الخميس , مايو 2 2024
ardeenfr
أخبار عاجلة
الرئيسية / أخبار لالا اليومية / النظرة الأخيرة …

النظرة الأخيرة …

(قصة واقعية)

      كان صباح غريب الملامح ، وانا مسترخي بغرفتي أرتشف كوب شاي باللبن الدافئ ، ودخان السيجارة يتطاير أمامي حتي يصطدم بهواء المروحة ، ويعود بعد أن تهزمه قوة دورانها فأخذ رشفة من الشاي الدافئء ، واسحب نفساً عميق من السيجارة وأتابع لفائف الدخان ، والهدوء يكتنف الغرفة وهذا ما يميز منطقة (شمبات) بمدينة بحري كان جميع افراد الأسرة يقطنون في الجزء الداخلي من المنزل ، بينما استمتع بهذه الغرفة الكبيرة ؛ لنوافذها المطلة علي الشارع لأفتحها كل فترة أستنشق نسيم الصباح ، وتمتلئ  الغرفة من الهواء النقي الذي يمنحني رعشة خفيفة من الدعاش الصباح الذي ينساب بقوة ، فاغلق النوافذ واعود متوسداً مخدعي ، كانت النوافذ مغلقة وانا سارح في تفكيرعميق ، وانظر لسقف الغرفة الذي امتلأ ببقع سوداء تحكي تفاصيل الناظرين الي تعاقب السنوات . واختلس النظرات للهاتف من حين الي حين فصديقتي (اشراقة) تقتطع الفرص لتصلني منها تحية  الصباح ، واجندة اللقاءات التي لا تحتمل التجاهل ، حاولت أن اعود للنوم بعد ما بدأ جسدي يشكو من السهر ولكن هيهات !
فقد شعرت بطرقات كصوت الرصاص علي زجاج النافذة أكثر من خمس طرقات سريعة وقوية ومتوالية ، حتي شعرت بأن الزجاج سيتحطم ، وهذا مما أثار غضبي ، فانطلقت نحو النافذة ولكن غيرت رأي بسرعة فيجب أن أقبض علي هذا الطفل الذي يرمي بالأحجار في هذا الصباح الباكر ، كانت بوابة الشارع قريبة ففتحتها بسرعة وخرجت لأشاهد فتاة تلوذ بالهرب ، لم اتردد انطلقت خلفها كانت المسافة بيننا  مائة متر أو أكثر ، وهي تلتفت لتنظر لي وهي تعدو وانا خلفها انتبهت فجاة لملابسها كانت ترتدي بلوزة سوداء ، واسكيرت أصفر ، ولكن من هول المنظر توقفت كانت مؤخرتها مليئة ببقع دماء قانية الحمرة ، ياترى هل هي مصابة ؟ ، توقفت والمساحة التي بيننا عشرين متر ، شعرت بالخوف والأغرب أنها ايضا توقفت ! ، وبدأ عقلي تتخاطفه  الهلاويس ووقع نظري عليها  بعد ما نظرت لي فكرت أن أعدو هارباً منها ، ولكن نفسي أبت الهرب .
كانت الفتاة في بداية العقد الثاني قمحية اللون ، فارعة الطول مهدل شعرها علي كتفيها وكأنها قضت الليل في صراع وشجار ، خائرة القوة ، جاحظة العينين ، ولكنها جريئة في نظراتها نحوي فأنسحبت بخطوات سريعة نحو الخلف ربما تكون مصابة بمس جنون ، أو قتلت شخصاً وهي هاربة ، عدت للمنزل وهي تراقبني بصورة غريبة ، حتي بدات اساءل نفسي ماذا يخبئ لي هذا الصباح ؟ حتي وجدت نفسي قريباً من باب المنزل ، وتوقفت انظر لها وهي تنظرني من بعيد ، قررت ان ادخل المنزل ، فهذه المعتوهة ربما تضمر شيئاً ، وقبل أن أفتح الباب انتبهت للفافة بيضاء موضوعة بعناية تحت نافذة الغرفة ، تحركت نحوها وأنا أحاول ان اتابع تلك المجنونة ولكنها اختفت ، أقتربت من اللفافة وشعرت بأنني سأسقط من هول المفاجأة ، انها شيء يتحرك او أن نظري مرهق من السهر ، اقتربت وانا أرتجف وشعرت بان اللفافة ترتجف ، في تلك اللحظة شعرت بصوت والدتي وهي تقف أمام البوابة تسألني ماذا هنالك يا (فتحي) قلت لها
: لا ادري يا أمي ولكن هناك فتاة مجنونة طرقت زجاج النافذة وهربت وربما سقطت منها هذه اللفافة ، ولم أكمل حديثي لوالدتي حتى سمعنا صوتاً صادر من اللفافة حينها صرخت والدتي من هول ما سمعت كان صوت طفل وقفزنا سوياً نحو اللفافة وعندما أزحنا الغطاء اطلت علينا طفلة مثل القمر في ليلة تمامه ، تسمرنا من المنظر ، وصرخت والدتي وجدنا الجميع يقف بجوارنا وهم يشاهدون الطفلة التي برز وجهها هادئة يحكي بداية حياة وصرخاتها تنطلق لتبكي ميلاد لوطن الشوارع ، انها طفلة حزينة تبحث عن من يضمها الي صدره . وقف الجميع مشدوها يرتجف من هول المصيبة ، وحاولت أن أزيح الغطاء فشعرت بيدها الطفولية تمسك بأصبعي حتي اصابتني الرعشة ، وسرت في كافة اطراف جسدي واحسست بانها تريدني ان اضمها الي صدري ، وإنتفضت مرعوباً من صرختها الملائكية ، وإبتعدت ، وانا اضع يدي علي رأسي ، وطافت بي الافكار لقد فهمت كل شئ وتذكرت صورت والدتها المفجوعة ونظراتها الغريبة ، وهي تختفي بعد ان رمت طفلتها ، وكأنها كانت تتوسلني للإهتمام بها ، وهربت تحمي كرامة عائلتها ، وتمسح العار الذي إقتنصها ، فأسقطت ثمرة الخطيئة ، ما أصعب لحظات الأمومة ! وهي تلفظ فلذاتها ، ودماءها تتقاطر وشعرها المهدل بجنون الحب والخوف عندما يمتزجا لقد ماتت وهي تخرجها من أحشاءها ، وماتت وهي تلفظها في العراء وتفاصيل وعيونها تحكي مآسي وصراع يطارد كليهما الي الأبد ، لقد ظنتها في باديء الأمر مجنونة أو قاتلة ، وكانت حقيقة قاتلة بعدما ذبحت أشواقها وأمومتها بخنجر الكرامة البتار ، وامست مجنونة بدموعٍ سوف تذرفها من نيران الوداع الأول والأخير ، لأغلي ما تملكه فضمرته بلا رحمة ، فلن ترحمها الألسن والعيون في مجتمعنا وطقوسه ، سمعت صرخات اخواتي من حولي وهن يطلبن مني الاتصال بالشرطة خوفاً على  الطفلة التي كُتب علي جبينها (لقيطة)  قبل أن ترضع  ثدي والدتها الحنون  الذي اختفت لتحكي قصة كفاح ، وضياع اميرة جاءت بلا موعد ولا ميلاد تناوشتها الحياة من أول الثواني لتنحت عليها امرأة بلا عنوان ، ليتقبلها المجتمع بشماتة ونظرات عتاب ، ويكافئها بلا ذنوب .
كانت اصابعي ترتجف وانا اضغط علي ازرار الهاتف حتي جاءني صوتاً غليظاً ، نعم الشرطة تحدثت معه بصوت تخنقه العبرة.
وانا أشاهد احد شباب الحي صاحب مؤهلات طبية يمسك بالطفلة ويربط الحبل السري الذي تركته والدتها وهي فزعة مرعوبة عندما اسقطتها ولا تعلم ان هنالك رابط إلهي يحتاج ان يقطع ، فيبدوا انها نفذت جريمتها بلا خبرة ولا معرفة ، والذي انتهك شرفها بان تنكره بعد أن أشبع غريزته .
ثلاث ساعات انتظار حتي حضرت سيارات الشرطة وقاموا باخذ الطفلة بهدوء ، وطلبوا مني ان أصطحبهم للقسم لانني من بلغت عنها  ، ارتديت ملابسي وذهبت معهم في سيارتهم وصرخات الطفلة تفطر القلوب واشعر بدموعي تتساقط بهدوء والعساكر يتضاحكون في امورهم الخاصة حتي وصلنا لقسم الشرطة ، كانت هنالك مجندات استلمن الطفلة وقمن بالتحقيق معي والمجندات ينظرن للطفلة وينظرن لي يحاولن أن يتبين  وجه الشبه ، واسمع ضحكاتهن تجلجل في الغرفة الأخري .
لم أهتم لهن فكل أناء بما فيه ينضح ، وحاول المتحري إستدراجي ليثبت ان لي صلة بالطفلة ، فنظرت له بغضب ، وقلت له :
أتمنى أن تكون طفلتي  لتشعرني بوجودي في الحياة ، ولكني لن اكون جبانا لاتبرأ منها وأظلمها وسوف أقاتل من أجلها حتى آخر أنفاس تصعد الي جوف السماء ، أن حزني الحقيقي أن هذه طفلة ستعيش كوردة نبتت في مستنقعٍ ملوث ، وعندما تكبر مهما تجملت وأزدانت وتحلت بالتهذيب والجمال ، فلن يتجرأ شخصاً أن يشتم  رائحتها او يهنأ بعبيرها بسبب ظلم المجتمع لها ، نظر المحقق لي ببلاهة ، وأغلق الدفتر ، وقال :
شكراً ، يمكنك الذهاب .
وإنسحبت وأنا أسمعه يتحدث مع المجندات ، أنه ليس والدها فهو متفلسف ولئيم ، ومررت بالمجندات وهن يحملنها (لدار المايقوما) ، وهي مثل فلق الصباح ، ومنحتها نظرة أخيرة ، فشعرت بانها تنظر لي ثم أطلقت صرخة مزقت قلبي الي اجزء وكأنها تودعني .
وخرجت من بوابة القسم ، وقدماي لا تقويان على حملي ، ودموعي تنهمر بلا عودة…

Ghalib Tayfour

 

Print Friendly, PDF & Email

عن laalaa

شاهد أيضاً

حزب المؤتمر السوداني تصريح صحفي

Share this on WhatsAppحزب المؤتمر السوداني تصريح صحفي طالعنا البيان المؤسف الصادر من سكرتارية اللجنة …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.