الإثنين , أبريل 29 2024
ardeenfr
أخبار عاجلة
الرئيسية / أخبار لالا اليومية / لو يذكر الزيتون غارسهُ… لصار الزيت دمعا!

لو يذكر الزيتون غارسهُ… لصار الزيت دمعا!

 نحو أفق جديد

 
ويا كبرياء الجرح لو متنا.. لحاربت فاطمة أحمد إبراهيم

في ذات مرة، كتب عالم الفيزياء البرت آينشتين “غريب هو وضعنا على كوكب الأرض!. كل منا يأتي في زيارة قصيرة، لا يعرف لماذا؟. ولكن، نشعر في بعض الأحيان بأن هناك غاية. هناك شيئ مؤكد نعرفه من الحياة اليومية، وهو أن الإنسان هنا من أجل الإنسان الآخر، وقبل كل شيئ لأجل هولاء الذين تتوقف سعادتنا على سعادتهم وابتسامتهم”. قرأت هذه الفقرة لأول مرة، ربما قبل ثلاثة عقود من الزمان. إستوقفتني طويلا، وتأملتها مليا، قبل أن أسجلها في إحدى دفاتري. واليوم، أدهشتني اللحظة، عندما فاجأني الحزن ليرسم في مخيلتي صورة ذهنية لعبارة آينشتين تلك ممزوجة بوجه الراحلة فاطمة أحمد إبراهيم المبتسم للحياة والأمل والإنتصار، تلك الإبتسامة الوضيئة التي يعرفها جيدا الناس في بلادنا وخارجها، نساء ورجالا.

صحيح إن الموت هو أكثر الانباء فظاعة، لأنه يعلن النهاية. وهو حق، شخصي وفردي، لا ينوب فيه شخص عن الآخر. قد يخشى الناس، أو يتجنبون، الحديث عن الموت، لكنهم، وفي لحظة ما، يتحمسون في الهروب منه بالتعبير المخالف والمغاير عنه. يقول أهل الفلسفة: “ربما كان الفرار من الموت بمثابة حالة من العقوبة التي يتمنى معها الإنسان الموت، لكننا، أي الفلاسفة، نتمسك في البحث عن الموت، وليس الحديث، عنه. وربما كان السبب في ذلك،هو الرغبة في البحث عن الحياة من ضفةٍ أخرى، وإستيعابها من جهة ثانية، والقبض عليها من بابٍ مهجور. نستدعي الحياة بكل عروقها الخضراء النابضة، نبحث عن دورها في إذكاء جذوة الإعمار لهذا العالم، والكفّ عن تشييد مفازات  الموت. إنها القشعريرة الطبيعية التي تخضّ الإنسان حينما يفكر بأن اكتمال الحياة لا يتم إلا بالموت، وبأن الموت هو نواة أصلية في مفهوم الحياة، وبعبارة صوفية البناء: لا تكتمل ذروة البقاء إلا بهاوية الفناء”…! ومع ذلك، وكما يقول الفيلسوف الهولندي سبينوزا، فإن العقل البشري لا يمكن أن يموت بصورة مطلقة مع موات الجسم، إذ يبقى منه شيئ خالد. وهكذا، ستظل أيقونة الصمود والأمل، فاطمة أحمد إبراهيم، بسيرتها وتاريخها المجيد، خالدة لا تموت، وقنديلا لا ينضب زيته، ملهمة للأجيال. وستبقى رمزا ونبراسا حيا، لمعنى الشجاعة والإستقامة والتضحية، دفاعا عن حقوق الآخر، إمرأة كان أم رجلا.

إمتشقت فاطمة حسامها في زمن صعب لإنتزاع حقوق المرأة، وإنتصرت، هي وزميلاتها من رائدات الحركة النسائية السودانية، لميلاد الإتحاد النسائي السوداني، التنظيم الذي أنجبه رحم الحركة الوطنية السودانية، والذي، كما تقول إحدى رائداته، الأستاذة نفيسة أحمد الأمين، جريدة الصحافة عدد 3 فبراير 2012: “لم يكن الإتحاد النسائي السوداني عملاً مستورداً، فقد إستمد فكره وأساليبه ووسائل عمله من أصالة الشعب السوداني الضاربة جذورها في أعماق التاريخ. فالإتحاد النسائي السوداني ولد على أيدي سودانيات بنات بلد، نجحن في تحقيق الموازنة السليمة في الصراع بين دوافع التغيير وقوة التقاليد، فلم يندفع هائجاً متهوراً، ولم يتباطأ مسترخياً متلكئاً، لذلك كسب ثقة المجتمع السوداني في زمن قياسي. الاتحاد النسائي كان الشرارة التي أوقدت الحركة النسائية المعاصرة، وكان وقودها ومنارتها وهاديها وحاديها، وكان النافذة التي أطلت منها المرأة السودانية على نساء العالم، والصوت المجلجل لها في ساحات العمل الإقليمي والدولي، وكان المدخل والأساس المتين لكل المكاسب الاجتماعية والسياسية المتلاحقة التي تحققت للمرأة، جاعلاً التعليم والعمل والديمقراطية ركائز أساسية لتمكين المرأة.”. وفي كتابها “شاهدة على مسيرة الإتحاد النسائي السوداني خلال نصف قرن من الزمان”، ديسمبر 2016، صفحة 13، تشرح الأستاذة فاطمة القدال، إحدى رائدات الحركة النسائية السودانية والقيادية في الاتحاد النسائي السوداني ورفيقة عمر الراحلة فاطمة أحمد إبراهيم، تشرح فلسفة تأسيس الاتحاد، قائلة “النساء يشكلن نصف المجتمع تقريبا، لذلك فإن تغيير هذا الكم الهائل إلى كيف فاعل ومؤثر بإمتلاك الحقوق والأدوات اللازمة، سيسهم في خلق مجتمع تسود فيه الديمقراطية والحرية والمساواة والعدالة الإجتماعية والتنمية المستدامة. وهذه مهام تتطلب الوعي بالقضية، وآليات تفعيلها من خلال حركة نسائية ذات برامج وعضويية فاعلة جماهيريا. بهذا الفهم تأسس الإتحاد النسائي السوداني”. تحملت فاطمة أحمد إبراهيم، مع زميلاتها، عبء مرحلة تأسيس الإتحاد النسائي، بكل تضاريسها الوعرة، ثم واصلت صولاتها وجولاتها، متفرغة طوال حياتها، في معارك الدفاع عن حقوق الإنسان، مع توجيه القدر الأكبر من طاقتها النضالية، صوب قضية المرأة والدفاع عن حقوقها، مؤكدة ومصممة في

الممارسة العملية على الربط الجدلي ما بين النضال من أجل قضية المرأة بخصوصياتها المعروفة، والنضالات العامة من أجل الديمقراطية والعدالة الاجتماعية والتقدم، والإجتهادات العملية للتوفيق ما بين التقدم والتدين .وهكذا، حملت فاطمة أحمد إبراهيم هموم المرأة السودانية لأكثر من ستة عقود مريرة، ولعل هذا هو ما دفع الصديق، مولانا فيصل المسلمي، ليصرخ في رسالتة لي معزيا “يا كبريا الجرح لو متنا لحاربت فاطمة أحمد إبراهيم”، وليقترح “ماذا لو تحزمن وتلزمن نسوة وحملن جثمانها الطاهر ولو إلى مسافة ما؟”.

في عدد الأمس 14 أغسطس 2017، نعتها صحيفة التايمز اللندنية، معددة مآثرها ومحطات تاريخها النضالي الطويل، وإبتدرت النعي المطول بقصة بسيطة الحدث عميقة المعنى: “كانت فاطمة أحمد إبراهيم جالسة في إحدى البصات اللندنية. وعندما سمعت رجلا إنجليزيا أبيضا قدم ملاحظة زائفة ومسيئة عن الركاب السود في حافلات لندن، هبت على قدميها واقفة، وصفقت بيديها لتجذب إنتباه الركاب، ثم ألقت على الفور توبيخا حادا للرجل، مع التركيز على شرور الإستعمار البريطاني. هذه القصة نادرا ما تفاجئ كل من التقى إبراهيم. فهي إمرأة صريحة، أبدا لا تخجل من الإفصاح عن كل ما يدور في ذهنها. كانت شجاعة، وذات إبتسامة آسرة، وأشتهرت بانتخابها للبرلمان، في عام 1965، كأول إمرأة في السودان، وأول سيدة سياسية في أفريقيا. ظهرت طبيعتها النارية لأول مرة، وهي لا تزال شابة يافعة، عندما كانت تكتب مقالات صحفية تشجب الحكم الإستعماري، مستخدمة إسما مستعارا، وعندما كانت تعبر عن آرائها على أوراق وملصقات بجدران المباني العامة….”.

ظلت فاطمة أحمد إبراهيم مدافعة شرسة عن إستقلالية الإتحاد النسائي السوداني، رافضة ربطه بأي من الأحزاب السياسية، حتى لو كان ذلك الحزب هو الحزب الشيوعي السوداني الذي لعب دورا رئيسيا في تدشين مشروع الإستنارة في البلاد، وفي الدعوة لإنتظام الشباب والنساء والطلاب في تنظيمات جماهيرية ديمقراطية، على الرغم من إنتمائها المبكر للحزب الشيوعي ورسوخ مكانتها في قيادته، وعلى الرغم من أن هذه المسألة ظلت محل صراع عنيف داخل الحزب وداخل الإتحاد النسائي. تقول فاطمة القدال في صفحة 79 من كتابها المشار إليه أعلاه “كانت بعض عضوية الإتحاد، وخاصة من الجيل الذي ترعرع في مايو، يعتقدن بأن الإتحاد النسائي فصيلا تابعا للحزب الشيوعي. لم يقتنعن بالقيم والمفاهيم التي آمنت بها الرائدات والطلائع التي سارت في طريقهن حول إستقلالية الإتحاد، لأنهن وعين مدى الضرر الذي تسببه هذه المفاهيم بمسيرة الإتحاد النسائي كتنظيم ديمقراطي مستقل. إن الإصرار على إستقلالية الإتحاد يدعم إتساعه كما وكيفا لصالح قضية المرأة والتحرر الوطني والتطور الديمقراطي في البلاد.”.

إبان العهد المايوي، كان الإتحاد النسائي السوداني، بقيادة فاطمة أحمد إبراهيم، يواصل نشاطه تحت وطأة القمع وقيود العمل السري، بينما كان نظام النميري يسخر العديد من إمكاناته وموارده لدعم إتحاد نساء السوداني الموالي لسياساته. وفي صيف عام 1976، دعا إتحاد نساء السودان لمؤتمر نسائي عالمي عقد بفندق المريديان بالخرطوم، وحضرته منظمات نسائية من مختلف القارات. ونفس الوقت كان الإتحاد النسائي السوداني يعد لموكب أمام الفندق ولتسليم مذكرة للوفود الأجنبية، وبالفعل تجمهرت عضويته أمام الفندق. لكن كان الفندق محاطا بسياج من قوى الأمن تمنع الدخول إلا لقيادات إتحاد نساء السودان المايوي. ثم ظهرت سيدة متأنقة، تلبس ثوبا مزركشا لا يغطي كل شعرها المسدل على كتفيها، وترتدي نظارة سوداء فخيمة، ألتفتت إلى المتجمهرات أمام مدخل الفندق من عضوية الإتحاد النسائي وتعابير وجهها تنم عن إحتقار شديد لهن، ثم عبرت عن ذلك الإحتقار بوصفها لهن بالأوباش، وهي تتقدم صوب باب الفندق حيث أدخلها رجال الأمن سريعا خوفا من ردة فعل المتجمهرات. وبمجرد أن وصلت السيدة المتأنقة قاعة المؤتمر، تقدمت نحو الضيوف الأجانب، وفجأة خلعت نظارتها ورمت شعرها المسدل بعيدا، والذي كان مجرد “باروكة”، لتقف أمام الضيوف كأبهى ما تكون فاطمة أحمد إبراهيم، وعلت الصيحات من جانب الضيوف اللائي إندفعن لمعانقة فاطمة وتحيتها، وهي بدورها سلمت كل واحدة منهن في يدها مذكرة الإتحاد النسائي السوداني، بينما إرتفعت هتافات عضويته خارج الفندق، وساد الهرج والمرج و”البمبان” في المكان، ومن وسط كل ذلك خرجت فاطمة أحمد إبراهيم، بكل هدوء، شامخة تمشي بثبات وقوة، لتعتقل هي وعدد من زميلاتها ويقبعن في سجون نميري.

العام 1985، والخرطوم جَذْلَى بنسائم الحرية وأجواء إنتفاضة أبريل المجيدة والإنتصار على نظام الطاغية نميري. كانت الخرطوم مزارا للعديدين من كل القارات للتهنئة بالإنتصار أو للتعرف على هذا الشعب الذي فعلها للمرة الثانية. ومن ضمن الزوار، وصلت مجموعة تابعة لإحدى فصائل حركات التحرر الوطني في المنطقة. وككل زوار أولئك الفترة، كان لا بد أن يتضمن برنامج زيارتهم الإلتقاء بفاطمة أحمد إبراهيم. ألتقتهم فاطمة، وقدمت لهم رؤاها للحدث وقراءتها للمستقبل، وشرحت لهم نظرتها حول مستقبل قضية المرأة في السودان، ثم أجابت على كل تساؤلاتهم. وقبيل نهاية اللقاء، فجر الوفد مفاجأة لم تكن متوقعة. قالوا لها، إن منظمتهم مستعدة للثأر من النميري وكل من ساهم في إراقة دماء الشهيد الشفيع أحمد الشيخ، وأن قيادة منظمتهم تؤكد إمتلاك المنظمة لكل الإمكانات لتنفيذ ذلك، وأن الشرط الوحيد لبدء التنفيذ أن تعطيهم فاطمة الضوء الأخضر!! لم تعتذر فاطمة وترفض بحسم فحسب، بل قدمت مرافعة قوية حول أنها لا يمكن أن تختصر المسألة في الثأر الشخصي، لأنها أولا ضد مسلك الثأر وترفض أخذ القانون باليد، وثانيا، ورغم أن الشهيد هو رفيق دربها، إلا أن القضية بالنسبة لها ليست شخصية، وإنما في إطار صراع سياسي يهم كل الشعب السوداني، وأن الأسلوب الوحيد الذي ترضاه لرد الحق الخاص والحق العام، هو المحاكمة وفق القانون السوداني، محاكمة عادلة علنية يشهدها الشعب السوداني. لم يرد الوفد أو يعلق أو يحاجج، بل إنحنى إجلالا، وودعها بما يشئ بأن إحترامه لها صار أضعاف ذاك الذي كان في بداية اللقاء. أذكر أن ذات الوفد زار الأستاذة نعمات مالك، وتلقى ذات الرد!!!

هكذا هن نساء بلادي، وهكذا كانت فاطمة..، وهكذا ستظل في ذاكرة الشعب السوداني، خالدة لا تموت.

د. الشفيع خضر سعيد  

 

 

Print Friendly, PDF & Email

عن laalaa

شاهد أيضاً

حزب المؤتمر السوداني تصريح صحفي

Share this on WhatsAppحزب المؤتمر السوداني تصريح صحفي طالعنا البيان المؤسف الصادر من سكرتارية اللجنة …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.