الجمعة , مايو 3 2024
ardeenfr
أخبار عاجلة
الرئيسية / حزب البعث العربي الاشتراكي "الأصل" / تفاوض جاد، أم مجرد مناورة؟

د. الشفيع خضر سعيد
نحو أفق جديد
تفاوض جاد، أم مجرد مناورة؟
قلنا في المقال السابق، أن التفاؤل ليس كبيرا بأن تنجح حواريات ومفاوضات أديس أبابا الأخيرة، فهذه ليست المرة الأولى، ولا العاشرة، لإنطلاق مثل هذا النشاط ويكون الناتج صفريا. وأديس أبابا لم تخيب ظننا!!.
الموضوع الرئيس في جدول أعمال جولة التفاوض الأخيرة، الخامسة عشر، والتي أعلن عن فشلها، هو وقف القتال وتوصيل المساعات الإنسانية لأهلنا المحاصرين جوعا وفقرا ومرضا وقتلا في دارفور وجنوب كردفان وجنوب النيل الأزرق. مباشرة، وبكل الحزم الممكن، أقول إن عدم الإتفاق على هاتين القضيتين يعتبر جريمة مساعدة لجريمة الإبادة. وإذا كان المجتمع الدولي يريد حقا مساعدة شعب

تفاوض جاد، أم مجرد مناورة؟

د. الشفيع خضر سعيد
نحو أفق جديد
تفاوض جاد، أم مجرد مناورة؟
قلنا في المقال السابق، أن التفاؤل ليس كبيرا بأن تنجح حواريات ومفاوضات أديس أبابا الأخيرة، فهذه ليست المرة الأولى، ولا العاشرة، لإنطلاق مثل هذا النشاط ويكون الناتج صفريا. وأديس أبابا لم تخيب ظننا!!.
الموضوع الرئيس في جدول أعمال جولة التفاوض الأخيرة، الخامسة عشر، والتي أعلن عن فشلها، هو وقف القتال وتوصيل المساعات الإنسانية لأهلنا المحاصرين جوعا وفقرا ومرضا وقتلا في دارفور وجنوب كردفان وجنوب النيل الأزرق. مباشرة، وبكل الحزم الممكن، أقول إن عدم الإتفاق على هاتين القضيتين يعتبر جريمة مساعدة لجريمة الإبادة. وإذا كان المجتمع الدولي يريد حقا مساعدة شعب السودان، فعليه أن يحقق في هذه الجريمة النكراء، لمعرفة من المتسبب في عدم الوصول إلى إتفاق حول هاتين القضيتين المحوريتين لبقاء الناس آدميين أحياء، ويواجهه بأقصى وأقسى العقوبات الممكنة.
أعلن الوسيط الأفريقي فشل الجولة، وقرر تأجيلها إلى أجل غير مسمى. وحتى يحين وقت تسمية هذا الأجل، سنشهد، مثلما ظللنا نشهد بعد كل جولة من الجولات السابقة، حراكا ماكوكيا لآلية الوساطة وخبراء المجتمع الدولي، وسنتابع دعوات قادة أطراف التفاوض لهذه المدينة أو تلك من مدن صناعة القرارات في العالم. لكن، وفي قناعتي الخاصة، برغم هذا الحراك وهذه الدعوات، سيظل الناتج صفريا في أي جولة قادمة للتفاوض، وبالتالي سيظل الوطن مصلوبا دون أن يترجل، بل، وربما لن يكون موجودا بشكله الحالي في خرائط الأطلس الجديدة، إذا كان التفاوض والحوار في الجولات القادمة سيستمر بذات طريقة المناورات التي سادت في الجولات السابقة الفاشلة. والمسألة، في نظري، لا تتعلق ببراعة الوسطاء، أو بكثافة ضغوط وحراك المجتمع الدولي، بقدر ما تتعلق بجملة من العوامل الأساسية والضرورية لإنجاح أي حوار أو تفاوض. وأعتقد أولى هذه العوامل، أن تدخل الأطراف المتفاوضة الجولات القادمة وهي تضع في حسبانها المفاوضات الكثيرة السابقة، والفاشلة، وأن يخصص وقت في بداية الجلسات للحوار والإجابة من كل الأطراف على سؤال لماذا فشلت المفاوضات السابقة؟! أعتقد أن طرح هذا السؤال والتعامل معه بكل جدية، سيحدث تغييرا إيجابيا في تطور مجرى الحوار، وعلى الأقل، قد يعالج مسألة مبدأ المساومة، إذ عندما يجلس الطرفان للتفاوض، وذهن أي منهما يرفض تماما مبدأ المساومة والتنازل، أو أن فكرة أحدهما هي إبتلاع الآخر، فهذا تفاوض غير مجدي ولا طائل منه.
العامل الهام الثاني، هو بروز كتلة قوية ونافذة داخل السلطة الحاكمة تؤمن حقا بالحوار والتفاوض كآلية للخروج الآمن بالبلاد من أزماتها. ولكني، لا أرى أثرا لهذه الكتلة، وحتى إن وجدت، فهي ضعيفة وغير مؤثرة. وبدون هذه الكتلة سيظل مشوار الحل السياسي عبر الحوار والتفاوض متعثرا وكسيحا. وفي الحقيقة، وهذا هو العامل الثالث، فإن الحل السياسي الشامل لن يتحقق، مهما تعددت جلسات الحوار والتفاوض، ومهما بذل من جهد في الوساطة والتيسيير، إذا غاب عنه أي من المبادئ الثلاثة التالية:
المبدأ الأول: قناعة كل الأطراف، وخاصة النظام، بوجود أزمة وطنية عامة في البلاد تصل حد الكارثة المأساوية، وأن الهدف من العملية التفاوضية ليس إعادة إقتسام كراسي السلطة، بل مخاطبة جذور الأزمة بما يحقق مساومة تاريخية لصالح الوطن.
المبدأ الثاني: توفر إرادة سياسية حقيقية عند كل الأطراف للمضي قدما في مشوار الحوار والتفاوض، مهما تعددت العقبات والعراقيل، ومع الإستعداد لتقديم التنازلات، والإلتزام بما سيتم الاتفاق عليه، صولا إلى تحقيق الحل السياسي الشامل.
المبدأ الثالث: إتفاق كل الأطراف، مسبقا وقبل انطلاق الحوار أو التفاوض، على خارطة طريق واضحة المعالم من حيث إجراءات بناء الثقة، الأهداف، آليات التفاوض، جدول الأعمال، المشاركون، آليات التنفيذ، الضمانات…الخ
العامل الرابع يتعلق بأهداف التفاوض. ومن الواضح أن الأهداف مختلفة عند كل من النظام والمعارضة. فبينما الأول يريد حصر التفاوض في إقتسام السلطة، مع الإبقاء على سيطرة حزب المؤتمر الوطني، فإن المعارضة تريد تغييرا شاملا ينهي الوضع القديم لصالح وضع إنتقالي جديد، يشارك فيه النظام ولكن لا يسيطر عليه. وفي الحقيقة، تقول التجربة والشواهد التاريخية، إن معيار نجاح أي حوار، هو أن يؤدي إلى المصالحة الوطنية والوفاق الوطني، وهما، في العرف السياسي للشعوب، لا يعنيان سوى التوافق على فترة إنتقالية مهمتها الأولى هي التصفية النهائية لأشكال الحكم القائم التي قادت للأزمة، وتكوين أشكال جديدة يقننها دستور ديمقراطي يصون حقوق الجميع ويجنب البلاد كوارث الصراعات الدموية والحروب الأهلية. وكما هو معروف، فإن تجارب الشعوب التي دفعتها ظروف الأزمات لأن تسلك طرق الوفاق الوطني عبر الحوار، تؤكد أن الوفاق يبدأ بتغيير أساسي في جهاز السلطة القائمة ودستورها وقوانينها، ويعاد للقضاء استقلاله ولحكم القانون سيادته، فتتوفر الحريات الديمقراطية الكاملة دون قيود على الأحزاب السياسية والنقابات والمنظمات الجماهيرية والصحف وسائر وسائل الإعلام المقروءة والمسموعة والمرئية، ليدلي الشعب برأيه، ويتقدم كل حزب واتجاه بما يرى من حلول، ويبعد من مواقع المسؤولية الحكومية كل من أرتكب جرائم في حق الشعب والوطن وتتم مساءلته، ويجبر الضرر برد المظالم ونشر حيثيات المحاكمات الجائرة….الخ.
أما العامل الخامس، فيتعلق بإجراءات بناءالثقة. وأعتقد أن من ضمن أسباب فشل جولات المفاوضات السابقة هو إنعدام الثقة بين أطراف التفاوض. وبدون تهيئة المناخ الملائم للتفاوض، توفر قدر من الثقة بين المتفاوضين، سيكون الناتج صفريا. المعارضة لا تثق في الحكومة وحزبها، ولم تتولد لديها، حتى الآن، قناعة بأن النظام حزم أمره تجاه حوارجاد لحل الأزمة. ولقد عودتنا الحكومة أنها، كلما ضاق بها الخناق، تلوح بالحوار كطعم تصطاد به من تصطاد. لذلك، من الطبيعي أن تتوجس المعارضة ، ونسعى ألا تلدغ من ذات النظام أكثر من مرتين! ولأن بناء الثقة لا يتم بإبداء النوايا الطيبة، ولا يمكن اختزاله في تصريحات ووعود من نظام معدومة فيه الثقة، وإنما يتم بالملموس المحدد، تطرح المعارضة إجراءات تهيئة المناخ. وبالطبع، فإن إجراءات بناء الثقة، والتي ستهيئ مناخا ملائما للحوار والتفاوض، ستتحقق فقط بعد أن يصدر النظام مراسيم وتدابير دستورية وقانونية واضحة تلبي ركيزتين أساسيتين: الركيزة الأولى، هي إعلان وقف إطلاق النار والسماح بمرور المساعدات الإنسانية للمناطق المحترقة في دارفور وجنوب كردفان وجنوب النيل الأزرق. وبالطبع تصدر المعارضة من جانبها إعلانا مماثلا. أما أن يرسل النظام دعاوى الحوار والمصالحة مع المعارضة السلمية في المركز، وفي ذات الوقت يزيد الحرب إشتعالا في الهامش، فلن يكون مخطئا من يصور الأمر وكأنه تواطؤ بين ابناء المركز ضد أبناء الأطراف والهامش، مما يزيد من حدة الصراع، ويضاعف الضغائن والاحن. الركيزة الثانية، هي ضرورة أن يجمد النظام العمل بالقوانين المقيدة للحريات، ويبيح حرية الاجتماع والتنظيم والتعبير والحركة، حتى يتوفر الجو الملائم لحوار متكافئ، وحتى يمارس الشعب حقه الكامل في متابعة الحوار الدائر بشأن مستقبله، بل والمشاركة فيه مشاركة حقيقية، حتى لا يختزل الأمر في إتفاقات النخب. وفي معركة الحوار والتفاوض، يستخدم النظام كل الإمكانات المتاحة له: هيبة السلطة وعلاقاتها الدولية، وموارد الوطن وثرواته، وأجهزة الدولة الضاربة في القوات النظامية والقوات الموازية وقوات الأمن والاستخبارات، ومؤخرا قوات الدعم السريع، وشبكة الإعلام الداخلي والخارجي…الخ، في حين إمكانات المعارضة المادية اقل بكثير، لذلك، تتمسك بمطلب تهيئة المناخ لأنها ترغب، إلى جانب تمكين الشعب من إبداء رأيه والمشاركة في صياغة مستقبله، في أن تختبر النظام الذي رسب بإمتياز في كل إختبارات الجدية والثقة السابقة. والحريات الديمقراطية التي تشطرتها المعارضة للمشاركة في الحوار، ما هي في الواقع سوى جزء يسير مما يفترض أن يخرج به الحوار، في حالة نجاحه. ومن ثم فإنها لا تعدو أن تكون عربونا بالجدية من جانب النظام (Down payment).
وأعتقد، وربما كان هذا عاملا سادسا، لابد من ضخ دماء جديدة في جهود المجتمع الدولي والإقليمي، عبر التوافق حول مجموعة حكماء من الشخصيات السودانية، الوطنية والمستقلة، ذات الأثر والوزن، للعمل مع المجتمع الدولي والإقليمي وآليات الوساطة، كهيئة إستشارية، ويمكن أن توكل لها مهام محددة، كالتواصل المباشر مع أطراف النزاع بهدف تقريب المسافات. ولعل تشكيل مجموعة الحكماء هذه، يسهم في درء سلبيات الوصفات العلاجية التي يقدمها المجتمع الدولي لعلاج الأزمات المتفجرة في دول العالم الثالث، ومن ضمنها السودان. فالحلول التي يقدمها المجتمع الدولي تظل دائما حلولا جزئية ومؤقتة وهشة، تخاطب الظاهر لا الجوهر، بحيث أن تشظيات الأزمة في هذه البلدان تظل كما هي، محدثة إنفجارات داوية من حين لآخر. وما يحدث الآن في بلادنا، والتي صارت أزماتها مطروحة على بساط البحث والعلاج في دهاليز المجتمع الدولي، منذ تسعينات القرن الماضي، وهو لا يزال يصدر وصفاته العلاجية كأنها الوصفة السحرية الأولى، يؤكد ما ذهبنا إليه.
هذا إذا أردنا فعلا السير في طريق الحوار الجاد لإنقاذ الوطن. أما التعامل مع الحوار والتفاوض وفق تاكتيكات المناورة، فهو لا يفصح عن عبقرية سياسية، بقدر ما يعكس خللا في التفكير، إذ ما فائدة الحنكة السياسية والقدرة على ممارسة التاكتيك السياسي، إذا كانتا لا تخاطبان قضايا الوطن بصورة جادة، وإنما تسخران للمناورة واللعب السياسي. إن تاكتيكات المناورة ستزيد حريق الوطن إشتعالا، وفي الغالب ستقود إلى تغيير الجغرافيا السياسية، بظهور دول جديدة من رحم دولة كانت موحدة، مثلما هو الحال بميلاد دولة جنوب السودان!.
من زاوية أخرى، هناك شواهد كثيرة، تدفع البعض إلى القول بأن للحرب في جنوب النيل الأزرق وجنوب كردفان ودارفور، طابعا عرقيا يسبح عكس تيار بناء الدولة الوطنية، ومن الممكن جدا أن يقود إلى مزيد من التفتت والتشظي. وفي نفس الوقت، فإن محاولة تصوير الصراع السياسي في البلاد وكأنه صراع آيديولوجي تقليدي بين دعاة الدولة الدينية ودعاة الدولة العلمانية، فهي محاولة لتغبيش الوعي السياسي للجماهير، وومحاولة للعب بتاكتيكات سياسية على بعض قيادات الأحزاب المعارضة. وفي ذات الوقت، هي سياسة تهدف لأن يفرض على الشعب السوداني قبول الأحلاف الآيديولوجية، العابرة للقارات والأوطان بين النظام وأنظمة أخرى، ولكل ذلك تداعياته التي عاشها وعاناها الشعب السوداني تطرفا وعنفا، وهزيمة لمفهوم التسامح والتعايش الإنساني غير المشروط بين المكونات القومية والإثنية والدينية لتلك البقعة المعروفة بالسودان. إن الصراع السياسي في البلاد، هو صراع بين دعاة دولة القانون والمؤسسات والمواطنة والحريات المدنية والسياسية وإحترام حقوق الإنسان، في مواجهة دولة الحزب الواحد، أو الشلة الواحدة، التي تعمل على تأجيج الصراعات القبلية والعرقية، متدثرة بغطاء الدين، منغمسة في فساد عجيب، مدعية إمتلاكها لمشروع حضاري، عجزت بجدارة، وبعد ربع قرن من الزمان، عن الحفاظ على دولة ما بعد الاستقلال موحدة، ناهيك عن بناء الدولة الوطنية الحديثة.
الشعب السوداني من ضمن شعوب العالم الفقيرة، واحلامه مثخنة بالجراح. انظروا إليه يتحرك صوب أعبائه اليومية مثقل الخطى مهموما بكيف يواجه غول الغلاء الشره، وكيف يتصدى لأهوال المرض والفاقة، وكيف يسدد الرسوم الدراسية وفواتير خدمات السكن والمياه والكهرباء والصرف الصحي والعلاج، رغم عجز هذه الخدمات عن توفير كريم العيش له ولإسرته..! انظروا إليه يسير مكبلا بتدهور وموات المشاريع التنموية الكبيرة التي لسنين عددا ظلت محفورة في ذاكرته، مشروع الجزيرة، السكة حديد، مصانع النسيج، النقل الميكانيكي، الخطوط البحرية والنقل النهري، الخطوط الجوية….الخ. الإنقاذ عمقت ووسعت هذا الجرح وجعلته غائرا متقيحا في جسد الأمة. ولقد عجزت كل النخب السياسية، حتى الآن، عن رتقه، وعلما بان رتق هذا الجرح بالذات يحتاج إلى خيوط متينة وأيدي ماهرة، وجميعها، الخيوط المتينة والأيدي الماهرة، غنية بها قطاعات الشعب السوداني ونخبه السياسية. وهذه الخيوط تستمد متانتها، مثلما الأيدي تكتسب مهارتها، من حقيقة أن بناء الدولة السودانية الحديثة يحتاج إلى التنمية والديمقراطية وتوسيع مبدأ القبول والمشاركة لتتعايش فيها القبائل والاديان والألسن، المتنوعة والمتعددة. اما إذا كانت هنالك مجموعات ترى في دحر الآخر هدفا استراتيجيا لبلوغ مبتغاها، فلتستعد لبناء ترسانتها الحربية، وليستعد
الوطن لنزف ما تبقى من دمائه.

Print Friendly, PDF & Email

عن laalaa

شاهد أيضاً

*تصريح صحفي* *المتحدث الرسمي لحزب البعث العربي الاشتراكي – الأصل*

Share this on WhatsApp*تصريح صحفي* *المتحدث الرسمي لحزب البعث العربي الاشتراكي – الأصل* سخر المتحدث …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.