الأحد , مايو 5 2024
ardeenfr
أخبار عاجلة
الرئيسية / أخبار لالا اليومية / *تجربة الإعتقال خارج أسوار الوطن* الحلقة الثامنة والأخيرة

*تجربة الإعتقال خارج أسوار الوطن* الحلقة الثامنة والأخيرة

#الهدف
#الهدف_ارشيف_اعتقالات

محمد الأمين أبو زيد

بعد ما يقارب الخمسة وأربعين يوما قضيناها في حراسات وسجون الأمن والشرطة، ها نحن نعانق ثرى الوطن المختطف بفعل إنقلاب الإنقاذ 89، ومهما تكن ظروف الرجوع لأرض الوطن وملابسات العودة غير الطبيعية فإن لذلك طعم خاص، وهو الإحساس بأنك في بلدك، وقد هيأنا أنفسنا لكل الإحتمالات حتى تكرار تجربة الإعتقال بالداخل، لمعرفتنا التامة بطبيعة النظام ومعركتنا الخاصة معه في المواجهة المبكرة (حركة رمضان 90).
وقد رتبنا أنفسنا لذلك جيدا بدراسة كل التوقعات التي ربما تواجهنا في التحقيق من قبل جهاز الأمن السوداني.
منذ لحظة رسو الباخرة في ميناء وادي حلفا جاء إلى متن الباخرة ـ وقبل أن يبدأ طاقم الجوازات والجمارك ترتيباتهم لإجلاء الركاب ـ أحد ضباط جهاز الأمن وقام بإستدعاءنا وأمرنا بأخذ حقائبنا، وتم الإجلاءنا على وجه السرعة دون المرور على طاولات الجمارك والتفتيش، وذلك ما أكد لنا إن الأمن السوداني لديه علم بتفاصيل الإعتقال وأسبابه، وهو ما سيظهر لاحقا في التحقيق.
المهم خرجنا وعلى غير المعتاد من الباخرة وتوجهنا بسيارة الأمن مباشرة إلى مكاتب الجهاز بوادي حلفا، وبعد إنزال أغراضنا تمت إستضافتنا في صالة تطل عليها مكاتب الضباط ومدير الجهاز وكان الوقت قد شارف على منتصف النهار.. إنتظرنا قليلا من الوقت ريثما حضر أحد الضباط وبعد أن سلم علينا تم إستدعاءنا للتحقيق فردا فردا..
كان التحقيق يدور حول المعلومات الشخصية، وأسباب الإعتقال، وظروف الإعتقال، وكيف كانت المعاملة من الجهات المصرية؟ وعن الحالة الأكاديمية، والغريب في الأمر لم نسأل عن إنتماءنا السياسي، ولا عن طبيعة النشاط الذي تسبب في إعتقالنا، ربما تكون هذه المعلومات معروفة  مسبقا لهم بحكم المعرفة بحادثة الإعتقال..
كان المحقق ضابط في مقتبل العمر وتبدو عليه عدم الإحترافية، ربما لحداثة جهاز الأمن،  لا سيما في مدينة نائية كوادي، حلفا فلم يستغرق التحقيق معنا زمنا طويلا، وقد إنتهت المهمة بسلام.. وقد وعدنا الضابط بترتيب سفرنا مساء اليوم بالقطار المتوجه إلى الخرطوم وإننا سنظل متواجدين بمباني الجهاز لحين حلول زمن تحرك القطار عند الخامسة مساءا..
الظرف السياسي العام حينها لم يكن يسمح بإعتقالنا من قبل أجهزة النظام بحكم الموقف الذي إتخذه النظام من المعركة القومية مؤيدا للعراق، هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى فإن حادثة إعتقالنا وترحيلنا من مصر لأول مرة تتم بمعزل عن التنسيق بين الدولتين وجهازيهما، مثلما كان يحدث أيام النظام المايوي، والذى كانت تربطه إتفاقية أمنية مع المصريين، فكل الطلاب المرحلين سياسيا وقتها يتم إستلامهم من مطار الخرطوم إلى كوبر مباشرة، وكان أبرزهم وقتها رفيقينا فيصل التجاني وأسامة عبد الجليل.. هذا هو التفسير لتعامل أمن النظام المرن معنا حينها، بالرغم من إن المعتقلات كانت تمتلىء وقتها بالبعثيين بعد حركة رمضان العسكرية  وكافة القوى السياسية الأخرى.
حان موعد القطار وقد تم تأمين سفرنا بالتنسيق مع السكة حديد وأبلغنا الضابط بأنه عند مرور التذكرجي أو المفتش علينا إبلاغه بأننا طلبة مرحلين ولم يتعد الأمر أكثر من ذلك..
لقد زودنا رفاقنا من القاهرة بكافة إحتياجات السفر، من مأكولات معلبة جاهزة وأدوية، وغيرها من لوازم السفر الضرورية، ورغم  تجربتنا العميقة بالسفر برا فلم تكن الرحلة سهلة، ولكن أستعنا عليها بشراب أدوية (الكولدال والافيبكت) جراء الإلتهاب الذي أصاب معظمنا..
تحرك قطارنا “المكندك” (قطر السودان) كما يسميه الحلفاويين، يمخر عباب صحراء العتمور عبر محطات النمر الشهيرة التي تشفق على ساكنيها من عمال السكة الحديد الذين ترتبط حياتهم كلية بمرور القطار إلى أن تصل ألى أبو حمد، حيث تتغير طبيعة الحياة في سير رحلة القطار جغرافية وطبيعة إلى مدينة عطبرة حيث إدارة  السكة حديد ومدينة الحديد والنار وثقل العمال والورش.
الرحلة كانت بالنسبة لنا  قطعة من عذاب، بحكم ظروف الإرهاق المتراكم، ولكن للسفر بالقطار متعته الخاصة لا سيما في إطار مجموعة متجانسة في رحلة كرحلتنا العجيبة ضمن ظرفها الاستثنائي..
كانت لكل محطة من محطات السكة حديد من حلفا إلى الخرطوم طعمها ولونها المتميز وفرادتها في الإنسان وما يباع في المحطة من سلع، فنمرة 10 مشهورة (بالقراصة)، وأبو حمد بالتمر، وشندي بسدنوتشات الطعمية وسلطة الأسود والفواكه والفراد (شغل النقادا).
إستغرقت الرحلة يومين بالتمام والكمال، بددنا مللها وطولها بالونسة والحكاوي المتناثرة، وأحيانا بوصلات الغناء التي يتحفنا بها رفيقنا (إيهاب عكود)، مقلدا للفنان الهادي الجبل بصوته المميز، وقد خضع إيهاب لفواصل من التريقة من المحققين  المصريين عندما أخبرهم إن سبب حضوره للقاهرة للمشاركة في حفل غناء، ظنا منه إن ذلك سيشفع له لإطلاق سراحه، ولكن كما يقول المثل (عشم أبو الدرداق في القمرة..)
طوى القطار المسافة، وبعد أن تعب من المسير وتعب الركاب من طول المسافة، دخلنا أطراف بحري، وبدأت صافراته الطويلة تتوالى إيذانا بنهاية الرحلة، وإستشرافا لدخول الخرطوم والتي كانت وجهتنا جميعا، ووصلناها حوالي الثالثة عصرا.
أخيرا وصلنا الخرطوم، وقد بدأت لنا غريبة الشكل والمظهر، وهى ليست الخرطوم التي غادرناها أيام الديمقراطية الثالثة، ضاجة بالحيوية والنشاط السياسي والثقافي، وهى الغربة التي إمتد ليلها حتى الآن..
وصلنا محطة الخرطوم خاليي الوفاض، لا نملك فلسا سودانيا ولا غيره، وقد ذهب رفيقنا أحمد شاع الدين بعد أن تركنا بالمحطة منتظرين إلى أحد أقاربه يسكن بالقرب من المحطة، ودبر منه مبلغا من المال وزعه علينا كل بحسب ما يكفيه للوصول إلى أهله، وقد إتفقنا على اللقاء يوم غد لبعض الترتيبات المطلوبة وإفترقنا وبعينى المنى… قالها الدمع…الخ كما تغنى كابلي برائعة صديق مدثر.
وصلنا الخرطوم السليبة ومظاهر الإنقلاب بادية على وجه البلد، خدمات متردية، شح وإنعدام للسلع الأساسية، (سكر.. بترول.. خبز ..الخ)، ومظاهر حظر التجوال وكافة الأوضاع الإستثنايية التي تخضع لها البلاد.
الحزب في تلك الأيام كان يمر بظروف غاية الصعوبة والسرية فمعظم قياداته في المعتقلات والسجون…
ربما كان ذلك هو السبب فى عدم التقاء قيادة الحزب بنا لمعرفة تفاصيل ماحدث .
لقد كانت تجربة الاعتقال خارج اسوار الوطن تجربة ثرة ومفيدة حملت الكثير من الدلالات والمعانى برغم من سوء التقديرات التى قادت الى الاعتقال وعدم معقوليتها ..
لقد اشرت التجربة بشكل جلى، معاداة  النظام المصرى الاستبدادية آنذاك ومعاداته للفكر القومى وحزب البعث بوجه خاص وانكفاؤه القطرى، الذي كشفه  الظرف القومى الذى كان أكبر من قدراته كنظام مرتبط بالمصالح الامريكية فى المنطقة وحليفها المهم .
على مستوى ساحة الحركة الطلابية السودانية فى مصر تعتبر تجربة الاعتقال والترحيل هى الأكبر فى تاريخها التى تعرض لها تنظيم طلابى سودانى .
على المستوى الرسمى (السفارة ) واتحاد الطلبة السودانيين الذى كانت تحت سيطرة تنظيم السلطة (الاتجاه الاسلامى )كان تعاطيهما  مع الحدث سلبيا ولم يبديا اي اتصالات بالطرف المصرى من شأنها أن تحول دون الترحيل ..
التجربة فى مجملها تعبر عن تاريخ طويل من التجارب الثرة لحزبنا  ومناضليه فى مختلف الساحات فى مواجهة الاعتقال والظروف الإستثنائية والتي ظل يعيشها البعث في السودان فترات طيلة بحكم مقارعته للأنظمة الدكتاتورية  ومازال .

 

Print Friendly, PDF & Email

عن laalaa

شاهد أيضاً

حزب المؤتمر السوداني تصريح صحفي

Share this on WhatsAppحزب المؤتمر السوداني تصريح صحفي طالعنا البيان المؤسف الصادر من سكرتارية اللجنة …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.