الأربعاء , مايو 15 2024
ardeenfr
أخبار عاجلة
الرئيسية / أخبار لالا اليومية / *شارع تحت التصليح* *أرجو ان لا يكون أوان البوح قد فات*

*شارع تحت التصليح* *أرجو ان لا يكون أوان البوح قد فات*

بقلم: عبد المنعم الخضر 
^^^^^^^^^^^^^^^^^

إلى أرواح المعلمين عبد اللطيف محمد بشير “كمرات” وعمر عطية – باشكاتب المديرية ببورتسودان والاستاذ عثمان عطية “المعلم بمدرسة الأ قباط ” وهاشم خالد محمد صالح صديقي وزميلى  بمدرسة الثغر المصرية، وعبدالله حامد صالح – كمبونى، الذين غرسوا فى عقلى قدرا من الوعى والاحتمال…

اهدى لهم هذه الحكاية لأفعال حدثت كانوا طرفاً اصيلاً فيها…

الطقس يميل الى البرودة والظلام شبه كامل إلا من شعاع ضوء هزيل يتسلل متعرجاً وهو يصطدم بعمود الكهرباء ثم فرع شجرة معوج لينتهى فى رحلته قصيرة الأجل بين ارجل ثلاثة طلاب من المدارس الثانوية ببورتسودان، يفركون  اياديهم لاشاعة قليل من النشاط والدفء في اجسامهم التى احكموا تغطيتها بملابسهم المتواضعة، اعطوا ظهورهم لحائط دار الرياضة الكائن فى الناحية الشرقية لحى العظمة اتقاءً للبرد.

كانوا قد ولجوا دروب العمل السياسى غير عابئين بوعورته وخطورة انتمائهم لنشاطات محظورة، يشبون كل يوم على اطراف اصابعهم ليلحقوا اكتاف هؤلاء المناضلين الذين يكبرونهم سناً ودراية.. تعثرت سنوات مراهقتهم ولم ينعموا بسنوات الصبا كما يجب وكيف تتاح.. فحملوا على اكتافهم الغضة مشاريع الاحلام الوطنية.. شعارات كبيرة كانت او قراءات متواضعة – رغبات عارمة فى عمل اشياء جادة وحقيقية… كانت قاماتهم تستطيل عندما ينادونهم..  يازميل..

وهكذا ونحن فى تحفزنا وانتظارنا ظهر  فى الموعد المضروب شخصان من البعد احدهما كان قصير القامة ويعتمر طاقية من الصوف تغطى كل رأسه الا من عينيه وأنفه المستقيم والآخر طويل القامة ويحمل بيده اليسرى اناءً مربعاً من الصفيح بيد خشبية.. وتمسك اليد الاخري بمجموعة من الفرش داخل كيس به اشياء اخرى.

–  سلام.. عاملين كيف.. طبعاً عارفين الشغل.. حنكتب الحيطان دى.. في كل الشوارع الرئيسية وبخط كبير.. والاستاد يتكتب داير مايدور..

تكلم صالح من داخل طاقية الصوف فخرجت الكلمات كأنها اتية من بئر.. شدد فى الكلام عن الانضباط وكيفية التخلص من أى مآزق محتملة اثناء كتابة الحوائط  والزمن المحدد لتنفيذ المهمة.. اتضح لنا على الفور انه لم يكن طالباً مثلنا..

– مفهوم.. لكين وين الشعارات الماشين نكتبها؟.

– حنكتب عاش نضال الشعب السوداني.. تسقط .. تسقط.. وراح يملى علينا الشعارات مشدداً حفظها عن ظهر قلب.. حملت كلماته الاخيرة بعضًا من التشجيع.. وكيف تم اختيارنا بالذات على اساس اننا زملاء مبادرين وانه شاهد خط احدنا قبل ذلك وانه يعتبرنا ناس فنانين. ربما انتبه انه يتحدث مع اولاد ثانوى.. جاعلاً العلاقة بيننا وبينه اقل صرامة واكثر حميمية.. الشىء الذي جعلنى أرتاح قليلاً  قائلاً فى نفسى.. ياربى انا شفته وين؟.  هممت ان اسأله عن اسمه.. طردت الفكرة سريعاً لسخافتها.. والحقيقة.. خوفاً من ردعه لى برد مبرح.

تحمسنا للعمل.. سرنا سويا يتوسطنا عبدالله الطويل وكنا نعرفه فقد كان طالباً بكمبونى يشرح لنا ان اللون الابيض داخل الصفيحة هوعبارة عن جير مركز مع الصمغ.. سلمنا فرش الكتابة.. خطوات ونحن نسير فى الظلام.. اوقفنا صالح فجأة.. وطلب منا ان ننتظره فى مكاننا .. ذهب الى الامام وابتلعه الظلام.. مرت لحظات اعتقدت ان ذهب ليفك بوله فى تلك الليلة الباردة، اخيراً ظهر حاملاً على كتفه خشبتان فى شكل حامل بارجل تستعمل وتوضع فى الشوارع التى تجرى بها اصلاحات ومكتوب على الخشبة الافقية “الشارع تحت الصيانة “. وبيده الاخرى كان يحمل فانوساً احمراً معبأ بالكيروسين يعلق ليلاً على هذه الحوامل بعد اشعال فتيله لتنبيه الناس والسيارات ان الشارع تحت التصليح.

–  حنولع الفانوس ده ونعلقه على الحامل ونضعه اول الشارع.. التانى فى نهايته.. على الاقل مافى عربية حتجى.. وممكن كده تكتبوا براحتكم.
نظرنا الى بعضنا البعض.. وكدنا ان نصيح معاً “الجن الكلكى”.. ماتت الكلمات على الالسن.. خوفاً واعجاباً بالفكرة.. تساءلت كيف يفكر بهذه الطريقة الخلاقة فى هذا المكان شبه المظلم وبهذه السرعة.. احتمال انه درس الشارع وصمم المشروع منذ الصباح او انه فكر فيه وهو فى الطريق الينا. 

– الليل كله ونحن نكتب ونكتب.. ونحمل الفانوس والحوامل من شارع الى شارع..  واختفى البرد تحت طبقات الجير على اجسامنا وملابسنا.. راح تحت شحنات الحماس والحركة النشطة اثناء كتابة الحوائط عل اختلاف مواد بنائها.. كان عبدالله يوزع علينا تمراً يابساً ندرشه بقوة تحت لسعات البرد والجوع، وكان صالح يختفى منا اثناء انهماكنا فى الكتابة ويظهر خلفنا فجأة قائلاً:

– تمام.. امشوا قدام .. قدام .. حرك يازميل..

كنت انتهز فرصة ابتعاده عنا فامازح زميلى هاشم وهو من شايقية الشرق:

– بختك لقيت ليك حيطان تكتب فيها سااااكت.. فى سواقيكم.. حيطة واحدة مافى..

– انتوا فى دنقلا العربى ذاتو فى تولة.. بقيتوا تتكلموه وتكتبوه كمان..

اقتربت الساعة من الرابعة صباحاً.. ارجعنا الحوامل والفانوس الى الشارع المهردم تحت الصيانة.. اسرعنا الخطى تجاه ديم مدينة.. شد صالح على ايدينا مودعاً.. عبرنا كثيراً من الازقة والشوارع التى يزيد من عتمتها تلك البيوت الخشبية الداكنة والمتواضعة، وعند احدى تلك المنازل توقفنا.. ودفع عبدالله بابه ودخلنا وهمس قائلاً:

– اتغسلوا فى الماسورة دي.. وذهب الى الداخل حاملاً صفيحته الفارغة.. وعند رجوعه. كان حوض الماسورة قد امتلأ بالماء الأبيض وتسرب جزء منه الى الشارع مخترقاً الواح الحوش الخشبية  الشيء الذى ازعج عبدالله نهار اليوم التالي عندما سأله احد الجيران:

–   بتضربوا الصندقة جير.. انشاء الله فى عرس قريب..

اشرت لعبدالله ان جيره هذا قد لايصمد وكان الافضل ان نكتب بالزنك وايت او ازبتاج.. فضحك عاليا وقد كنت اعجب لاسنانه الناصعة البياض ووجه الوسيم الحالك السواد.

– دى حيطان مش لوحة يازميل.. ورغم رده شبه الزاجر.. اطربتنى كلمة يازميل التى قالها بود وامتنان وحب كبير.

   نفس النهار كنت ماراً جوار مدرسة الاقباط الارثوذكس وقد كانت مدرسة مختلطة عادة مايلتحق بها اولاد وبنات الاسر الميسورة المرتاحين وبالطبع طائفة الاقباط.. شاهدته عبر فصل شبابيكه على الشارع.. رأيت صالح.. يشرح على السبورة درساً لطلاب.. اقتربت من الشباك بقصد التلصص –  ورأيته – ياهو… مش يلبس طاقية صوف… لمحنى.. فجاء مسرعاً، رمى جسمه قليلاً خارج الشباك وقال:

–  سايب قرايتك وجاي تتحاوم هنا مالك؟.  . اقطع وشيك من هنا وارجع مدرستك..!!!

خطوات الى الوراء.. هرولت بعدها تجاه مدرستنا.. فى الطريق  انكفات على خواطرى ..حزنت قليلاً من عدم تمكنى من مسامرة اصدقائى فى حلتنا فى ديم مدينة بالليل.. حيث يتخموننى دائما بقصصهم حول اخبار ورقص البنات فى حفلات الحى كانوا يظنونى متعالياً وانى اعتبرهم اولاد ماعندهم شغل.. كنت عازماً ان افاجئهم باننى اعرف مثلهم قصص الريد.. كنت ساقول لهم:

–  الليلة شفت ليكم بت قمرة فى مدرسة الاقباط.. نجفة بس.. آآآي.!!.  شفتوا كيف؟.. كمان اسمها ماجدولين.. اجتهدت  فى حبك قصتى الخيالية والتى انتهت امام بوابة مدرستنا فى صحوة خاطفة وارهاق من زجر استاذ صالح العالق بى.

كان الزملاء الذين يكبروننا سناً يملكون حقاً اصيلاً فى توجيهنا بل توبيخنا فى اي وقت ان كان ذلك لازماً.. قمت بطرد هذه الحكاية وانا فى حالة من الانهاك  والخوف من أن اضبط بكذبتى.

الايام التاليه شاهد سكان وسط المدينة.. شعارات زاهية قرأوا.. عاش كفاح الشعب السودانى.. تسقط .. تسقط حكومة …الخ. شهور تلبدت غيوم وسحب تراءت خلالها بعض خيوط عهد جديد.. وتمخضت حتى صار فجر اكتوبر 64 صبحاً اغر…
“”””””””””””””
الميدان 3444،، الخميس 16 أغسطس 2018م.

توثيق جميل

 

Print Friendly, PDF & Email

عن laalaa

شاهد أيضاً

حزب المؤتمر السوداني تصريح صحفي

Share this on WhatsAppحزب المؤتمر السوداني تصريح صحفي طالعنا البيان المؤسف الصادر من سكرتارية اللجنة …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.