدما توطدت علاقاتنا العودة لباريس ، للراحة بعض الوقت ، وترتيب العودة من جديد ، وعدنا وكنت مقدم في باريس ، احتياطيا’ ، اذا لم أتوفق في الدخول لبريطانيا أكون سرت خطوات في الاجراءات الفرنسية .
        كنا أربعة نجلس ونفكر في منطقة الاشابيل بمدينة باريس حتي أتتنا فكرة تحمس لها جميعنا وكان من ضمننا صديقي (مصطفي) .
    وهي أن هنالك باصات تتحرك من باريس لبريطانيا مباشرة وهي لا تتوقف أبدا؛ خوفا من اندساس اللاجئين فيها وتنطلق الباصات من  محطة ( قاردلست) .
ولكن الحماية فيها مشددة فالشرطة تعلم بوجود متسللين ولكن اذا استطعنا الدخول قبل يوم ، داخل البص ، وصبرنا حتي اليوم الثاني فيمكننا أن نعبر بسهولة ، وكان كل شئ يسير بسهولة وكأنه مرتبا مسبقا اخذنا معنا ملابسنا وصندوق كيك وبعض القوارير للمياه ، وتوجهنا للمحطة ، ممنين أنفسنا بالتوفيق ، وحتي وصلنا المحطة ( قارد لست ).
        وكان المساء يرحل والساعة تجاوزت الثامنة ، والليل يسترنا في تحركنا حتي شاهدنا الباصات الضخمة ، وبها العلامة البريطانية ، لم يكن هنالك احد في حراستها ؛  والسبب أن موعد تحركه غدا الساعة السادسة والنصف كان اليوم هو السبت اذا مغادرتها سوف تكون في يوم الأحد ، وكان الهدوء يخيم علي المكان ، وكلنا نتمني ان نجد مكان تحت ( الدينقل ) كما يفعل اللاجئين السابقين وعلي حسب ما سمعنا ان هنالك مقاعد ، أما في (الدينقل)  الأمامي ، أو الخلفي داخل أي باص .
        وعندما وصلنا تقدمنا (مصطفي) مباشرة تحت الباص ، وتحركت أنا للمراقبة  ، ووجدت ورقة توضح زمن التحرك وهي : توضح أن  الرحلة الأحد في الساعة السادسة والنصف كما توقعنا ، عدت مسرعابإحساس أن هنالك عيون تراقبنا ، حتي سمعت صوت (مصطفي) يهمس للذين معنا وهو تحت البص ان هذا الباص لا يحوي صندوق في (الدينقل) الأمامي ، علي حسب تصميمه وهو نوعية مختلفة من البصات ، وتحرك للبحث عن المدخل الخلفي كنا نتهامس ، حتي سمعنا صوته من تحت أن هنالك مكان يسع لشخصين فقط في الدينقل الخلفي ، وأنا من وجدت المكان اذاهذه السفرية من حظي أنا والمكان المتبقي ضيق ، تحدثنا كثيرا في حقي وحقك كعادتنا  ولم يخرج (مصطفي) حتي الشنطة اعطاني إياها صديقه الذي يحملها وودعونا ، وتمنوا لنا التوفيق بين همس ، وفحيح حتي لا يشعر بنا أحد ، وانتظروني حتي زحفت تحت البص وكان المكان ضيق جدا، وهو يدلني بصوت خافت وجدت كمية أسلاك كهربائية او كما يسميها المهندسين شبكة ، ولم أجد مدخلا لأصل حتي أخرج لي يده ، بين الاسلاك ودفعت له الشنطة التي تحوي ملابسنا اولا، وبعض الكعكات التي وضعناها  لنتزود بها ، وزحفت أخترق الاسلاك في هدوء ، حتي وجدت نفسي أجلس قربه بهدوء  ، وأخبرنا  اخوتنا الاثنين ، المتبقين بأننا بمأمن ، فعادوا ادراجهم ،  وتركونا لوحدنا .
       كان الظلام دامس ، والجو رطب ، ورائحة غريبة ونحن  نجلس علي حديد كانه مبتل من أثر الرطوبة ، وهو يبعدني بمتر ونص وخلف ظهري المكنة ، بدأت أحاول أن أعود عيوني علي الظلام ، وأتبين بعض التفاصيل لموقعي ونحن نجلس علي (الدينقل) الخاص بالبص ، وكانت الفتحة التي دخلت بها ، تاتي بضوء خافت ، يجعلني أتبين ملامح البص ، ويقطع السكون صوت  صديقي (مصطفي) وهو يتحدث لي عن سرعة الاجراءات في لندن ، وسهولة العمل ، وآمالاعراضا نسجناها في مخيلتنا ، الخصبة ، فقد كنت أسمع صوته ،ولاأراه.
        وأوضحت له بأني  (اندرايج) أي صغار السنة وهذا يحظي بمعاملة طيبة من قبل الإتحادي الأوربي وانجلترا بوجه الخصوص ، وطبعا الاندريج تعني أقل من (18) عام .
     وحكي لي أنه خريج جامعة السودان كهرباء من أبناء سنار ، سافر لدبي ولم يجد حظه من العمل ، وعاد للسودان .
ظلننا قابعين في هذا البص حتي اليوم الثاني بين الخلوة مع انفسنا ، والمسامرة حتي بان الصبح ، وبدأ يرحل لوقت الظهيرة ، وشعرنا بالممل والضيق ، وطلبت منه أن ننزل ، كان (مصطفي) رجلا طيبا ، صبرني  بكلمات وجمل حماسية ، حتي اقتنعت ، وصعدت في أعلي (الدينقل) لأرتاح وبيني وبينه متر،  فهو يجلس بين أقدامي ، شعرنا في تلك اللحظات بأن الزمن قد شارف ، ونظرت لصندوق الكعكات الذي تبقي منه اثنتين فقط ، وسرحت طويلا، حتي شعرت بالأصوات من حولنا ، وهم يعتلون سلم البص والحركة تدب بصورة شديدة ، وشنط الراكبين نسمع إيداعها في الصناديق التي تجاورنا ، وخفقات قلبي تكاد تطير بين الخوف والرهبة ، وكان كل شئ يسير كما خططنا له حتي صدر صوت يدوي خلفنا ، لقد ادار السائق المكنة ، وكان صوتها مزعج في بادئ الأمر .
وتحرك البص ، وتحركت معه ، كل طموحاتنا وآمالنا ، وحبسنا أنفاسنا  ، وكان الصوت عاليا، والجو بدأ يسخن ، وكان (مصطفي) المرهق يرقد جوار (الدينقل ) ويرتدي جكيت مفتوح فقلت له أن السخانة زادت ، وتحسست الحديد من حولي فوجدته يغلي ، فحدثته فقال لي : اخرج الملابس التي في الشنطة وافترشها تحتك ، يالثباتك يامصطفى! كان ثابتا ،وهادئا
      اخرجت الملابس من الشنط ، وبدات افترشها والسخانة تزداد بسرعة ، ولم يمضي من الزمن سوى خمس دقائق ، قلت له يجب أن نخرج من هذا المكان ، انه جوار العادم ولا يمكننا التحمل المشوار طويل جدا، طلب مني الصبر لساعات ونرتاح للأبد ، تحسست الارضية كانت ساخنة ، ومن جوانبها لسعتني سخانتها ، كل شئ اصبح يلتهب وأنفاسي تضيق ، وكل من حولي يتوهج .
     في تلك اللحظة شعرت بان هذه الرحلة سوف تقتلنا ، فلم يمضي أكثر من خمس دقائق ، والمتبقي لنا أكثر من سبع او ثمان ساعات.
    فقلت له : (مصطفي) دعنا نطرق الصندوق لننبه الركاب فقال لي : يمكنك أن تنزل تحت قليلا، وأنا يمكنني الأنتقال الى الجانب الاخر لان (الدينقل) اصبح ساخنا ايضا ، فبدأ يضايقني  لقريبه من المكنة (والعادم ) ، صمت برهة وهو يتحرك وسترته التي كان يرتديها كانت مفتوحة ، وكنا نتحرك داخل هذا البص زحفا ، فالمكان ضيق وكأننا داخل قبر ، وهو تحتي مباشرة ،  حاول (مصطفي) التحرك للجانب الأخر وانا أتابعه بعيوني ، وهو يحاول العبور فوق (الدينقل) للجانب الآخر ، فابعدت أقدامي لتسهل له الحركة ، وانا اتابعه ولا أكاد اتبين ملامحه من شدة الضيق .
     وما هي الا لحظات من زمن أو برهة ، حتى شعرت بأن السترته قد التفت في دينقل  ، وبدأت تسحبه ، نعم سحبته وهو يمسك في أرضية الباص ، ولم تعطيني فرصة حتي أتحرك نحوه ؛لضيق المكان ، سحبته سترته بسرعة جنونية ، فأنحشر جسمه بين عمود الدينقل ، وجسم الباص وحاول أن يقاوم  ، وأن يبعد جسمه عن العمود الذي يدور بسرعة جنونية ولكن هيهات ، وسمعته وهو ينظر لي ، ويقول (الله) كانت قدمي محشورة خلف ظهره لم أشعر بنفسي الا وانا أصرخ بقوة ، أصرخ ولا حياة لمن تنادي ، وضربت الصندوق ، وكان العمود لازال يلف حول جسمه ممزقاالجانب الأيسر من جسمه ، وحاولت ان اتحدث معه ، ولكنه لا يرد لا يرد ، كان ينظر لي بعينين جاحظتين ، ولسانه قد بدا يتدلي ، وأمسكت به من شعره حتي أمنع سقوطه ، وحاولت سحبه بكل ما واتيت من قوة ، ولكن لم استطيع وهو مسنود علي قدمي اليمين التي انحشرت تحت ظهره ولازال جسده الذي احسست به صار ثقيلاجدا“.
      بكيت وانا أطرق بعنف ، ويبدو أنه لم يسمعني أحد ركاب الباص ، تزكرت الفتحة التي تحت فأخرجت احد ملابسي لأشر للعربات التي خلف الباص ، علهم يشاهدوني ولكن محاولاتي جميعها باءت بالفشل ، وتحدثت اليه ، بكيت وتوسلت له ان يتحدث ، ولم يجب وكان لسانه يتدلي ،وأيضا يده صارت متدلية نحو الأرض وهو محشور ، وقدمي محشورة أيضا خلفه ، لففت القطعة في يدي وبدأت اطرق من جديد ، وفي يدي قطعة قماش من شدة السخانة حتي فقدت الأمل ، واصبحت السخانة لا تطاق ، وجسده الذي يثقل تحتي قدمي .
        وشعرت في تلك اللحظة بالباص يهدئ من سرعته وشاهدت (مصطفي ) وهو ينظر لي فلم استطيع النظر ، والعمود يدور في قميصه الذي تمزق ، وعيناه التي اختفي منها البريق ، فاسرعت بمعاودة الطرق ، حتي توقف الباص نهائيا، وشعرتهم ينادوا باللغة الفرنسية التي لا افهما ولكن صراخي كان كفيلابتنبيهم لمكان وجودي ، وخروجي اصبح مستحيلا فصديقي محشور يغلق منفذ الخروج ، وقدمي محشورة تحته ، وبدأت ملامحه تختفي ، ولا اتبين وجهه ، وقدمي لا تزال محشورة بين ظهره وجسم الباص حتي اني لا أشعر بها .
        سمعت صوت عربات النجدة او الشرطة حقيقة اصبحت لا أدري ولا أعرف ما يحدث ، مضي زمن طويل أعادله منذ ميلادي ، وحتي هذه اللحظة ، وأنا داخل هذا الباص الملعون ، شعرت بشئ يتمزق فوق راسي ، انهم يمزقون المشمع ، ويقطعون الحديد فوق الكراسي ، ويطلبون مني خفض راسي بلغة انجليزية وفرنسية ، حتي تم فتح منفذ ، وحاولوا اخراجي ولكن قدمي كانت عالقة حتي سحبوا جسم ( مصطفي ) جانبا فسحبت قدمي وانتشلوني للخارج ، وكأني ولدت من جديد وضعوني في عربة الإسعاف ، وكانت السماء تمطر ، والليل  مسدلااستاره .
       وشعرت  بأني سوف أنام ، وهم يلطمون علي خدي كي أستفيق ، ويسألوني واجاوبهم ، وكان الحديث معهم باللغة الانجليزية داخل عربة الاسعاف ، سالتهم عن (مصطفي ) فقالي لي : (deab) مات ، وغادر الاسعاف.
       لقد انتهي كل شئ ولا أعرف بعدها ماذا حدث ؟؟  بالمستشفى قدموا لي بعض الأدوية ، وتحروا معي وأطلقوا سراحي .
      أكمل لي هذا الشاب القصة ورفض أن أكتب اسمه وقال لي: يكفيني أربعة ايام لم أذق فيهم طعم النوم ، واتجول بين الغرف ، وأخاف أن أضع راسي فوق وسادة حتي لا اتزكر المنظر ، وحاليا ذاهب لمقابلة طبيب نفسي احضرته السلطات الفرنسية لمعاينتي .
وخرج بهدوء كما دخل  ..
      تحركت ومع قريب (عبدالله)  لمعرفة مكان الجثمان الذي كانت تفاصيله عند الشرطة الفرنسية ، ويبدو أن المرحوم لا يحمل معه هوية ، واجتهدت معنا المساعدة الاجتماعية ( خيرة مويدن رجوح ) لها التحايا والاخ (النابلسي) وحضر اخاه من لندن لأكمال مراسم الدفن ،  ومعه قريبه المهذب (عبدالله ) الذي أخطرني بالحادث …
( وانا اكتب هذه القصة ولم تستلم الاسرة الجثمان حتي الآن ) .
    اللهم تغمده بواسع رحمتك وادخله مع الصديقين والشهداء جنة عرضها السموات والارض  ذاك الشاب الطيب الاصيل
( مصطفي علي بشير )
-خريج جامعة السودان كهرباء .
  ضاقت به سبل الحياة في وطنه فخرج ينشد الافضل له ولاسرته  .

Ghalib Tayfour

Print Friendly, PDF & Email

عن laalaa

شاهد أيضاً

أصدر تحالف قوى الاجماع الوطني احد مكونات قوى الحرية والتغيير بيانا،انتقد فيه الميزانية التي اجازتها الحكومة الانتقالية

Share this on WhatsApp#الهدف_بيانات أصدر تحالف قوى الاجماع الوطني احد مكونات قوى الحرية والتغيير بيانا،انتقد …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.