دموع البحر الابيض …
لم نجد معها شيئا سوي بطاقة المفوضية السامية لرعاية اللاجيئين سيدي ، وقد كانت لوحدها ، حتي طريقة كلامها لا نستطيع ان نفهمها من الصراخ والبكاء ، كما انها عنيفة سيدي وكادت تفتك بثلاثة من جنودنا ، والشئ الذي وضح لنا انها سودانية الأصل ، وكل ما حاولنا التحدث اليها نجدها بين الدموع والتوسل .
منذ متي وهي بهذه الحالة؟
منذ أن تم القبض عليها سيدي ، وهي علي ظهر القارب ، مع آخرين يحاولون الهروب الي قلب البحر أنهم مهاجرين غير شرعيين تنتظرهم سفينة أخري لتنقلهم لايطاليا .
أومئ الضابط برأسه لفترة وهو يستمع للجندي ، ثم ساله: ماذا قال الذين كانوا معها ، قالوا :كلاما غريبا سيدي قالوا ان هذه هي المحاولة الثانية فالمحاولة الاولي كانت منذ (20) يوما وتم القبض عليها وكانت معها طفلتها واثناء هروبهم السابق والهرج والمرح الذي يصحب ركوب القارب ، سقطت منها ابنتها الصغيرة في البحر وكانت تبلغ من العمر سنة ونصف علي حسب حديثهم .
ضرب الضابط التربيزة في هذه الاثناء وهو يستمع لحديث جنديه حتي كاد يحطمها واطلق زفرة وجع حتي ظهرت عروق عنقه ، وقال : ( لاحول ولاقوة الا بالله ، ماتت طفلتها امام ناظريها ، ما الذي يجعلها تخاطر بطفلتها الرضيعة في عرض البحر )
قاطعة الجندي سريعا لا سيدي ، لقد كان من ضمن قارب سودانيين وهم دائما متكاتفين كما تعلم سيدي فيهم شاب يجيد السباحة فقذف بنفسه خلف الطفلة وانقذها فيما يبدو ، ولكنهم كانوا قاربين تهريب ، فصعد بالطفلة الي القارب الثاني ، صاح الضابط وأين هو ؟ وأين الطفلة ؟
الجندي سيدي لقد فر القارب الذي فيه الطفلة وتم القبض علي القارب الذي فيه الأم ، ولم تستطيع قوارب القوات البحرية اللحاق به ، وهذا الأمر حدث قبل (20) يوم بمعني ان طفلتها حاليا تكون في ايطاليا ، منذ عدة ايام ، ونظرا للحالة التي تمر بها هذه المراة ، وبطاقة الحماية التي في حوزتها تم اطلاق سرأحها بعد تعاطف الشرطة المصرية ، وتدخل مكتب المفوضية في الموضوع ، وكما ذكر سيدي شاهد ، أن هذه المراة منذ ان اطلقوا سراحها عادت لمدينة اسكندرية وجاورت البحر حتي تجد اي مركب تهريب للحاق بابنتها التي اصبح مصيرها مجهول ، وتعاطف معها جميع تجار التهريب في البحر وأدخلوها مخزن من نساء كثر ، وطيلة الفترة التي كانت في المخزن اكثر من اسبوع لمن يشاهدوا هذه المراة تاكل شيئا” كانت تستفرغ فقط مرا” اصفرا” ، وتستغفر الله ، وتصلي كلما اتجهوا بالنظروا ، حتي اصبحت شبحا” ، وكانت محاولتها الثانية امس ولسوء حظها ، أو لسوء حظنا نحن قبضنا عليها ومعها قرابة الثلاثين لاجئ .
كان الجندي يحكي ودموعه تسيل علي خديه ، والضابط ايضا ، وأنا اشاهد هذا المنظر بكل تفاصيله من امام باب الزنزانة وأبكي ايضا ، واسمع صوت تنهدات الأم الموجوعة ، يكاد صوتها يشق قلبي شطرين!! .
لم تستطيع أن تلحق بأبنتها الرضيعة التي اختفت في بحر الدموع ، وكانت تبكي بدموع لم أشاهد غزارة لها الا في أمطار الخريف ببلادي، وصوت الألم ياتي كصوت الأمواج الهادرة . إقتادني العسكري بعد تم تحويلي من اسكندرية لمصر ، وخرجت وانا القي اليها بنظرة وهي تختبئ في ركن قصي من الزنزانة ، ودموعي تتدفق وأحساسيسي توفقت عن العمل ، ولم اشعر في تلك اللحظة إلا والعسكري ينتهرني ويقول لي مشيرا اليها : ( حاليا سيطلق سراحها فمكتب المفوضية اتصل علي مدير القسم ، اعرفكم أيها السودانيين دائما تساندون بعضكم البعض وتحسون بالالام اخوانكم .
خرجت وانا لا أعرف الي اين أذهب ، لم أحس بالقيد في يدي وهم يرحلوني لقسم الشرطة في مصر ، ربما لاني املك بطاقة حماية من المفوضية ولا يملكون إلا ان يتحروا معي لايام ويطلقوا سراحي في نهاية الأمر ، لا تزال صورة الأم والطفلة تؤرق مضجعي اشاهدهم في كل شئ حولي ، ثلاثة اشهر وكاني فقدت طفلتي .
ولكني اتساءل ما الذي فعلته أيها البشير ؟؟انت وعصابتك في شعبنا ، لقد احلت بلادنا الي جحيم كلنا فارين ، زرافات ووحدنا .
ولا اقول سوي
( لاحول ولاقوة الا بالله )
Ghalib Tayfour