الجمعة , مايو 17 2024
ardeenfr
أخبار عاجلة
الرئيسية / أخبار لالا اليومية / الأبنوسة المغردة ميري نيالانق

الأبنوسة المغردة ميري نيالانق

بعد صلاة العشاء الأخيرة في داري بالكدرو ، إستلقيت على فراشى ، فتناهى إلى مسامعي غناء أنثوي بالغ الثراء مفرط الحنين ينبعث من على خشبة مسرح النور الجيلاني بنادي الكدرو ،  سوبرانو يعلو و ينخفض بغناء بلغة الدينكا ، يتبادل معه المسرح و بنفس المستوى من الثراء و الحنين صوت شاب تتعالى معه زغرودة تشق ليل البلد نصفين . تجاهلت الأمر و قلت أخلد لمسبحتي و قمر منتصف جمادى يُلقي وشاحاً من الفضة على المشهد . الصوت الانثوي يصعد ، يتعالى غناء تحس بوقعه و تراتب خطاه ، يقترب من مكان غامض فى شغاف القلب و مسرب الروح .
بدأت حبات المسبحة تتباطأ رويداً رويداً ، وضعتها جانباً و أستغرقت أرهف السمع لذلك الخرير ، خرير النهر المولود فى ذلك الجزء الذي كان قطعة من الوطن الحبيب .

يرتفع السوبرانو ، و تشق خرير الابداع زغرودة متقطعة أيي أيي أيييي . أحس أن الصحراء الإهاب الذي يغطي مني الجسد و الروح ، بدأت رمالها تتساقط ذرة ذرة و لا تقوى أمام السحر و الجمال الذي يتغشاني و لا يترك لي فرصة استجمع فيها أنفاسي اللغة ، لغة الغناء لا أفهمها . لكني أحس بأنها مدسوسة فى مكان ما في روحي في وقت ما فى تاريخي ، و أن رمال الصحراء أتت عليها و طمرتها بطبقات من الوهم و هم الإنتماء لمشرق يسرق نقودي و لا يعترف بحجي ، و يسلق لساني و يغمز فى ظهرى بلسانه . ها هي الأبنوسة المغردة ميري نيالانق ، ترش عبيرها على إهاب الصحراء الذي يدثرني . قليلاً قليلاً بدأت أصحو من سباتي و انفض رمال الإهاب عن فراشي . أجلس القرفصاء فى منتصف الفراش و أبحلق فى داخلي . ميري نيالانق تصعد بقارورة عطرها على خشبة المسرح و تضغط على مكبس القارورة لتنفض ما تبقى من غبار المشرق على الروح المُعنى . هذه المرة يجب أن أسمح لغنائها الملائكي ليفضح ما تبقى من كبريائي الزائف و ليطلق قيد الخيول المسرجة زوراً أمام داري .

الآن أراها بوضوح ميري شخلوب اللبن من ضرع الإستواء ، تطبع قبلة على جبيني و تأخذ بيدي لأذهب معها هنالك حيث تغني ، تغني للحب و الوطن ، تغني للانسان المطلق ، تغني لحواء الاولى و هي تمشط شعرها و تزين جيدها بعاج و أبنوس ، المُغني الشاب ساج داو ، يصعد المسرح ، مسرح النور الجيلاني الذي غنى لجوبا و للسُمرة و السَمار ، فيصدح بغناء تهتاج معه الأجساد الطويلة الرشيقة ترقص و ترقص و تغني معه لفجر لا يستبينون ملامحه و لكنهم متيقنون من بزوغ شمسه ، أضنتهم الحروب ، حروب الإنفصال من الوطن الأم و حروب الثروة و السلطة فى الوطن الإبن . إنهم لا يرقصون فحسب و لكنهم يوقعون بحركة أقدامهم الرشيقة على دفتر العودة ، و ساج داو يغرد بصوته الساحر الحزين و ينشره بين الاستواء و النخيل خيطاً يعلقون عليه أمل إندمال الجرح و عودة الروح .

أمام المسرح أفسح لي جيمس مكاناً بجواره و أخذ يشرح لي ما استبهم من لغة الغناء ، إنهما كانا يغردان للأنثى و يبكيان على ضياع الوطن الكائن و يعتذران للوطن الذي كان . قلت لجيمس فى بداية الأمر كنت أظن أن الغناء المنبعث لفنان و فنانة اثيوبيان فقال لي : ميري و ساج ، جذورهما من أعالي النيل فى منطقة يفصل بينها و بين إثيوبيا خور صغير و يربط بين السكان تاريخ مشترك من العيش و الفن و الرعي و الغناء تتشابه الايقاعات و تتشابك الحيوات .

جيمس إنسان يؤمن بوحدة الانسان و قدسيته و يكره القتل و يمقت الكراهية ، قال لي ما دام الرب جل جلاله جعل قدرة الخلق له وحده فلا ينبغي لأحد أن يقتل أو يُهلك من يخالفه فى معتقد ديني أو فكري أو جغرافي . الذين فهموا الدين على أصوله تسامحوا و تساموا على اللون و احترموا التنوع و الحرية ، قطعت حديثه ميري و حولها صبايا و صبيات يتحلقون حولها و هي تغني بعربي جوبا للنور الجيلاني ، يا الرحت مني بعيد سبت الغرام و الريد . تمد حبالها و تهز رأسها و تفعل بالغناء كما يفعل به النور ، و المسرح يفيض بالسمرة و الخضرة ، و وسط الهزيج يحدثني جيمس عن خط القطار الذي ربط شمال بحر الغزال بالشمال كله و جعل سمار الليل فى دارفور و كردفان و بحر الغزال يستمعون لغناء واحد على بساط وطن واحد ، ميري نيالانق تغني و تنزع الإهاب ، إهاب الصحراء عن روحي فتفك أسري و تعلق في عنقي مسبحة من الأبنوس و العاج ، لأعود إلى داري و لساني يردد سبحان الله سبحان الله المودع الجمال فى الإنسان ، و أتساءل عن النخبة ، نخبة الصحراء التي أفقدتنا الغابة بكل ثرائها ، و أنفردت بنا لتحفر للوطن قبراً فى رمالٍ بلقع ، غداً تسفوها الرياح و تنكشف عن عورة لجسد هزيل أنهكه الجوع و الفساد و الظلم و التضليل بإسم الله .
…………………
منصور بلة محمد
الكدرو ٢٣ فبراير ٢٠١٨م.

 

Print Friendly, PDF & Email

عن laalaa

شاهد أيضاً

حزب المؤتمر السوداني تصريح صحفي

Share this on WhatsAppحزب المؤتمر السوداني تصريح صحفي طالعنا البيان المؤسف الصادر من سكرتارية اللجنة …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.