الجمعة , مايو 3 2024
ardeenfr
أخبار عاجلة
الرئيسية / أخبار لالا اليومية / “عركي أمام محكمة الردة الفنية”   (الحلقة الثانية والأخيرة)

“عركي أمام محكمة الردة الفنية”   (الحلقة الثانية والأخيرة)

هل تنزلق كوميديا عوض شكسبير إلى زَبَد الجمالية الطفيلية وحضيضها؟

  • عبد الجبار عبد الله

في ذات السياق الذي كتبتْ في مقالي السابق، أعودُ من حيث وقفتْ لمواصلة ما انقطع من حديث وأفكار حول القضايا ذات الصلة بموضوع هذه المناقشة. وهي قضايا -في مبتدئها ومنتهاها- من صميم مبادئ حقوق الإنسان وديمقراطية الثقافة وحق التعبير الفني الجمالي للفنانين والكتاب في شتى ضروب الفن وألوان الكتابة الإبداعية وغير الإبداعية، كونها جزءا أصيلا ولا تنفصم عراه عن مبدأ حرية التعبير وحرية الفكر. وهو ما لا يمكن اختزاله أو ابتساره في الأفق الضيق المحدود لمناقشة مادة الفيديو الذي أنتجه عوض شكسبير حتى نجد أنفسنا غارقين في “فنجان موية” ولا تكون محصلتها النهائية سوى انتصار أو هزيمة لأحد الطرفين مع/ضد عوض. فمثل هذه المعادلة هي التي تسد أفق النقد الذي يضيق أمامه صدر النظام ومؤسساته وقنواته الإعلامية، لا صدور الحادبين أصالةً على صون حقوق الإنسان وحرية التعبير في أرحب معانيها وممارستها الحقة، لا الصورية. وفي ذلك كله، فإننا نستند إلى مادة شريط الفيديو نفسه وهذا اللقاء التلفزيوني الذي تلاه.

وما دام مذيع هذا البرنامج التلفزيوني -الذي سيلازمني مثل ظلي طوال هذه المناقشة- قد “دقّ صدره” مشكوراً وأكدّ حرص الإعلاميين على امتلاك الحقيقة كاملة فيما يتعلق بموقف عركي، فليتسع صدره لنا كثيرا لأن الرياح قد لا تأتي بما تشتهي السفن دائما كما يدري. وأول تلك الرياح هذا المقال الذي ليس خاتمة لها بطبيعة الحال. تجدون فيما يلي الرابط للبرنامج التلفزيوني المذكور وأرجو إيلاءه عناية فائقة لأن حوارنا هذا لا يستقيم بدونه. ولذلك السبب، وحرصا على ألاّ “أقوِّل” أي من المتحدثين فيه ما لم يَقُل، فقد أمضيت وقتا طويلا في تفريغ مادته كتابةً.

وبذات الحرص على استقامة منهج النقد، استثمرت وقتا ثمينا وضروريا في مقالي هذا حتى لا يكون الحكم النقدي النهائي الصادر على فيديو عوض شكسبير مجرد حكم قيمة  value judgement أي بلا أسانيد وأدلة وقرائن وبراهين وتحليل نقدي عميق للعمل قبل معايرته نقدياً.

تنازُع الشكل والمضمون

وفي مقام اللجاجة الكلامية التي أحاطت بتحليلي لعلاقة الشكل والمضمون في فيديو عوض شكسبير ومدى صلته بحرية التعبير -وهو ما نراه جليا في الحوار التلفزيوني هذا- خطرت إلى ذهني تلك اللجاجة الأثرية الشهيرة في تاريخ الأدب العربي، التي ردَّ عليها الشاعر أبو تمام عندما سئل “لماذا لا تقول ما يُفهم يا أبا تمام” فجاءت  إجابته استنكارية صاعقة:  “ولمَ لا تفهم أنت من الشعر ما يقال يا أبا سعيد”؟  فما أردتُ قوله في “شعر النقد الفني” هنا لمزيد من الإيضاح وخروجا عن المماحكة واللجاجة التي ستغرقنا في فنجان الماء، هي أن الخلاصة النقدية التي توصلتُ إليها من تحليلي لمادة الفيديو أنها ذات عنصرين ومكوّنين، هما الشكل والمضمون مثلما هو الحال في جميع الأعمال الفنية. وبما أن شكل التعبير الفني في الفيديو هو “التعبير المسرحي” افتراضا، فهو ينتفي منه ولا ينطبق عليه بما أوضحت بتفاصيله في مقالي السابق. وبذلك لم يعُد هناك “تعبير جمالي كوميدي” يُنسب للفيديو كي ندافع عنه أو نختصم عليه في الأساس. غير أن ذلك لا ينفي أن لعوض رأياً يود قوله، وهو مضمون رسالته التي أخفق في إيصالها فنياً وجمالياً، بل أساء إلى فنه وذاته بتلك المحاولة في واقع الأمر. فما المضمون الذي تبقّى لعوض، عارياً مجرداً عن شكله الفني؟

هذه هي الإجابة كما فرّغتها “حرفياً” من شريط الفيديو:

“الآن أنا ما عندي إحساس بالغُنا

لكن اليورو بيحلها، مشكلتي اليورو بيحلها

الآن أنا… تقصد شنو؟ تقصد شنو؟

مشكلتي اليورو بيحلها.. وما عندي إحساس بالغُنا…

أحيّ يا اليورو.”

يشد انتباهنا لغوياً ومسرحياً “تأكيد” عوض على اليورو و”مشكلتي” و”بيحلها” في توازٍ وتكرارٍ وتردادٍ بايخ سخيف للثيمة الأساسية “أنا ما عندي إحساس بالغُنا”.  والغاية كما أراد، هي أن عركي لا يغنّي إلا لليورو وفي مقر الاتحاد الأوروبي، أما جمهوره من عامة “الرجرجة والدهماء المقطّعين” فلا شأن له بهم ولا هو “فاضي ليهم” لأن جيوبهم أفرغ من بطونهم الخاوية، فلا يرجى منهم مليم واحد أحمر!

وهذا هو المعنى الذي التقطه المذيع موجها به سؤالا إلى الأستاذ حسين ملاسي: شكسبير قدح في شخص الرجل ووصفه كأنه يسعى إلى المال، وأن مبادئه قد تركها من أجل اليورو تحديدا. كيف نقدر نقول أنو دا حرية تعبير، وهو قدح في الشخصية وكأنو بيحرق فيها يعني؟

حسين ملاسي: لا زالت في الإطار بتاع حرية التعبير. وعلى حسب الكلام القالو الأخ البراق، كل الأمثلة القالها للحفلات العملها عركي في نيروبي، في قطر، في أمريكا وما فيش حفلة منهم في السودان. فدا بعزّز نفس وجهة النظر الطَرَق عليها عوض. الفكرة المركزية للفيديو إنو عركي ما بيغني في السودان لجمهوره!

وبالمثل تعجبتُ أيّما عجب وأنا أرى الأستاذ حسين ملاسي ينبري بصفة القانوني ليجيب عن سؤال المذيع مقدم البرنامج الذي سأله عما إذا كان ممكنا أن يشكّل ذلك أساسا لإثارة اتهامات قانونية بحق عوض شكسبير، في استجابة لتعليق الأستاذ البراق النذير الوراق. صُعقت لملاسي وهو يرد بثقة القانوني الواثق الضليع: أنا بدّعي أِّني قانوني ومُجاز في القانون. ما بفتكر أبداً ممكن تكون في مساءلة قانونية لأنو لو واحد ادّعى في اسكتش أو كاريكاتير أو كده، فلان أخد مبلغ بكاش بينما المبلغ مكتوب بشيك، ما حيكون في فرق في المعنى. فالفرق كله في إنو غناء بمقابل في حفل معمول للاتحاد الأوروبي من جهة، مقابل عدم الغناء للجمهور البترجّا عركي كل مرة يعني عركي غنّي لينا، والتظاهرات البتحصل دي تترجّاه أنو يغني ويعود للغناء.

خدعة التمويه الفني

سأعود لتفنيد هذا الفهم التبسيطي المُخل لمعنى قصيدة عركي ولمجمل موقفه في موضع لاحق في حينه. ولكن فلننتبه الآن بشدة إلى فكرة استخدام الفن لتفادي المساءلة القانونية ” لأنو لو واحد ادّعى في اسكتش أو كاريكاتير أو كده..إلى آخره”.  والشاهد الآن أن ادّعاء عوض بحق عركي قد أصبح ادّعاء عارياً “ملوص ساكت” بلا اسكتش ولا كاريكاتير ولا يحزنون. يا أستاذ ملاسي، إن لعركي -إن شاء- أن يلجأ إلى القضاء وأن يأخذ حقه قانونا، ولو من باب الاعتداء على نص شعري كتبه وشوّهه عوض شكسبير واستخدمه دون إذن من مؤلفه. هذا من حقوق عركي بموجب قانون الملكية الفكرية. ودعك عن حقه في القذف وإشانة السمعة التي لا مراء فيها. أليس هذا بعضُ ما يمليه عليك الضمير القانوني المدافع عن الحقوق كل الحقوق، بما فيها حماية الملكية وصون أعراض الناس وكرامتهم الإنسانية التي ينهى “الإعلان العالمي لحقوق الإنسان” عن تحقيرها والحطّ منها؟

الطفيلية الجمالية وإقصاء المبدعين

إلى مغزى الطفيلية الجمالية ندلف الآن لنرى كيف ينزلق الفنان إلى غثائها وحضيضها.

هنا نخرج من “فنجان موية” عوض شكسبير لندخل إلى صلب الموضوع الأساسي وجوهره.

“الطفيلية الجمالية” مصطلح نقدي جمالي نحتّه من عندي في وقت باكر من عهد الإنقاذ يعود إلى عام 1990. وقد أردت به وصف أشكال التعبير الفني والأدبي الغُثاء التي أفرزها المشروع الثقافي للدولة الدينية في السودان في ظل نظام الإنقاذ الحاكم منذ عام 1989. والفكرة التي يقوم عليها هي أن رأس المال الطفيلي العاطل وغير المنتج اقتصاديا، ينتج نمط وعيه وأنموذجه الثقافي الطفيلي العاطل عن الإنتاج ثقافيا ومعرفيا وجماليا. وألاّ سبيل لهذا الأنموذج سوى “المحاكاة” الطفيلية الشائهة لمختلف أشكال المعرفة التي منها الفن والتعبير الجمالي. ومثلما يفتح الطفيليون المغالق والمطاعم وشركات الاستثمار الطفيلي ويضاربون في رؤوس الأموال، فإنهم يعملون أيضا على استنساخ شتى أشكال المعرفة، بما فيها أشكال التعبير الفني الجمالي بعد مسخها وتشويهها وحشوها بمضامين وقيم الثقافة الاستهلاكية الطفيلية الفجّة، وبما يلبي متطلبات واحتياجات وجدان الكائن الطفيلي المشروخ. وبذلك، يحرص هذا الأنموذج كل الحرص على فعل “الإزاحة الثقافية – بأثرها الفيزيائي- لكل ما هو أصيل ونقيض لذلك الأنموذج.

وأرى أن هذا هو المدخل النقدي الذي سيعيننا على تحديد السياق الثقافي السياسي الاجتماعي الذي ننظر من خلاله إلى محنة عركي البخيت وغيره من فناني بلادنا وكتّابها ومبدعيها على امتداد سنوات الإنقاذ الطوال العجاف. إذ كيف يمكن النظر إليها بغير ذلك وهي محنة لحمتها وسداها الصراع الاجتماعي السياسي المتصاعد والمحتدم حول حقوق الإنسان وحرية الفكر والتعبير والضمير، بما فيها حرية التعبير الجمالي الإبداعي؟

إن ما يريده لنا صديقنا عوض شكسبير، وكذلك الحلقة التلفزيونية المشار إليها آنفا -بل والترسانة الإعلامية لنظام الإنقاذ كلها- أن ننظر إلى غياب عركي عن جمهوره في السودان كما لو كان “غياباً اختيارياً ذاتياً” وأنّ عركي قد ابتعد عن جمهوره داخل السودان بمحض اختياره وإرادته. لا أستبعد أن يكون عوض قد وقع في هذا الفخ دون وعي واحتراز منه، وبالتالي دون قصد منه أن يكون جزءا من الخط الدعائي الإعلامي للإنقاذ. ربما، غير أن ذلك لا يعفيه من حقيقة الاندغام فيه عملياً على أية حال.

وأعيد هنا ثانية رد أبي تمام الاستنكاري على السؤال الموجه إليه: “ولم لا تفهم أنت ما يقال  من الشعر يا أبا سعيد”؟

والمقصود بفهم “الشعر” هنا -في مدلوله الثقافي الاجتماعي السياسي – هو لماذا يلح علينا نظام الجبهة الإسلامية القومية -لا يهمني كثيرا جلد الثعبان والمسميات التي يرتديها ويخلعها كل مرة حسب الحاجة وبما يمليه عليه فقه الضرورة-  ألاّ ننظر إلى واقعنا في عمومه وشموله وكلياته، وأن ينحبس الأفق والنظر عِوضا عن ذلك، إلى ظواهر الواقع الماثل أمامنا، والذي هو واقعٌ من فعل سياساتها وممارساتها هي- وكأنها ظواهر وأحداثا فردية اعتباطية معزولة ومجتزأة من بعضها البعض؟ من قال أنّ عركي ظلّ “مشحوطاً” واقفا وحده على طرفٍ منزوٍ على الرصيف أو قارعة الطريق منذ انقلاب الإنقاذ، بينما تتلألأ وتسطع في سماء ليل الطفيلية الجمالية الكالح أنجُم ما كان لها أن، ولا حتى في خيال المجتمعات والأمم والشعوب؟ لننظر هنا في مجال المسرح ابتداءً.

فمشكلة مَنْ مِن الفنانين المسرحيين نناقش، بينما يجلس على الرصيف مُبعداً منتبذا ركنا قصيا فرضته عليه سياسات الإنقاذ أستاذه الفنان المسرحي العملاق محمد عبد الرحيم قرني، الذي هو أيضا من أميز من يدرّس مادة التمثيل والإخراج المسرحي في أي مؤسسة أو أكاديمية علمية متخصصة بحق، وإلى جانبه الرشيد أحمد عيسى وقاسم أبو زيد، والعشرات من خيرة الممثلات والمسرحيات، فضلا عن أستاذنا جميعا هاشم صديق..وغيرهم مما لا يسع المجال لذكرهم. وفي المقابل تصعد إلى السماء أسماء أنصاف الفنانين وأرباعهم عبر استكتشات الكوميديا الهزيلة الرثة البائخة، وأرتال مروجي النكات العنصرية التي تبث مختلف أصناف السخف باسم الفن والفكاهة والدراما. بل أين المسرح القومي نفسه؟ أين تبخرت المواسم والمهرجانات المسرحية؟ هل باختيار المسرحيين يا ترى أم بفعل فاعل؟ واسألوا بربكم السني دفع الله ومصطفى أحمد الخليفة ومحمد نعيم سعد في فرقة الأصدقاء، أسألوا أعضاء فرقة الهيلاهوب بأي ذنب طوردوا وحوربوا واُعتقلوا وتم استدعاؤهم مرات ومرات إلى أجهزة الأمن. ولكم أنت محظوظ يا صديقي “تروِس” تصول وتجول هناك في عوالم “الكوميديان الفرد” المبدع الذي تخلقه وتبنيه بكامل حريتك من ثياب “حاجة المؤتمر الوطني” وما إليها وحولها من مسخٍ وتشويهٍ و”قرف”، مستظلاً بنسائم الحرية التي تتيحها لك مدينة لندن. ولكن هل كان ممكنا أداء هذا الدور في السودان؟ عندها تكون محظوظا إن لم يبتلعكما الغول معا أنت و”حاجة المؤتمر الوطني بتاعتك دي”. أُدرك قيمة وأهمية ما تفعل. فأنت أذكى ممن يتهافتون وينحدرون بفنهم عموديا إلى قاع حضيض الجمالية الطفيلية وغثائها. ولكنّ لا مناص من الحذر والاحتراز إن كنت تعتزم السير في هذا الطريق الوعر المحفوف بالفِخاخ وبالمخاطر والصعاب.

أنا ما عندي إحساس بالشعر!

 

وفي مقام الشعر هل كتب محمد طه القدال قصيدة قال فيها أيضا “أنا ما عندي إحساس بالشعر” وبذلك صاغ له “مبدأ حنبلياً” بمقاطعة جمهور شعره الواسع العريض في السودان؟ كان شاعر الشعب محجوب شريف منفيا محبوسا وراء القضبان، وكان هناك أيضا زميله الشاعر كمال الجزولي، كان عمر الطيب الدوش منفيا مشردا من مملكة الشعر -التي كان وما زال أحد نواصيها الراسيات- شقياً  طريداً من عمله في معهد الموسيقى والمسرح حتى لحظة وفاته، كان حميد والياس فتح الرحمن ومحمد مدني وهاشم صديق ونجاة عثمان ورقية وراق وغيرهن بعيدين عن دوائر وقنوات الإعلام الرسمي، وكذلك كان أزهري الحاج وعاطف خيري والصادق الرضي وحافظ محمد خير وغيرهم ممن لا يسعهم المجال. ولكن في مقابل تغييبهم وحبس أنفاسهم وإحصائها من قبل جهاز الأمن وعسس الليل، كانت هناك روضة الحاج شاعرة الإنقاذ وأندادها الذين يدفعون بشبابنا في الجامعات والمدارس الثانوية إلى أتون محرقة حربهم “الجهادية” في جنوب السودان.  وقد سطعت أنجم هؤلاء عبر برنامج شعري وُلد ميتا أسموه حينها “شعراء بلادي”. أذكر جيدا أنني نظرت إليه فلم أر شاعرا ممن أعرف، فقلت لنفسي يا ترى هل أنا مواطن في بلاد الواق الواق، أم أنّي الآن مقيم في بلادي التي اسمها السودان ويتحدث باسمها هذا البرنامج؟

فانظر كيف انتباني شعور عميق بالاغتراب -بمعناه الفلسفي- عن وطني الذي خُلقتُ له مثل سيجارة البرنجي المكتوب على علبتها “صُنعت خصيصا للسودان”. هذه هي العبارة المحببة التي كان يصف بها صداقتنا المشتركة محجوب شريف. فهي ملكٌ له وحده بلا منازع وتظل كذلك في حضوره شعراً وإلهاماً وروحاً وجمالاً رغم غيابه جسدياً عنّا.  فتأمّل كم من مثقفي السودان ومبدعيه ينتابهم ويؤرقهم هذا الشعور المُمِض كل يوم ويوم. بل إنه الشعور نفسه الذي يدفع عددا لا يستهان به من السودانيين إلى الفرار من وطن لم يعودوا يشعرون بأنه ملكٌ لهم وينتمون إليه، ما أحالهم قسراً ورغما عنهم إلى “مغتربين” منفيين داخليا. “أنا ما عندي إحساس بالغنا رغم الغنا الجواي كتير”.

وأين أنت من مقررات كليات الآداب في بلادنا يا الطيب صالح، منذ أن دمغوا رواياتك وأدبك بعدم توافقهما مع التوجه الحضاري للأمة، وطردوك أنت واتحاد الكتاب السودانيين شرّ طردة من داركم العامرة التي أنشأتموها في المقرن لتصبح مقرا لاتحاد الطلاب السودانيين الموالي للنظام؟ وبما أن التداعيات تترى والكلام يسوق بعضه بعضا: أين فرقة الفنون الشعبية؟ هل أصابتها لعنة عبد الله دينق نيال، ذلك الإبن العاق لقبيلة الدينكا، الذي سرعان ما تنكّر لتراث أهله وتعالى عليه واحتقره بعد أن لبس العمة والجلباب وتأسلم واستوزر مع مستوزري الإنقاذ فما ارعوى عن وصف رقصات فرقة الفنون الشعبية بأنها رقصات خليعة ومسيئة للإسلام، وأن على الراقصات إن أردن أن يرتدين زيا إسلاميا؟ بالله أنظر كيف تكون “لغوسة” الرقص في تناقضها مع التراث والأزياء إن أذعنت الفرقة واستجابت. فهل من خيار آخر أمامها سوى أن ينفض سامرها وينفرط عقدها! فما لم يقع من سياط الإنقاذ و”حسبو نسوان” على ظهور النساء تحت أحكام قانون النظام العام سيء الصيت، يقع على ظهور الراقصات والفنانات منهن في شكل قرارات ذكورية مغلظة تعيدهن قسراً إلى “الخدور” والمخادع وبيوت الطاعة. فثقافة التمييز ضد المرأة وقهرها واضطهادها ظلت ركنا أصيلا من أركان التوجه الحضاري ومشروعه الثقافي الطفيلي الغُثاء.

نبتات قيقم الشوكية في حديقة الغناء

 

ورحماك يا مصطفى سيد أحمد، رحماك يا وردي يا من “اغتربتما” وتشردتما كثيرا وطويلا من وطن صدحت له حناجركما بحبه والتغني له بأعذب وأزهى وأجمل ما تكون الأغاني والألحان. ولكنه يا للحسرة تنكّر لكما واضعاً أصابعه في أذنيه “من خطر الغناء” لافظا إياكما في سماء تحتها “أرض يباب” لا تنمو في رمالها إلا نبتات “قيقم” الشوكية المؤذية للروح والوجدان، التي منها نبتة “فرقة نمارق” الموسيقية التي “مسخت” تجارب الكورال والغناء الجماعي إلى مجرد “كركبة” موسيقية وأجساد تتمايل يمينا وشمالا، وأصوات نشاز تنهق بأنغام وكلمات شعرية لا تسوى جميعا مفردة واحدة من قصائد عمر الطيب الدوش، ولا رنة عود واحدة من ود الأمين. إنّ الغناء لا يُشترى بالمال أيها الواهمون، لأنه رسمٌ على الحسِّ وتصويرٌ على الأعصاب كما قال التيجاني يوسف بشير. 

بل إن هناك معتوها في التلفزيون أمر في باكر عهد الإنقاذ بإعدام أبدع وأندر ما حواه الأرشيف لعدد من أغنيات الفنانين المغضوب عليهم. حينها حُرِّم عليك أنت يا كابلي “بالثلاث المغلظة” ترديد ذلك البيت الزنديق الآبق الذي تقول فيه الأغنية:

 “رفعتُ الكأس عن شفتي لعلّ جمالِك الخمرُ

وبي سُكرٌ تملكّني وأَعجَبُ كيفَ بي سُكرُ”.

أوعك يا كابلي بلا كأس بلا خمر بلا كلام فارغ معاك في ظل التوجه الحضاري للأمة. ده مش عهد الجاهلية الوثنية البائد الكنتو فيه تبرطعوا وتغنوا زي ما عايزين على كيفكم زمان.

وعلى وقع حافر مثل ذلك الإنقاذي المتبلّد الحس والوجدان، القاصر عن إدراك مغزى الشعر ومدلوله في مختلف مستويات معانيه وظلالها وطبقاتها،  فُسّرت قصيدة عركي بذات القصور ليحاكَم ويُساء إليه بذريعتها عن جهل وبلادة كما سنرى في موضعٍ تالٍ من المقال. 

جالسٌ أنت على الرصيف يا عركي “يا حردان الغُنا” وكأنك بإصرارك العنيد ذاك على بقائك في السودان، ما أردت إلا بيع المساويك أو الفجل والملوخية والرجلة في سوق ملجة امدرمان! وهل أغواك “عدم إحساسك بالغُنا” للدخول في سوق الله أكبر، ربما فتحها المولى عليك مرة واحدة فدشنتَ لك محلا تجاريا تفوح منه رائحة الشواء في سوق الناقة القريب من بيتك في امدرمان؟ نان فايدة قعادك شنو وانت الهجرتَ الغُنا؟ قاللّو العربي مستنكراً متعجباً: نان شن كافرْلَها يا النصراني؟ لا سيجارة لا تمباك لا شربة..! والله ياهو ده حالك يا عركي من منظور الآلة الجهنمية لإعلام الإنقاذ. حالة عبثية لم يكتبها مسرحياً حتى صمويل بيكيت، بانوراما سريالية لم يرسم لوحتها سلفادور دالي، وليت الروائي الكولومبي غارسيا ماركيز كان سودانياً. منذ زمن بعيد قرّ بذهني أن السودان رواية “مفطوطة” في أدب ماركيز، وأن ليس هناك من دراما عبثية أقوى وأوقع من دراما الواقع اليومي في بلدي. إنه “المسرح  الحي” بعينه كما أسماه صاحبه ضمن تيارات المسرح الأوروبي الحديث. 

حزنتُ أيّما حزن وأنا ألتقط صورة تذكارية لسينما امدرمان الوطنية وقد آلت إلى خرابة مهجورة ترتع فيها الكلاب والقطط الضالة. دمعت عيناي وأنا اشاهد صورة أخرى مثلها لسينما كوستي . أين مؤسسة الدولة للسينما؟ أين دار الرِجس تلك التي كان يتحلّق حولها ويحجُّ إليها أولئك المثقفاتية المقاطيع الصعاليك الذين يهرعون إليها أفواجا كما لو كانت مكّتهم المكرمة؟ ما اسمها يا ربي؟ لعل اسمها كان المجلس القومي للآداب والفنون… مقطوع الطاري والذكر.

حين تنطق التماثيل رافضة وجودها

وبأي ذنب حُطِّمت التماثيل المنصوبة في عدة شوارع ومواقع في مدن العاصمة الثلاث وخارجها. أذكر منها على سبيل المثال لا الحصر- تماثيل كلية الفنون الجميلة والتطبيقية، تمثال الدكتور التجاني الماحي، تماثيل الشهيدين أحمد القرشي طه وبابكر عبد الحفيظ، تمثال بتهوفن في معهد الموسيقى والمسرح، تمثال بابكر بدري بجامعة الأحفاد، تماثيل الراقصين بمسرح الفنون الشعبية بامدرمان، تمثال الحرية بمدينة الدامر، تمثال عثمان دقنة بمدينة بورتسودان، تماثيل المجلس القومي للآداب والفنون، بل حتى نصب الجندي المجهول قبالة القصر الجمهوري. ألم تكن هذه التماثيل رمزا لوجهنا الحضاري الجمالي حين كنا قبلكم من بين الشعوب المتحضرة التي تقدّر الفن والجمال؟ ربما -والله وحده أعلم- قد كسرت أنف تلك التماثيل لعنة الانتظار الطويل… أعياها الوقوف فكتبت هي الأخرى رسالة إلى المسؤولين عنوانها “بِقى ما عندي إحساس بالوجود” لعل “الأصنام” والحجارة نفسها تنطق وتطالب بالإزالة.  فكل أمر جائز في هذه الدنيا الدبنقا الفرندقَس التي لا بد من دردقتها بشيش شان ما تنكسر كما يقول أهلنا المقهورون في دارفور!

وبعدين تعالوا يا جماعة.. قال أحد عباقرتهم الأفذاذ في غمرة هوس وجنون طفيلي: إنتو المتحف القومي دا ذاتو مالو كلو أوثان وأصنام ورموز مسيحية ونوبية.. ليه نحن ما نغيّر هويته عشان يعكس التوجه الحضاري الإسلامي المشرق للأمة؟ ولولا أن لطف الله بفضل وجود المرحوم البروفيسور أسامة عبد الرحمن النور وكوكبة من علماء الآثار السودانيين حينها، لحدثت كارثة وأي كارثة لتاريخ حضارتنا السودانية النوبية القديمة، بل أكبر كارثة يمكن أن تحدث لأي شعب من شعوب الدنيا. أن يُمحى تاريخه وآثاره مرة واحدة وإلى الأبد.

ومن نبتات الطفيلية الجمالية الشبيهة والمتآزرة مع بعضها بعضا في مختلف أوجه التعبير الجمالي “مدرسة الواحد” التي قطعها من رأسه في حقل التشكيل الفنان التشكيلي الراحل أحمد عبد العال.

ليك من سحر الجنوب قسَماتُه

دعكم من عركي ومحنته، فهو ليس سوى فرد مثل غيره من عشرات بل مئات فنانينا ومبدعينا الجالسين على الرصيف. ألَم ينفصل جنوب السودان نفسه بسبب مظالم تاريخية، من ضمنها اللغة والثقافة والدين؟ عجبتُ وأنا أشاهد “فخامة الريِّس” بين مكذب ومصدق لما أرى في ذلك الفيديو المبثوث على اليوتيوب لزواج ابنة ابراهيم شمس الدين. ولمَ العجب؟ كان “الريّس” يتمايل يمينا وشمالا مع كلمات أغنية أحمد المصطفى “يا بنت النيل” الشهيرة. وما أن بلغ الفنان المقطع الذي يقول فيه “ليك من سحر الجنوب قسَماتُه ومن طيب زهرَ الشمال نسماته” حتى كاد يطير على أجنحة الطرب والنشوة والرقص، فكدت أطير على أجنحة الأسى والحزن، إذ كان جنوبنا الحبيب قد انفصل أصلا بجرّة من قلم الريّس أو مباركته! يا ربي كيف يكون هذا؟ اللهم إلا سهواً، والمؤمن “سهّاي” كما نعلم، أو نكايةً بنا كوننا أصبحنا في نظرهم شعبا مغلوبا على أمره حتى أنه لم تعد له ذاكرة. ولكن إن كان ذلك سهواً، أتذكرون تلك الدورة المدرسية المقامة في بورتسودان؟ كان الريّس -حفظه الله ورعاه- قد أشجانا بصوته العذب الطروب عندما ردد مع تلك الطالبة مقطع “لما حار بيّ الدليل”. وقد طربتُ أيّما طرب -والحق يقال- للمغزى السياسي لذلك السهو الرئاسي. بالله من ذاك الذي أشاع بيننا أكذوبة أن “العترة بتصلّح المشية”، إذ يبدو ألاّ سبيل البتّة لإصلاح المشية السياسية “المكجوَلَة” جينياً وفطرياً كما نرى!

عودة إلى الذاكرة الانفعالية للممثل

آهٍ ما كل هذه التداعيات، وأين نضعها في خانة النقد الفني لشريط الفيديو ذاك؟ لو تذكرون، كنت قد تطرقتُ سريعا إلى مفهوم الذاكرة الانفعالية للممثل حين يشرع في تخليق أي عمل مسرحي ما يتضمّن تجسيد الشخصيات. والمقصود بذلك في نهج ستانسلافسكي هو مدى قدرة الممثل على استدعاء ذاكرته الانفعالية واستنهاضها بما يمكّنه من إيجاد السياق المعقّد المركّب والضروري لعملية الخلق المسرحي. ولئن كانت قد خطرت كل هذه التداعيات بذهن عوض شكسبير أثناء محاولته تجسيد شخصية الفنان أبو عركي، لما صوَّره بذاك المسخ والسخف، ولعرف كيف يقف إلى جانبه متضامناً معه كون محنة عركي جزءاً لا يتجزأ من هذا الاستدعاء للواقع الثقافي السوداني الماثل منذ يونيو 1989 وإلى اليوم. ولكان عوض قد نظر من خلاله وعلى أساسه إلى محنة العشرات بل المئات من رِفقة الفن في مختلف ضروب تعبيرهم الجمالي وألوانه. فهي في نهاية المطاف أزمة حق التعبير في عمومها، التي منها أيضا محنة الكُتاب والصحفيين والصحافة وحريتها إلى اليوم. فهل كانت هذه الأزمة كلها محض صدفة؟

أسلمة الآداب والفنون

  

إلا غبيٌ أعمى من يجيب ببلى. ففي خلفية هذا المشهد تقف هجمة “حملة الدفتردار” الانتقامية التأديبية التي قادتها إنتللجنتسيا تنظيم الإخوان المسلمين الأوباش منذ  فجر الانقلاب على الثقافة والمثقفين في مختلف وجوه أنشطتهم وألوانها وأشكالها. وكانت قد نُظمت تلك الحملة في المؤتمر الذي عقدوه في عام 1990 تحت شعار “أسلمة الآداب والفنون”. وتستند الفكرة كما حوتها وثيقة المؤتمر، إلى نزعة عدمية ثقافية nihilistic    تنزع إلى القطيعة التاريخية مع كل ما لا يتفق مع سياسات “التوجه الحضاري” من منظور التنظيم الحاكم، وبما يخدم مصالح دولتهم المستبدة القابضة ويعزز مآربها في التمكين الاقتصادي الرأسمالي الطفيلي. وقد تبدّت إرهاصات ذلك المشهد منذ إعلان قوانين سبتمبر 1983 وإعدام الأستاذ محمود محمد طه، شهيد الفكر وحرية الرأي والضمير، يوم أن كان في أفقهم التخطيط للانفراد بالحكم بعد أن كفروا بالديمقراطية النيابية التي تسد عليهم ذلك الطريق. وفي الحقل الثقافي الاجتماعي فلا يعني الانفراد بالحكم سوى أحادية الرأي وإقصاء الآخر ونفيه. ومن هنا كان نفيهم للتعدد وحرية الفكر والتعبير. من هناك أيضا كانت حاجتهم ماسّة وملحّة إلى مشروع ثقافي يوطد هذه الأحادية ويبرر ممارسات تمكينهم الاقتصادي. فرأس المال الطفيلي هو أيضا خليط ٌومسخُ شائهٌ مركّب من مالٍ ووجدانٍ مشروخ.

ولذلك لم تكن الديمقراطية الثالثة التي لم تدم طويلا بعد انتفاضة مارس أبريل 1985 سوى عقبة على الطريق، سرعان ما اجتازوها انقضاضا عليها بانقلابهم العسكري في يونيو 1989، وكانوا قد بدأوا التدبير له عمليا منذ المصالحة الوطنية مع نظام جعفر نميري في 1978. والأدلة على كل ذلك مبذولة على “قفا من يشيل” في سسلة الحلقات التلفزيونية المسجلة مع شيخهم الراحل حسن الترابي في برنامج “شاهد على العصر” الذي  بثته قناة الجزيرة بعد وفاته.

وعليه، فإن من الضرورة أن نعي هذا المشروع الجهنمي أولاً، وأن نتبيّن أبعاده وتجلياته واستراتيجيات عمله وميكانيزماته الإقصائية الاستعلائية برمّته وكليّته. وغني عن القول أنّ ما يستتبع ذلك ويقتضي مناهضته فكريا وبعقل مفتوح مستنير نشط، هما ما يمهدان الطريق أمام بلوغ وطن وآفاق أرحب تُحتَرم فيها كل الحقوق والحريات وتزدهر فيها كل ثقافات السودان وآدابه وفنونه. هكذا نفهم الدعوة إلى حرية التعبير واحترامها في عمقها ومغزاها الأصيل.

عركي أمام محكمة الردة الفنية

  

“ومن أنا سوى رجل واقف خارج الزمن” هكذا تبدو صورة الفنان عركي في حالة “اغترابه” في صقيع هذا المشهد العبثي العام، الذي هو مركّب استثنائي معقّد من مسخٍ اقتصادي اجتماعيٍ سياسي ٍ روحي فظ، يصعب احتماله ومواجهة آثاره الكارثية المدمرة لكل إنسان. قال عركي رِفقا بشعبه، تلطّفا به من فيضِ نبلِ الفنان وإرهاف حسّه ووجدانه:

الآن أنا ما عندي إحساس بالغُنا

رغم الغنا الجواي كتير

وساكن الروح والزفير

حالة البلد بي وضعها الراهن

ومعاناة شعبها

بِحتّم علي أدسّو غناي

جوه حشاي

وما أمرق على الناس الرُهاف وحُنان

وأعكس ليهم الجواي ..!

 

فما كان من الذهن “التخين” الخامل إلا أن أوّلها “حرفيا” وأحالها إلى “مبدأ أخلاقي فني حنبلي” خانه عركي منجذبا إلى سطوة بريق المال بمشاركته في الحفل الذي أقامه الاتحاد الأوروبي. ألم يسأل هذا “المخ التخين” نفسه عمّا هي “علة وجود” عركي في الحياة إن لم تكن الغناء الذي لا ينقطع، كونه الرئة التي يتنفس بها ويعيش؟ ألم يلاحظ أن هذه الكلمات نفسها قد أدّاها عركي غناءً وليس شعراً؟

قالت ابنته نيلوفر: سألني الكثيرون لماذا توقف عركي عن الغناء؟

“إجابتي كانت دائماً تملؤها صيغة المتحدث عن واقع الحقيقة المعاشة .. أقولها بكل الصدق أن عركي لم يتوقف يوماً عن الغناء ولن يتوقف”. ولكن هيهات، من يسمعك يا نيلوفر في سوق الطرشان هذا؟

قال حسين ملاسي: “إن القضية المركزية هي أن عركي قد اتخذ مبدأ عدم الغناء لجمهوره داخل السودان، ولكنه غنّى في حفل الاتحاد الأوروبي مقابل مبلغ من المال”. ألم يكن بوسعك أستاذي العبقري الفذ فريد عصره وزمانه، الوقوف لوهلةٍ تتمعن فيها أي سبب يحمل أبوعركي على الامتناع عن الغناء لجمهوره في السودان، وهو المصر على العيش والبقاء بين شعبه وجمهوره؟ نان فايدة قعادك شنو ياعركي وانت الهجرتَ الغُنا؟ قاللّو العربي مستنكراً متعجباً: نان شن كافرْلَها يا النصراني؟ لا سيجارة لا تمباك لا شربة. بالله مش ياها ذاتها يا حسين ملاسي وعوض شكسبير؟ تشهد عليكما الأجيال المتعاقبة من خريجي كلية الفنون الجميلة التي يغنِّي لها جيلا بعد جيل “مجانا” أبو عركي البخيت وشرحبيل أحمد في كل احتفال تخريج سنوي لطلاب الكلية. وهل هناك أفقر من الطلاب ممن لا يستطيعون دفع “مليم أحمر” واحد لفنان من الدرجة الأولى بقامة شرحبيل وعركي؟ ولذا أسألك يا عوض: أين طشّت ذاكرتك الانفعالية من كل هذا؟

وبالمثل لفت نظري بشدة صمت الفيديو والبرنامج التلفزيوني -لا عوض شكسبير ولا مذيع البرنامج ولا المتحدثين- عن سبب مشاركة أبو عركي في حفل الاتحاد الأوروبي. ألم يكن ذلك للاحتفال باليوم العالمي لحقوق الإنسان ولتكريم اتحاد الكتاب السودانيين وتكريم الأستاذ محجوب محمد صالح؟ أي أن عركي كان يحتفل بحقوق الإنسان ويدافع عن حرية الفكر والتعبير؟ وفي موسم “السهو” العام هذا نسى كل الأبطال الصناديد المدافعين عن حرية التعبير في البرنامج أن عركي هو الذي صودر حقه في التعبير بانتظام طوال سنوات الإنقاذ التي ناهزت الثلاثة عقود.

ولولا سوء النية وقصد الإساءة والتجريح، لماذا لم ينتج عوض شكسبير مقطع فيديو مشابه عن عركي عند مشاركته قبل شهرين من ذلك في فعالية مبادرة لا لقهر النساء؟ وقبل حفل الاتحاد الأوروبي أيضا، عند مشاركته في زواج صديقه يوسف الحبوب في امدرمان في شهر نوفمبر؟

ثم وقفتُ طويلا على قول المذيع متسائلا: الرجل حاول يغني قبل 3 سنوات في حديقة القرشي وما أدوه تصريح؟

حسين ملاسي: إذا افترضنا أنو تم منعه قبل 3 سنوات كحدث واحد قبل 3 سنوات، وآخر حفلة مثلا اضَّرب فيها بالمولوتوف ولاّ حصل فيها شغب سنة 1992، دا يعني ما بفتكر يعني مبرر للتوقف النهائي والظهور في…

المذيع مقاطعاً: وصلت الفكرة.

وكم رأيت ملاسي مفتوناً بعبارة “تقوقُع” عركي في نفسه وابتعاده عن جمهوره في السودان.

قال أبو تمام: “ولم لا تفهم أنت من الشعر ما يقال يا أبا سعيد”؟ وفيما يبدو أن فهم الشعر صار أشد صعوبة من فهم اللغة الهيروغليفية وفك طلاسمها الغامضة المحيِّرة.

لست أدري لماذا تذكرتُ فجأة محاكم التفتيش في العصر القروسطي الأوروبي. كيف لاحت لي فجأة صورة القاضيين المهلاوي والمكاشفي طه الكباشي، ومن أين ومَضَت بخاطري فكرة “الردة الفنية” فيما يشبه “ردة محمود الدينية”.. لعلها يا ترى من بنات تهيؤاتي وأوهامي التي أثارتها في ذهني عبارات “المبدأ” و”الخروج” التي من فرط تكرارها والدق عليها في ذلك البرنامج التلفزيوني حتى خِلتُها “لُباناً طاعماً بنكهة النعناع” يلوكه المتحدثون بتلذذ غريب ودون توقف. أقسم بالله أنها قد أصابتني بحالة من الغثيان والدوار.

الحكم النقدي الأخير على مقطع الفيديو

كما شهدنا من قبل التنازع ما بين شكل التعبير الفني ومضمون الشريط، من حيث انتفاء شكل التعبير المسرحي عنه، فإننا نشهد في ختام هذا التحليل، انتفاء المضمون الذي أراد عوض التعبير عنه. فهو خلوٌ من الصدق الفني على مستوى الشكل والتعبير الجمالي، بقدر خوائه أيضا من المضمون، وافتقاره لأي صدقٍ أخلاقي كان. إنه الخواء الغثاء الذي لا مكان له سوى سلّة حضيض “محاكاة” الجمالية الطفيلية .. ولا مكان آخر غيرها. وهذا أيضا -على مستوى المعايير النقدية- وجه من وجوه جدلية الشكل والمضمون في العمل الفني. فبانحطاط الشكل ينحط المضمون والعكس صحيح.

ختاماً، أعرب عن عميق امتناني للأستاذ التيجاني مذيع البرنامج التلفزيوني الساعي إلى معرفة الحقيقة. فهذا ليس سوى غيضٍ من فيضٍ منها إن شئت. وأشكر القراء على حسن صبرهم على إطالتي. فهذا عرضحالي وعرضحال كل الموجوعين في وطن اسمه السودان.

ولكّنا سنظل نردد مع شاعرنا المبدع عبد الحي ونحن “نقف معاً” فنانين ومبدعين  ونتطلع “معاً ” إلى شمسِ يوم سيأتي لا محالة.

“عند فجرِ الأُغنية

تشرقُ الشمسُ

وفي مغرِبِها

يمتلي بالنجمِ ليلُ القافية”

وسيغنّي “عركي” حينها مثلما غنّى الخليل.. مثلما غنّت مهيرة تلهمُ الفرسانَ جيلاً بعدَ جيل. وسنأتيكَ خفافاً كخيولِ الريحِ من جوفِ العتاميرِ نغنّي ونغنّي ونغنّي يا وطني.

Print Friendly, PDF & Email

عن laalaa

شاهد أيضاً

حزب المؤتمر السوداني تصريح صحفي

Share this on WhatsAppحزب المؤتمر السوداني تصريح صحفي طالعنا البيان المؤسف الصادر من سكرتارية اللجنة …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.