الخميس , أكتوبر 31 2024
ardeenfr
أخبار عاجلة
الرئيسية / الاحزاب الاتحادية  / “أن تكون مثقفاً معناه أن تتخلى عن امتيازاتك وطمأنينتك، كي تشهد للحق. المثقف هو الضمير الحي، حين يستقيل الآخرون ولا يعود للقيم من يدافع عنها…”

“أن تكون مثقفاً معناه أن تتخلى عن امتيازاتك وطمأنينتك، كي تشهد للحق. المثقف هو الضمير الحي، حين يستقيل الآخرون ولا يعود للقيم من يدافع عنها…”

قراءة نقدية لخطاب المهدية الجديدة
الصادق المهدي في آخر تجلياته
أبكر آدم إسماعيل
القاهرة ـ يناير 2001م
حجم المسألة:
أن تكون مثقفاً معناه أن تتخلى عن امتيازاتك وطمأنينتك، كي تشهد للحقالمثقف هو الضمير الحي، حين يستقيل الآخرون ولا يعود للقيم من يدافع عنها…”
بيار أبي صعب
جوهر المسألة:
من بنى طيبة ذات الأبواب السبعة؟
في الكتب نقرأ أسماء الملوك 
فهل حملوا الأحجار على ظهورهم؟
وبابل، التي تهدمت مرات عدة،
من الذي أعاد بناءها في كل مرة؟
وفي أي بيوت من الطمي المذهب بأشعة الشمس؛
كان يعيش عمال البناء؟؟
برتولد بريخت
مقدمة:
تهدف هذه الورقة إلى تقديم قراءة نقدية لخطاب المهدية الجديدة، الذي هو خطاب الصادق المهدي، وفي آخر تجلياته، كتاب العودة، الذي صدر مؤخراً، وقامت جريدة الحياة بنشره مسلسلا في أكثر من عشر حلقات، وفي توقيت متوافق مع تحركات الصادق المهدي لدرجة قادت بعض الناس إلى إطلاق إشاعات حول تواطؤ تم بينه وبين الجريدة. ومهما يكن من أمر، فهذا جزء من طرائق عمل أجهزة الإعلام العربية في التعامل مع الشأن السوداني، الذي يعتبره البعض انحيازا تقليديا لخطاب المركزية ذات التوجهات الإسلاموعربية.
على أية حال، فكتاب العودة، هو في رأينا تلخيص لعناصر الخطاب المهدوي الجديد. وهو في الواقع شكل من أشكال الترحُّل النصي لمقولات سابقة، إذ أننا وجدنا أن أغلب المقولات الرئيسية هي إعادة إنتاج لأفكار الصادق المهدي السابقة، وكتابه “تحديات التسعينات” بالخصوص.
ولأن الكتاب لم يقم على منهج واضح في تسلسل موضوعاته، وهو أقرب إلى الجالوص منه إلى العمارة، وتكثر فيه التكرارات، وخاصة المقولات المنفستوهاتية، لذلك، فإننا سنحاول الإمساك بالأفكار الجوهرية والمقولات المفصلية (النمطية) والعناصر الأساسية، ومن ثم تفكيك كل منها وإرجاعه إلى حقله الفكري الأيديولوجي، وأساسه الموضوعي ـ الإجتماعي التاريخي؛ أي أن نقدنا يقوم على منهج وصفي تحليلي.
من ملاحظاتنا، أن الصادق المهدي قد زين خطابه بمقولات تصور الأشياء بشكل لا يتسق مع واقعها في كثير من الأحيان، وعلى أساس هذه الصور، استلف المنفستوهات الطافحة فوق الأزمة السودانية وألحقها بآليات، فصلها مثل قمصان عامر” وألبس كل عامر قميصه (وعامر هنا موديل صوري قابل للتغيير باستمرار حسب ما رغبة الصادق المهدي وما يقتضيه التكتيك). وحتى أن المهتمين والمراقبين بدأوا يتساءلون من فرط (عقلانية) “الأطروحة”: إذا كان الأمر كذلك، فما هي المشكلة إذن؟
طبعا  الصادق المهدي شخص ذكي، ولديه القدرة على (اصطناع) المنطق الشكلي في حلبة اللامنطق (السياسة السودانية). ولما للأمر من أهمية قصوى تتعلق بمصير ومستقبل شعب في لحظات فارقة، فإننا ـ كما كنا دائما ـ نسعى إلى تفحض دقيق لهذا (المنطق)، إنطلاقا من شكنا المنهجي في المقولات السياسية عامة، ولمفارقة هذا (المنطق) وتلك (العقلانية) للواقع. وبالتالي ليس أمامنا إلا إعادة النظر في الخطاب بالاحتكام إلى السيرورات التاريخية، وإرجاع المقولات إلى منطلقاتها ودوافعها؛ المصالح والرغبات التي تحركها، أهدافها وغاياتها، ومواقع قائليها في حلبة الصراع. هذا لأننا نسلم بأن أي خطاب هو في الواقع تعبير عن أيديولوجيا وأي أيديولوجيا هي بالمقام الأول تبرير مصالح (مادية أومعنوية أو الإثنين معا) في حلبة الصراع التي هي (بنية/بنيات اجتماعية محددة).
ملاحظة أخرى، أن الخطاب المعني هنا، قد شُيّد ليشمل مجالات تأثير متعددة ومتباينة، لأنه في الأساس خطاب سياسي يعتمد على الاعتقادات أكثر من اعتماده على البراهين، ويعتمد أيضا على أساليب اللعب على المجاهيل والغوامض؛ فستقوم استراتيجيتنا في هذه الورقة على تقديم مقارابات نظرية وتعريفات وتحديد لبعض المصطلحات الضرورية، وأيضا على مقاربات تاريخية نتسلح بها وعلى أساسها نتفحص مقولات الخطاب المعني بالنقد.
مقاربات نظرية وتعريفات:
الخطاب:
هو سلسلة من العبارات/المقولات/المفاهيم، الإشارات/الدوال، التي تصدر عن منتج للخطاب وتستند على/ تستثمر رأس مال رمزي للتعبير عن أيديولوجيا محددة في حلبة الصراع الاجتماعي، ليصل إلى مجال تأثير محدد في البناء الإجتماعيومن هذا التعريف، تصبح العناصر الأساسية للخطاب هي: المنتج، رأس المال الرمزي، الأيديولوجيا ومجال التأثير في البناء الاجتماعي.
رأس المال الرمزي:
هو مفهوم مرتبط بنظام الاستعدادات والتصورات عند أفراد المجتمع يؤسس للقبول بأي مقولة أو ممارسة لـ(سلطة). فالإنتماء الديني ـ في مجاله ـ مصدر لرأس المال الرمزي والإنتماء للحضارة السائدة مصدر له في مجال تنافس الحضارات، وكذلك أوضاع مثل الغنى، الشرف، المركز الاجتماعي/موقع القوةوعلى مستوى الدولة، وبحسب بيير بورديو “يعود كل شيء إلى تمركز رأس مال رمزي من السلطة المعترف بها والذي يظهر، على الرغم من كل النظريات عن الدولة كشرط، أو على الأقل، كشيء مرافق لكل الأشكال الأخرى حتى لو كانت هذه الأخيرة، على الأقل لفترة من الزمن. فرأس المال الرمزي يعني أية خاصية (لأي نوع من رأس المال الفيزيائي أو الاقتصادي أو الثقافي أو الاجتماعي) عندما تدرك من قبل الفاعلين الاجتماعيين ويعترف بها وتعطى قيمة (مثلا الشرف في المجتمعات المتوسطية..)، وبالتحديد، إنه الشكل الذي يأخذه أي نوع من رأس المال عندما يدرك من خلالفئات الإدرات التي هي نتيجة لتقسيمات أو تعارضات مسجلة في بنية توزيع هذا النوع من رأس المال (قوي/ضعيف، كبير/صغير، غني/فقير، مثقف/جاهل.. إلخ). يستنتج بأن الدولة، التي تستحوذ على وسائل لفرض وتلقين مبادئ ثابتة عن الرؤية والتقسيم المتوافقة مع بناها الخاصة هي المكان المفضل لتمركز وممارسة السلطة الرمزية“.
الأيديولوجيا:
هي كما يعرفها د. نعمان الخطيب: “مجموعة من الأفكار الأساسية التي تنبثق من العقائد والقيم المتصلة بتراث حضاري معين، لتصور بصفة شاملة ما هو كائن وما سيكون. وترسم بذلك حركة الجماعة السياسية وتحدد ملامح أهدافها” أما عند بولانتزاس فـ”… لا تتكون الأيديولوجيا من منظومة من الأفكار والتصورات فحسب، بل تنصب على سلسلة من الممارسات المادية والأعراف والعادات وأسلوب الحياة، وتختلط كالأسمنت مع بنية مجموع المماراسات الاجتماعية بما فيها روابط الملكلية الاقتصادية والتملك، وفي تقسيم العمل الاجتماعي داخل علاقات الإنتاج. كما لا تستطيع الدولة إعادة إنتاج وتوطيد السيطرة بالقمع والعنف العاري لوحدهما. وإنما تستعين بالإيديولوجيا لإضفاء الشرعية على العنف..” ويؤكد إريك فروم: “أن التحليل النفسي يستطيع أن يبرهن أن الأيديولوجيات هي نتاج بعض الرغبات، الميول والغرائز، والمصالح والحاجات، وهي بمعظمها لا واعية، ولكنها تتمظهر (عقلانيا) بشكل أيديولوجي” أي أن الأيديولوجيا هي في النهاية “الخطاب النسبي والخاص الذي يريد إيهامنا بكونه مطلقا وشاملا” بحسب ديكومب.
إذن، بهذا المعنى، لا أحد بلا أيديولوجيا، مهما ادعى تبرؤه منها، بل التبرؤ نفسه يصبح شكل من أشكال ممارسة الأيديولوجيا (!).
البناء الاجتماعي:
هذا موضوع مترامي الأطراف، ولكن بقصد الاختصار، نعرفه بأنه: شكل الوجود الاجتماعي ـ أي التراتبية الاجتماعية (Social Stratification) ونظامه؛ أي العلاقات التي تحكمه والمحتوى الثقافي داخل الأطار التاريخي، أي الطابع العام للشكل والنظام الإجتماعيين. وإذا نظرنا إلى البناءات الاجتماعية القائمة في عالمنا الراهن، يمكن أن نقسمها إلى قسمين رئيسيين في حدود ما يخدم غرض البحث هنا.
1ـ بنية المجتمع البرجوازي الرأسمالي: هو مجتمع طبقي بالمعنى المادي للطبقة. أي أن شكل الوجود الاجتماعي يقوم على تراتبية اجتماعية رأسية متمايزة. أساس الفوارق هو علاقات الإنتاج. ويتجلى ذلك في ثلاث طبقات رئيسية: الطبقة الارستقراطية، الطبقى الوسطى/البرجوازية، والطبقة العاملةوينقسم النظام الاجتماعي البرجوازي انقساما واضحاً إلى بنيتين: بنية تحتية أو القاعدة الاقتصادية، وبنية فوقية قوامها أجهزة الدولة ومؤسساتها والأيديولوجيات المرتبطة بها. وأبرز سمات هذه البنية الاجتماعية هي:
ـ هيمنة علاقات الإنتاج الرأسمالية.
ـ الوعي الطبقي هو المحرك للصراع.
2ـ بنية المجتمعات ماقبل البرجوازية/ماقبل الرأسمالية:
ويمكن تقسيمها إلى شكلين:
أ/ المجتمعات (ماقبل الرأسمالية) التقليدية:
وهي المجتمعات القرابية (قبائل، قوميات، طوائف، عصبيات) ووجودها الاجتماعي يخفي طبقيته الرأسية في أشكال أفقية من مراكز وهوامش لا تكون الهيمنة في أساس الفوارق فيها لعلاقات الإنتاج فحسب، وإنما تتداخل الأبعاد الأخرى؛ العرقية، الدينية، المذهبية.. إلخ. “ولا يعرف النظام الإجتماعي هنا التمايز الواضح بين البنيتين التحتية والفوقية، بل الغالب فيها هو تداخل عناصرهما بصورة تجعل نظام المجتمع برمته عبارة عن بنية كلية واحدة مما يخفي الصراع الطبقي، وبالتالي ضعف الوعي الطبقي. وأبرز سمات هذه البنية هي:
ـ هيمنة العلاقات الطبيعية (القرابة، العصبية، القبيلة) والعلاقات الإيديولوجية (الدينية، الطائفية، والمذهبية..).
ـ سيادة (الوعي الفئوي) (العصبية القبلية، التعصب الطائفي، التضامن الحرفي/أو الإقليمي أحياناً).
ب/ المجتمعات ماقبل الرأسمالية المشوهة: التراتبية المزدوجة:
هي الطابع العام لمجتمعات الدول التي صنعها الاستعمار، المكونة من مجتمع أو مجتمعات قرابية متعددة أُلبست شكل الدولة الحديثة، فصارت لا هي تدار بالشكل الذي يتناسب وبنيتها وإمكانيات تطورها الداخلية، ولا هي استطاعت تغيير بنيتها لتتناسب مع شكل الدولة الحديثة، فأصبحت حقلا من التناقضات الرأسية الطبقية، والأفقية الإثنية الثقافية (الكلية)، وهو ما نسميه تناقضات المركز والهوامش. أي أن التراتبية الاجتماعية ذات طابع مزدوج، فصعود الفرد يحدده البعد الرأسي المتعلق بعلاقات الإنتاج وفي نفس الوقت يحكمه وضعه الإثني الثقافي (القرابي) في الوضعية/الدولة.
الدولة:
بحسب ماكس فيبر “الدولة هي هيئة بشرية تطالب بنجاح باحتكار الاستخدام الشرعي للعنف الفيزيائي في أرض محددة… ]وهي بحسب بورديو[  شيء مجهول (X) (للتحديد) تطالب بنجاح باحتكار الاستخدام الشرعي للعنف الفيزيائي والرمزي على أرض محددة وعلى مجمل المجموعة السكانية المرتبطة بها”. ]ومن تطبيقاتها لهذا المعنى في الحقل الثقافي أنها[ “تحاول توحيد السوق الثقافية واللغوية، وجعل الثقافة المهيمنة ثقافة وطنية مشتركة وشرعية وشاملة ورفض اللغات والثقافات الأخرى كلغات وثقافات محلية… وفرض مبادئ الرؤية والتحليل أو التصنيف التي تتوافق مع مصالحها الخاصة (عن طريق المدرسة والتربية ومادة التاريخ تحديدا وتنشر أسس (الدين المدني) والمفترضات المسبقة الأساسية للصورة (الوطنية) عن الذات” وهناك تعريفات أخرى كثيرة.
اقتصاد الريع والخراج:
الريع ـ بحسب الجابري ـ هو “الدخل النقدي أو العيني الذي يحصل عليه الشخص من (ممتلكاته) أو من (الأمير) وبصفة منتظمة ويعيش منه دون الحاجة إلى القيام بعمل إنتاجي. فكل دخل خام (هبات الطبيعة، أعطيات الأمير) لا يبذل فيه صاحبه جهدا إنتاجيا ولا هو نتيجة استثمار هو “ريع” سواء كان مصدره من داخل البلد أو من خارجه… ]أما الخراج فـ[ نقصد به ليس فقط ما تعنيه هذه الكلمة في استعمال الفقهاء المسلمين بل نقصد به جميع ]ما تأخذه الدولة[ … كجباية … “الخراج” هنا ما يفرضه الغالب على المغلوب من ذعائر وأتاوات وضرائب، دائمة أو مؤقتة، سواء كان الغالب أميرا أم قبيلة أم دولة، وسواء كان يتولى أخذ ذلك بنفسه أم كان يحصل عليه بواسطة ملتزمين ووسطاء من أي نوع كانوا، سواء كان المغلوب أتباعا ورعايا للغالب أم كانو أجانب، قبائل أو شعوباً أو دول. والفرق بين مفهوم “الخراج” كما نستعمله هنا وبين مفهوم الضريبة” بالمعنى الحديث هو أن هذه تؤخذ باسم المصلحة العامة وبنوع من الرضا وتتحدد بقانون ويدفعها الجميع حاكمين ومحكومين..” وبهذا المعنى لا نستطيع أن ندعي أن ما يمارس في السودان هو (ضرائب)، أو ننفي عنه أنه الخراج بعينه.
خلفيات تاريخية:
السودان: الدولة الإعتباطية:
السودان القائم اليوم، هو امتداد للامبراطورية التي أسسها محمد علي باشا (الاستعمار التركي ـ المصري) بعد غزوه للمنطقة ابتداءاً من عام 1820م، وقد امتدت الامبراطورية “من حلفا شمالا حتى جنجا في البحيرات جنوباً، ومن ودّاي (تشاد) غرباً إلى هرر (إريتريا) شرقاً… وشملت الامبراطورية دولاً وقبائل ومناطق مختلفة كانت تمر بمراحل متباينة من التطور الاجتماعي، ولكنها ضُمت كلها في كينونة سياسية واحدة شكلت أساس الدولة السودانية الحديثة مع بعض الحذف الذي اقتضاه التطور السياسي وتوازن القوى في المنطقة. فهي كينونة سياسية فرضتها احتياجات مصر في القرن التاسع عشر، وتوازن القوى الدولي، والأهداف البعيدة للإمبريالية، ولم تكن نتيجة للتطورات المحلية لتلك المجتمعات. ثم فُرض على تلك المجتمعات إيجاد صيغة مشتركة للتعامل. وجاءت السياسة الإدارية والاقتصادية للحكم التركي ـ المصري لتعقد كثيرا من مسار تطورها”. كانت تلك المجتمعات المتباينة (ونشدد هنا على المعنى النسبي التاريخي) مجتمعات ما قبل رأسمالية قرابية، أغلبها ينتمي إلى نمط العشيرة الأبوية، وبينما وصل بعضها في تطوره التاريخي من الناحية السياسية إلى مرحلة المملكة/السلطنة (مروي القديمة، الممالك المسيحية (علوة، المقرة)، ثم بعد، الممالك ذات الطابع الإسلامي (الفونج، الفور، المسبعات)، فقد ظل بعضها في طوره القبلي، وأخرى ـ ربما ـ في طور العشيرة المتجولة (؟). أما فيما يختص بعلاقات الإنتاج، فقد كان لكل مجموعة نمط يتناسب مع مستوى تطورها التاريخي وبيئتها الطبيعية، وتكاد تكون جميعها في مرحلة الاقتصاد الإكتفائي بدرجات متفاوتة “فنجد الملكية المشاعية القبلية للمراعي في حزام السافنا، وملكية الأرض على ضفاف النيل في أواسط السودان، وقد امتزج في بعض تلك الأنظمة أنماط إقطاعية وشبه إقطاعية. كما نجد عمل الرقيق الذي يمثل الشكل الشرقي للعبودية، الذي هو جزء من العشيرة الأبوية“. هذا الأساس، هو الذي حكم التطور التاريخي للدولة السودانية: وفي الوقت الذي ما يزال فيه التباين قائماً حيث “يوجد في المليون ميل مربع التي تشكل مساحة جمهورية السودان الحالية 570 قبيلة ويستخدم قوس قزح القبلي هذا 595 لغة… وقد أعاد الباحثون تصنيف هذه القبائل في 56 أو 57 فئة إثنية على أساس الخصائص اللغوية والثقافية والخصائص الإثنوغرافية الأخرى..” فقد آلت مركزية السلطة إلى الكيان الإثني الثقافي الإسلاموعربي الذي هو شكل نموذجي لنمط العشيرة الأبوية الاستبدادية التي تعي وتمارس الإقتصاد الطفيلي (الريع العشائري على مستوى “الاقتصاد الجزئي” والخراجي على مستوى “الاقتصاد الكلي اقتصاد الدولة”) (راجع تعريف الريع والخراج)، وتقسيم العمل العبودي (علاقات الإنتاج)، والثقافة التي تعيد إنتاج نفسها على أساس المقدس. وقد نشأت وتطورت هذه المركزية ضمن نشأة وسيرورة الدولة (الحديثة)، حيث تم تشكّل البنيان الإجتماعي المشوه (المجتمع السوداني) ذو التراتبية المزدوجة: أي أن الترقي إلى قمة الهرم الاجتماعي/الاقتصادي/السياسي تحكمه قوانين جدلية المركز والهامش، أي التعارضات الرأسية (الوضع الطبقي) والأخرى الأفقية (البنيوية) = (الوضع الإثني الثقافي) داخل الدولة التي هي في نفس الوقت الهيئة البشرية التي تطالب باستمرار باحتكار الاستخدام الشرعي للعنف الفيزيائي والعنف الرمزي“.
وقد كان للدولة التركية ـ المصرية دورا تأسيسيا وعميقا في تشكيل هذه الوضعية ولكنها عجلت      في تكوين مضاداتها بسبب أسلوبها النهبي الميال للعنف مما أدى إلى قيام الثورة المهدية.
لماذا كانت الثورة (مهدية)؟
الإسلام في السودان وتضخُّم الوعي الأسطوري:
إن دخول وانتشار الإسلام في السودان قد ارتبط بظروف تاريخية معينة، فالغالبية العظمى من الناقلين للثقافة (العربية الإسلامية) للسودان، عبر تلك القرون المتتطاولة، كانو في الواقع من الأعراب، الذين يمثلون القبائل والفئات الهامشية في الجزيرة العربية والمناطق الأخرى من الامبراطورية الإسلامية. وهم بذلك لم يكونوا ذوي (علم) بالإسلام، فكان من الطبيعي أن ينقلوا معهم الطابع الأسطوري، ليضيفوه إلى مخزن الأساطير المحلية. وبمرور الزمن، تفاعل هذا المخزون، ثم دخلت (المدرسية) في الأنماط الصوفية، التي هي الأخرى ذات طابع أسطوري في الأساس، وتعقدت المسألة بكون غالبية صوفية السودان هم من الطبقات الدنيا أو الهامشية بين الصوفية في مراكز الحضارة الإسلامية، فكان من الطبيعي أن تكون النتيجة تضخم الوعي الأسطوري، ويمكن الرجوع إلى “طبقات ود ضيف الله” للوقوف على جانب من مدى هذا التضخم.
الثورة المهدية:
لأي ثورة ظروفها الموضوعية. والظروف الموضوعية لقيام الثورة المهدية معروفة لحد كبير، أما محدداتها فهي في محل (جدال). ولا شك في أنها ثورة مكتملة ولا تضاهيها في الجسارة إلا القليل من الثورات. ولكن لماذا اتخاذها الشكل الديني الاسطوري المتمثل في فكرة (المهدي المنتظر) التي لم تفلح في مراكز الحضارة الإسلامية؛ مجال إنتاجها الأصلي؟؟
يعزي د. سمير أمين ذلك إلى الوضعية الهامشية للمجتمع السوداني، على مستوى الإطار الحضاري العربي ـ الإسلامي وعلى مستوى التفاعلات الحضارية الحديثةويذهب أبو القاسم حاج حمد إلى رأي مشابه، والصادق المهدي ضمنا في قوله “كان ]السودان[ قطرا مغمورا ليس له شأن فحققت له ]المهدية[ الشهرة والتعريف“. ويمكن أن نضيف إلى ذلك أنه في المجتمعات ما قبل الرأسمالية عموما، يعظم دور الدين، (أيا كان هذا الدين) وأن المحددات والمحركات في مثل هذا النمط من البناءات الاجتماعية من الراجح أن تكون ذات طابع ديني. أما أن تكون (مهديةفهذا يفسره تضخم الوعي الأسطوري في واقعنا. وإذا رجعنا إلى مفهوم رأس المال الرمزي فهو قد يتركز في (الصوفي صانع الخوارق) لذلك وجدت فكرة (المهدي المنتظر) الطريق ممهدا، وأضفى إليها (المهدي) المصداقية بممارساتهولكن المهدية نفسها، التي صارت أساسا أيديولوجيا لمعتقديها تحولت إلى رأس مال رمزي أعاد إنتاجه (السيد) عبد الرحمن المهدي عبر آلية  الوراثة، وقام باستثماره لتحقيق أهدافه الخاصة، التي هي في الأساس مصالح مادية ومعنوية تتناقض مع (مبادئ المهدية الأم)، وقام بإعادة بناء (عشيرة أبوية استبدادية)، “مقدسة”، ليضيفها إلى رصيد البلاد. ثم أورثها بعد لحفيده الصادق المهدي عراب المهدية الجديدة التي نحن بصددها هنا.
بنية الصراع في السودان:
مع نشأة وسيرورة الدولة السودانية، وتشكل الوضعية التاريخية (جدلية المركز والهامش)، ومن خلال التناقضات الاقتصادية والسياسية والجيلية والإثنية الثقافية والتحولات التي تمت مثل توسيع أشكال الحياة المدينية وتوسع قاعدة التعليم والإنفتاح على العالم، ومن ثم تطور وعي الهوية ووعي المصلحة، تطورت بنية الصراع في السودان وانقسمت إلى مستويين:
أ/ مستوى فوقي: مستوى الصراع حول كراسي السلطة: وهو صراع داخلي في حقل الثقافة الإسلاموعربية السائدة وكياناتها الإجتماعية، وعلى أساس “ثوابتـ”ها من أجل الاستمرار في السيطرة على جهاز الدولة من قبل العشائر الارستقراطية التاريخية (البيوتات الطائفية، الزعامات الصوفية، الزعامات القبلية) ومن أجل ارتقاء سلم التراتبية من قبل “الطبقات” أو الشرائح الأدنى في الكيان الإسلاموعروبي والقوى الحديثة المتواطئة معها أيديولوجيا.
ب/ مستوى الصراع الإثنى الثقافي بأبعاده الإقليمية، أي صراع الهويات (الصراع الكبير، صراع الكليات ضد كليات، أو بنيات تصطدم ببنيات)، وبعبارة أخرى، صراع المركز والهامش، الذي تطور إلى حرب أهلية قائمة على مستويات وعي متفاوتة. ولكن الشعار العام المضاد، في جوهره، هو رفض الهيمنة الإسلاموعروبية والمطالبة بإعادة بناء الدولة السودانية على أسس مغايرةوهو ما نسميه (التحول التاريخي) أي الإنتقال من جدلية المركز والهامش إلى (جدلية التنوع داخل الوحدة).
وقد ظلت الصراعات حول المستوى الأول (أ) تغطي على جوهر الصراع في السودانولم يتم   الإنتباه إلى ذلك إلا مؤخرا وخاصة بعد ظهور الحركة الشعبية لتحرير السودان.
المهدية الجديدة؛ مشروع الصادق المهدي الأيديولوجي:
المهدية الجديدة هي تأسيس على البناء الذي أقامه الجد عبد الرحمن المهدي، الذي يسميه الصادق: الدعوة الثانية، وآخرون، المهدية الثانية. وهو بناء يتكون من:
1/ كيان الأنصار كمؤسسة دينية مرتبة بشكل هرمي يقوم على أساس قرابي باصطفاف الناس في قبائل تحت الشيوخ، واصطفاف الشيوخ تحت الوكلاء. ويتم التواصل مع قمة الهرم (الإمام والعشيرة المهدية) عبر المناديب، وهم مبعوثون دوريون إلى الوكلاء والقبائل. وقد تم ويتم استثمار (الراتب) وخاصية الوراثة كرأس مال رمزي ومحاور للتماسك العاطفي الضروري لعمل الأيديولوجيا، ومن ثم التحريك السياسي (الإشارة). والواقع أن كيان الأنصار هو كيان طائفي ـ ديني محافظ أشبه بالفيدرالية الإثنية منه إلى أي شيء آخر ويعيد إنتاج نفسه من خلال إعادة إنتاج علاقات القرابة والجهل كآليات تسمح للوعي الأسطوري بالإستمرار في إعادة إنتاج نفسه، ومن ثم التغطية على التناقضات الموضوعية في الحياة الاجتماعية بـ”الوعي المزيف”. وعلى أية حال، فقد أثبت هذا الكيان عدم قدرته على التمدد في مجالات مستنيرة نسبياً.
2/ حزب الأمة: كمؤسسة سياسية هو في الواقع كيان الأنصار مطعما ببعض المثقفين/الأفندية، ومعظمهم من الإنتهازيين الذين يقايضون الطائفة بمؤهلاتهم لتقوم بتوصيلهم إلى قمة الهرم السياسي/الإجتماعي/الاقتصادي.
3/ دائرة المهدي: كمؤسسة اقتصادية، هي مؤسسة تمثل شكل من أشكال الإقطاع السوداني. إذ تقوم علاقات الإنتاج بين (السيد) و(الأتباع) على نمط (خليط من القنانة والعبودية)، فـ(الأتباع/الأقنان/العبيد) يقومون بالعمل الإنتاجي، وتكون الملكية (وسائل الإنتاج) للسيد؛ مالك الأرض وما عليها من موارد، على أن (يعلفهم) بالحد الأدنى من المعيشة مادياً و(يرعاهم) (روحياً): يعدهم بالجنة. وهذا من جانب آخر مثال واضح لنمط الأقتصاد الريعي العشائري ذي القاعدة العبودية الذي لم يتغير في جوهره حتى الآن.
أركيولوجيا الثروة:
مات الإمام المهدي، ولم يكن (يملك) ـ تقريبا ـ إلا سيفه الذي قدمه (السيدعبد الرحمن المهدي للملك جورج ملك بريطانيا عدو المهدي الأول عربونا للولاء والإخلاص. والمعروف ـ أيضا ـ أن الإمام المهدي، كان نجارا يأكل من عمل يده عملا بالحديث الشريف: “ما أكل ابن آدم قط طعاما خيرا من عمل يده“.
وحتى عهد الخليفة، يقر (السيد) عبد الرحمن المهدي قائلاً: “لم يكن ما لدينا من مأكل وملبس يفوق شيء مما لدى عامة الأنصار…”، ولكن في أيام الحكم الإنجليزي، تبدل الحال. إذ كان “أول المستفيدين من سياسات الحكم الإنجليزي هو السيد عبد الرحمن المهدي… ]فقد[ منحته الحكومة مقاولة تجهيز أخشاب لخزان سنار الذي شُيّد لري مشروع الجزيرة. ومن خلال استثمار رأس المال الذي كسبه ]من عمل الأتباع[ من هذه العملية وضع الأساس لنشاطه الاقتصادي الواسع إنطلاقا من زراعة القطن في جزيرة أبا… وبالإضافة إلى هذه الجزيرة وأراضيها الواسعة في النيل الأبيض ـ  ]التي استولى على جزء منها من الأهالي وحولها إلى ملكيته بتواطؤ مع الحكومة الإنجليزية. المذكرات:18: 56[، كان السيد عبد الرحمن يملك مشاريع أخرى مولتها الحكومة بتكلفة بلغت 28000 جنيه… وفي الجزيرة نفسها بلغت مساحة الأراضي التي كان يديرها في 1931م حوالي 9600 فدانا. وبالإضافة للأرباح الكبيرة التي حققتها له الزراعة، علينا أن نضيف الزكاة، التي كان يجمعها من الأنصار منذ سنة 1919م سنويا وكذلك الهدايا التي كان يقدمها له أثرياء الأنصار. وهكذا أصبح السيد عبد الرحمن في عام 1935م من أبرز أغنياء السودان بكل المقاييس. وفي حالة السيد عبد الرحمن لم ينحصر الدعم في المشاريع الزراعية والمساعدات المالية فقط… ولكن الفنيين الزراعيين والمهندسين التابعين للحكومة قدموا له مساعدات كبيرة في تخطيط القنوات واستغلال الأراضي وتركيب الطلمبات. وهكذا، من خلال مثل هذه الأساليب قامت الدولة الكلونيالية بمساعدة السيد عبد الرحمن في بناء قاعدته الاقتصادية ليقود المهدية التي ورثها عن أبيه إلى طور جديدهذه (المهدية الجديدة) أكدت قدرتها على قيادة جموع الأنصار، ولكنها كانت مجردة كلية من محتوى المهدية الأصيل المعادي للكلونيالية. وفي هذا الخصوص يشير نقد الله إلى القصص الشعبية التي تقول إن السيد عبد الرحمن استطاع تنظيف أراضي الجزيرة أبا من الأشجار وزراعتها عن طريق استخدام الأنصار، الذين كان يقول لهم أن كل واحد منهم يقطع الأشجار من شبر من الأرض ويزرعه سيعوضه الله نفس المساحة في الجنة…”.
ورث الصادق المهدي هذا البناء، وهو يجلس الآن على قمته، يأكل من ريعه، ويلعب البولو ويترفه، ثم يأتي لـ(يحجِّي) الناس عن (العدالة، الديمقراطية، الشمولية، والشمولية الإثنية… إلخ). وبالإضافة لكل ذلك، من هو الصادق المهدي؛ منتج الخطاب؟ فبناءاً على تأكيدات إريك فروم، وطالما أن الأيديولوجيات ـ في جانب من جوانبها ـ عبارة عن (رغبات) وبنى (لاواعية) (نزعات)، وهذه من محدداتها: الوضع والتربية، فلنتفحص منتج الخطاب حتى لا تتأشكل علينا تداخلات النزعات والبنى اللاواعية في ما سيأتي:
منتج الخطاب:
خلفيات النزعة التنظيروية التجريدوية:
ولد  الصادق المهدي عام 1936م، في كنف العشيرة المقدسة، تحت جناح جده عبد الرحمن المهدي لحظة بلوغه قمة الوجاهة الاجتماعية/الاقتصادية ـ وهو طبعا يملك الدينية ـ وبروز طموحه في “القيادة السياسية للمثقفين” (المذكرات:18: 13) ومن ثم السعي “بالتدريج للوصول إلى سودان مستقل تكون له ولأسرته فيه السلطة السياسية الكاملة” (نفس المرجع: ص17). وكان من المفهوم أن يتم إعداد  الصادق لمهام الوراثة. و(السيد) عبد الرحمن يعرف جيدا مفاتيح المستقبل. وفي رحلة الإعداد هذه تم زرع الرغبات والحاجات الإضافية إلى رغبات وغرائز ومصالح من هم  عاديين من الناس. فإبن العشيرة (سيد) منذ ميلاده، زعيم في طور التكوين، يأمر فيطاع، يشير إلى أي شيء فيصبح ملكه (بوضع الإشارة، على وزن وضع اليد ـ ذلك القانون الذي تم بواسطته الاستيلاء على الكثير من أراضي شعب السودان)، هو لا يلعب سكّج بكّج مع (رفاقه ـ إن جاز التعبير) في المدرسة أو الحي! فهم يعملون له ألف حساب، لأنهم يعرفون وضعهم (الطبقي) من هذا (السيد) (المقدس)! وهو أيضا يشعر بذلك، وربما يدركهكان متفوقا في (حفظ الكتب والنظريات)، فسار في الطريق إلى الحد اللازم للمهمة التي (خُلق) من أجلها: أن يحكم الناس. قبل سنين الدراسة، وأثنائها، وبعدها، لم يعمل أي عمل سوى رئيس حزب، ولما بلغ الثلاثين من عمره، عمل رئيس وزراء. ولهذه أناخ أخطر رجال الدولة السودانيين (المحجوب)؛ وبانت بعض خصائصه للناس:
أ/ معرفته بالواقع (بُرجعاجية ـ بتعبير صحافة الديمقراطية الثالثة)، (فهو يعرف سكج بكج، ولكن من مشاهدة الملازمين (الخدم) لها أو من حكاية حكاها له أحدهم؛ وسياحية على شاكلة: “بعد تخرجي من الجامعة في بريطانيا أحسست بالغربة التي اتصلت أثناء سنين التعليم لدرجة آليت على نفسى ألا أغادر السودان مرة ثانية!… كان هذا عام 1958م. وصح هذا العزم لنحو عشر سنوات بقيت أثناءها داخل السودان مترحلا داخله إلى أن طفته مرتين” ثم بعد ذلك إنضافت إلى وسائل المعرفة بـ(الواقع) التقاريروية الحزبية، على شاكلة (دراسة وتوصيات الورشة زودتني بمادة استفدت منها وكتبت ورقة بعنوان: … إلخ)، وليست المعرفة السياحية والتقاريروية عيبا في حد ذاتها، ولكن العيب في اعتماد أن تكون هي المصدر الأساس ويُظن بأنها أو يتخذ منها الطريقة المثلى (أو على الأقل الكافية) للمعرفة بـ(الواقع)؛ وهو في ذلك ضحية وضعه، فلسوء حظه أن المعايشة وإحساس المساواة المتبادل هو شرط أساسي من شروط المعرفة الحقيقية بالناس. وهذه مشكلة الرؤساء الأزلية، فحتى (أبناء الترابعندما يصيرون رؤساء ينفصمون عن الواقع.. فما بال الذي ولد رئيساً!). ولكن مشكلة الصادق المهدي لا تتوقف عند هذا الحد.
ب/ تعامله مع الأفكار يتم بطريقة تجار الملجة: أولاً؛ حسب المواسم وحسب الماشي في السوق”، وهو في الغالب لا يعنى كثيرا بطريقة الإنتاج ولا بالفائدة للناس، وإنما بما سيكسبه في ملجة السياسة السودانية. في الستينات، أيام المد الإشتراكي والإبداع الرأسمالي، خرج الصادق المهدي على الناس بدعوى السندكالية(Syndicalism) وهي مذهب أنتجه البعض في الغرب الرأسماليويعرّف بأنه مذهب ثوري يسيطر العمال بموجبه على الاقتصاد والحكم عن طريق الإضراب العام، أو هي ـ السندكالية ـ نظام اقتصادي يملك فيه العمال مختلف الصناعات ويديرون شئونها، أما المعنى الثالث، ونرجح أن هذا ما كان يقصده الصادق المهدي؛ أنها نظرية في الحكم مبنية على قاعدة التمثيل النقابي، لا على قاعدة التمثيل الإقليمي/الجغرافي. الصادق المهدي يدعو إلى هذه النظرية ولكنه لم يسأل نفسه ـ والغريبة لم يسأله أحد في ذلك الوقت! ـ عن أي نقابة سيرأس حتى يصبح رئيسا للوزارة؟ لأنه حتى ذلك الوقت لم يسمع أحد أنه له عملا (أو ينويه) غير رئيس حزب أو رئيس وزراء، وحتى ذلك الحين لم يسمع الناس بنقابة إسمها “نقابة رؤساء الأحزاب” أو “نقابة رؤساء الوزراء”، أضف إلى ذلك استهلاكه الراهن لمصطلحات مثل التنمية المستدامة (Sustained Development) والديمقراطية المستدامة.. إلخ.
ج/ موقعه الأيديولوجي:
يقول د. منصور خالد: “لا يعد الصادق المهدي مجرد عضو نمطي ضمن الصفوة الشمالية، بل نموذجها الأصيل. وبما أن هذه الصفوة الشمالية ظلت مقتنعة بسموها وتفوقها الإثني، الثقافي، وبالفضيلة الكامنة فيها، فإنها بذلك لا تشعر بوخذ الضمير في سلوكها بفرض نفسها وصيا وموجها للآخرين…” وتتجلى هذه الوصائية في كثافة  استعمال الصادق المهدي لكلمة “ينبغي“. وبالرغم من اتضاح ملامح الشخصية الاسبدادية في ممارسته القائمة: الإمساك بزمام كل شيء، فهو المفكر، رئيس الحزب والإمام والناطق الرسمي لدرجة أنه يطابق شخصه بـ”الحزب” ـ وهذه حقيقة يحاول إنكارها دوما بإدعاءات التجديد والاهتمام المستمر بالهيكلات، إلا أن الإعتراف يغافله في مقولاته: ففي صفحة 134 من كتاب العودة، يقول أن “أحد المواطنين… كتب في جريدة الخرطوم… يدعو لمنهج علمي لتقويم القادة والزعماء، واقترح المقاييس الآتية ]وأورد المقاييس العشرة ثم قال[ بهذه المقاييس ينال حزب الأمة تقديرا إيجابيا” بالرغم من أن المقاييس المفترضة لا تتكلم عن الأحزاب وإنما عن الزعماء، ولكنه يطابق بين الحزب والزعيم (وهذا ما هو حاصل في حزب الأمة بالفعل في الوقت الراهن).
وكل هذا على بعضه، قد يساهم في إضاءة الجوانب المتعلقة بالسيكولوجية/النزعة التنظيروية التجريدوية التي يلاحظها الناس في خطاب الصادق المهدي.
نقد الخطاب:
أ/ القضية الفكرية:
1ـ التأصيل والتحديث:
في الفصل العاشر، تحت عنوان البطاقة الفكرية لحزب الأمة، يلخص الصادق المهدي ملفاته الفكرية، وفي مقدمتها قضية التأصيل والتحديث. وتحدث عن التأصيل وقسمه إلى “تاصيل منكفئ” و”تأصيل مستنير”، وعرفهما باختصار، ولكنه سكت عن “التحديث”! لماذا يا ترى؟ هناك احتمالات عدة:
ـ أن يكون الصادق المهدي قد نسي الموضوع.
ـ أن يكون ظن أن التحديث هو التأصيل المستنير؛ أي أنهما مترادفان (Synonyms).
ـ أن يكون اكتشف تناقضا جوهريا بين مفوهم التحديث والتأصيل (يشوشر) على خطابه التأصيلي، فسكت.
ـ أو يكون لدى الصادق المهدي قصورا معرفيا بالتحديث والحداثة.
ولقد قمنا بالبحث والإستقصاء في كتاباته السابقة علنا نعثر على إضاءة ما، وفي الفصل الثامن من كتابه “تحديات التسعينات” ـ ذي الطابع (الفكري) ـ عثرنا على بعض التفاصيل الإضافية التي يمكن إدراجها في سياق ما أسماه بالتأصيل المنكفئ والتأصيل المستنير ضمن المحاولات الشكلانية في سبيل (نسفالعلمانية. وعلى أساس النتائج التي توصل إليها خط “نهج الصحوة أو النهج التجديدي”. ويمكن أن نفهم من هذه المحاولات موقفه الضمني من “التحديث“.
ومهما يكن من أمر، فإن هناك حقيقة هي؛ أننا لا نتكلم في فراغ تاريخي، والتحديث ـModernization ـ في السياق التاريخي الراهن، سواء بالمنظور الجدلي، أو بالمنظور البنيوي، هو فعل الحداثة ـ Modernity ـ التي هي الأساس الفلسفي/النظري القائم على قواعد أهمها:
1/ مشروعية الإبتكار/ الإبداع/ الخلق، ومن ثم اتخاذ المستقبل معياراً والتوجه إليه هو  الدافع.
2/ العلمانية: بمعنى اعتماد نسبية المعايير على مستوى المعرفة والممارسة الإجتماعية، والقطيعة (بالمعنى العلمي/التاريخي/النسبي) مع البنى الفكرية الأسطورية والدينية الإطلاقية ـ أي جعلها مقيسة وليست مقياساً. ومن ثم القطيعة مع مشروعية الأسلاف وبناهم الإجتماعية، أي جعلها موضوعا للتحويل بمعايير المستقبل.
وبهذا المعنى، فإن التحديث لا يعني التأصيل (الرجوع إلى أصلالمستنير بأي حال من الأحوال، بل هو النقيض البنيوي له ولأي تأصيل آخروإذا اكتفى الصادق المهدي بـ”التجديد” كان سيكون متسقا أكثر مع أسس خطابه الفكري، فالتجديد هو باختصار “إضافة عناصر أخرى إلى نفس البنية (الأصلوبشروطها؛ وبالمعنى المبتسر جداً: تغيير شبابيك وطلاء الجالوص.. إلخ. بينما التحديث هو تفكيك بنية قديمة (الأصل) وإعادة إنتاجها في بنية جديدة مقترحة (أكثر تقدما) وبشروط البنية الجديدة. وبالمعنى المبتسر: إقامة عمارة مكان الجالوص.
غير أن الشيء المهم هنا هو أن “الحداثة” كمعطى تاريخي، هي المرجعية الفلسفية للأفكار (العزيزة) التي (يدعيها بالمجان) خطاب التأصيل المستنير، وهي؛ الديمقراطية، وحقوق الإنسان، والتعددية، ..إلخ إلخ، التي هي نتاج سيرورة الحداثة التاريخية. ولم تستمد مشروعيتها لا من البنى الفكرية للأسلاف (الأصل) ـ البنى الفكرية الأسطورية والدينية الإطلاقية، ولا من البنى الإجتماعية لهؤلاء الأسلاف (الأصل) ـ العشائر الأبوية الاستبدادية، بل هي نتاج كفاح ضد هذه البنى، وأن ما تحتله من حيز هو مقدار ما هدمته من هذه البنى وهي لا تتقدم في الفراغ، وإنما على حساب هذه البنى نفسها.
أما دعوى “التنوع البشري الخلاّق” التي أطلقتها اليونيسكو، وأخذها الصادق المهدي ليحاجج بها حول (بديهة) أهمية مراعاة الإنتماء الديني، فهي في الأساس صادرة من موقع العقلانية، وتنتمي للحقل الفكري للحداثة والعلمانية، إعمالا لمبدأ النسبية الذي يسلم بعدم نفي الآخر وإنما “تحديده” ومبدأ مساواة الخصوصيات (ومنها الدينية) كشخصيات اعتبارية أمام الدولة أو الجهاز المسيطر الذي يشمل بأحكامه الجميع و”يطالب باحتكار العنف الفيزيائي والرمزي” ويفترض فيه الحياد ـ وهذا المبدأ يتكلم عن الأديان بشكل عام وليس الإسلام أو الأديان السماوية أو ما يسميه فقهاء الدساتير السودانية “كريم المعتقدات” فحسب، وإنما تسلّم بالمساواة المبدئية بين “اللاة” و”الله، و”المهدي” و”الكجور”. ولا نحسب أن الصادق المهدي صادق في (إيمانه) بمبدأ التنوع البشري الخلاق”، فهذا مجرد تجلٍّ لطريقة تجار الملجة. وعلى أساس هذا التحليل، يصبح ما أسماه الصادق المهدي بـ”الموقف الصحيح”، وهو فعلا موقف صحيح، بالنسبة لقضية الدين والدولة، المستمد من مطالب العلمانيين وغير المسلمين في السودان، ومنفستو “اليونيسكو”، لا علاقة له به وإنما هو مجرد كلام منفستوهات” على وزن “كلام جرايد”، والعلاقة بين الصادق المهدي و”الموقف الصحيح” علاقة غير حقيقية، لأنه يستعمل هذا الأخير هنا منبتاً عن سياق بنيته الفكرية وغاياته السياسية.
2/ قضية الديمقراطية:
لا نظن أن أحداً قد استعمل كلمة الديمقراطية وأدعى (إنتسابها إليه؛ فهو الأصل طبعا!) مثلما فعل الصادق المهدي، الذي يقرر أن: “الفرق الأساسي ]بين الديمقراطية والشورى[ هو وجود أو غياب مؤسسات” (العودة:146)، على أساس أن الشورى قيمة إيمانية غير مصحوبة بمؤسسات… أما الديمقراطية فقد بلورت مؤسسات” (نفسه:146)، وهو يبدو متأكدا هكذا، وقاطعاً، حتى أنه لم (يتحرفنويقول مثلاً: (أهم الفوارق) أو (أحد الفروقات الأساسية)، فهل صحيح أن الفرق الأساسي ـ لاحظ الأساسي هذه ـ هو وجود أو غياب مؤسسات؟؟
للإجابة على هذا السؤال، لابد أولا من تعريف المؤسسة، وهي ببساطة، وحسب القاموس:
Institution is:
… long-established custom, practice, group, etc. e.g. marriage is a sacred institution
أي هي عادة، ممارسة أو جمعية راسخة. هكذا بكل بساطة. ومجلس العشيرة، أو مجلس القبيلة،  أو أهل الحل والعقد أو مجلس الشورى، كل هذه أشكال قائمة لمؤسسات الشورى، بل يذهب هاني الدرديري في رسالته العلمية التي نشرها بعنوان “نظام الشورى الإسلامي مقارنا بالديمقراطية النيابية المعاصرة” إلى ما معناه أن الدولة في الحضارة الإسلامية هي مؤسسة الشورى ـ بغض النظر عن التجاوزات التي حدثت. (الدرديري،1991، بدون عنوان ناشر). والشورى ـ عموماً ـ ليست مجرد “قيمة إيمانية” كما يقرر الصادق المهدي، بل هي في جوهرها ممارسة تاريخية ملازمة لبنية إجتماعية معينة هي “بنية العشيرة الأبوية الاسبتدادية” بغض النظر عن (الدين الذي تتبناه هذه العشيرة المحددة)، وهي بالنسبة للإسلام ممارسة مستصحبة في الأساس، مع بعض التعديلات التي اقتضاها الاستصحاب، من الجاهلية. إذن، هذا ليس أساس الاختلاف أو التناقض في رأيناولتقصي تفاصيل القضية فلنستمع إلى شهادة د. حيدر إبراهيم: “ارتبط مفهوم الديمقراطية مع فكرة الشورى في الفكر الإسلامي المعاصر ضمن محاولات التجديد والمعاصرة، ولكن هذه المحاولة تدخل في إشكالية أساسية تنعكس على كل المجهودات التأصيلية والاجتهادات، خاصة حين يسعى المفكرون والمنظرون الإسلاميون عموما إلى إستخدام أدوات ومناهج إسلامية أصولية. فالرجوع إلى القياس أو الرأي أو الاستصحاب، لا يحل التناقض، لأن مفهومي الديمقراطية والشورى ينتميان إلى بنيتين فكريتين مختلفتين، ولهما عناصر وجزئيات ومكونات مختلفة ومتباينة، وتطورت ضمن سيرورات تاريخية وظروف اجتماعية مختلفة تماما، لذلك يظل إنتزاع مفهوم من سياق بنيته الفكرية عملية معقدة، وفي بعض الأحيان تضر بالإثنين، إذ يفرغ من مضمونه الأصلي، وفي نفس الوقت يصعب دمجه أو تمثيله في البنية الأخرى. ونعتمد هنا على التعريف الأنثروبولوجي الذي يقول بأنه لابد للبنية أو الهيكل من أن يكون نظاما، أي تراص العناصر، بحيث يكون كل تغير في عنصر ما تغيرا في كل العناصر الأخرى“.
وبالرغم من ذلك، فالصادق المهدي لا يقر بوجود تناقض في الأسس النظرية بين الشورى والديمقراطية، وهو على هذا الأساس يقول “إننا ندعو للديمقراطية ونعتقد أن كل التوجيه المطلوب والتوازن المراد يمكن أن يضما في ميثاق وطني ملزم للجميع في نصوص الدستور الملزمة” وعلى أساس “التأصيل المستنير” الذي ينسفه هذا التحليل، فالديمقراطية عند الصادق المهدي “ينبغي أن تؤصل اجتماعيا وثقافيا لتلائم ظروفنا، لتصبح متجذرة في حياتنا السياسية” (العودة:148) وهو هكذا يتبنى الأجراء المقلوب، فبدلا من أن نوفق أوضاعنا  الاجتماعية والثقافية وظروفنا لتتلاءم مع الديمقراطية (أي نقوم بتحديث أنفسنا بالقيام بتحولات جذرية في المجتمع) ـ لأن المشكلة في (أوضاعناوليست في الديمقراطية، (يؤصلها) الصادق المهدي! وإذا تأصلت الديمقراطية وتلاءمت مع ظروفنا (بنية العشيرة الأبوية الاستبدادية) فإنها بالتأكيد لن يبقى من ديمقراطيتها شيء يذكر، إلا الهياكل بلا مضمون، وهو بالضبط ما يريده ويمارسه الصادق المهدي سواء في حزبه أو حينما يحكم السودان.
وبمثل هذا (المنطق) يرقد الحجر والبيضة في أمن وأمان! بعد أن تم تجريدهما من هويتهما؛ تجريد الديمقراطية من مضمونها وتحويلها إلى مجرد هياكل (تسمى مؤسسات) وإلباس (الأخت الشورى) بنطلون جينز للخروج بها إلى سوق العصروإخفاء التناقض، بالضبط كما يحدث في “حزب الأمة الجديد“!
وما ينطبق على الديمقراطية، ينطبق على أطروحة حقوق الإنسان بالكامل، ولا داعي للتكرار.
وإنطلاقا من هنا ـ الأسس الفكرية ـ يستمر الصادق المهدي في خلق الإلتباساتففي حديثه عن علاقة الدين بالدولة يرفض مبدأ فصل الدين عن الدولة/السياسة بحجة أن “الدين يدخل في الحياة، والسياسة جزء من الحياة. والمؤمن بدين لا يستطيع أن يستمر مؤمنا ويطرد دينه من حياته” وهذا شكل نموذجي للتلبيسفأولا؛ لم يقل أحد في علاقة الدين بالدولة الديمقراطية بأن يطرد المؤمن دينه من حياته وإنما ألا يفرضه على حياة الآخرين. وثانياً، إذا كان الصادق المهدي يقر بأن السياسة (جزء) من الحياة، فلماذا لا يكون الدين ضمن أجزائها الأخرى؟ ولنحلل مقولته لنعرف كيف يصنع الالتباس:
1/ السياسة = جزء من الحياة (معادلة الحقيقة)
2/فصل الدين عن السياسة = طرد الدين من الحياة. (معادلة الإلتباس)
لأنه يجعل من:
3/ فصل = طرد (معادلة التلبيس)
4/ السياسة = الحياة (معادلة التناقض)
وضمن ألعوبة الألفاظ يتم إخفاء التناقض، ويقوم هو بإخفاء الإلتباس باستعمال متلازمة “ينبغي” فـ”المبدأ الذي ينبغي إقراره في هذا الصدد، أن المؤمن مهما استهدى بدينه ينبغي ألا يحاول إخضاع الآخرين له. وأن يحترم التعددية الدينية”. هذا هو (المبدأ) العلماني، وهو صحيح ولم ينزل من السماء وإنما نشأ نتيجة سيرورات تاريخية وتجارب، وهو أساس التطبيقات في الدول العلمانية، والتجربة البشرية تقول أنه لم يتم تطبيق هذا المبدأ إلا حين تم فصل الدين عن الدولة/ السياسة. ونحن نطالب الصادق المهدي بإيراد مثال واحد طُبّق فيه هذا المبدأ في الدول غير العلمانية، والإسلامية بالذات خلال القرون الأربعة عشر التي مرت وفي التجربة المعاصرة حتى يكون كلامه (موضوعيا) وقابلا للإقناع. أما الإتكال على “ينبغي” فلا يحل المعضلة، ثم قوله أن الدولة لا تستطيع أن تعمل وكأن الدين غير موجود.. ]و[ أنه لا يمكن إلغاء الوجود الحركي للدين في المجتمع” فهو تحصيل حاصل وتقرير بديهة، بل الدولة لابد أن تعمل على تحديد الدين في حدوده أولا، ومنع المتدينين من محاولة إخضاع الآخرين لأديانهم. وهنا تتجلى الذهنية الإطلاقية: فهو يفهم مسألة الفصل القائمة على مبادئ النسبية فهما دينياً مطلقا ويعبر عن هذا الفهم باستعمال كلمات مثل (طرد، إلغاء،..إلخ) هذا عوضا عن ما بهذا الإستعمال من شبهة استغلال سياسي لتهييج المشاعر.
أما محاولته للاستدلال على “تدّين” أهم ثلاث دول علمانية، بالإشارة إلى كنكردات (عهود) الدولة الفرنسية مع الكنيسة الكاثوليكية، وظهور الصليب في العلم البريطاني، ووجود اللوبي اليهودي ووجود النص “توكلنا على الله” في الدولار، فهي من جانب تلغي إطلاقاته في (طرد، إلغاء، ..) ومن جانب آخر تؤكد أن من يتابع الشكلانية تفضي به إلى السذاجة. فالحقيقة أن الدين في هذه الدول المذكورة قد وُضِع في حدوده بفعل السيرورات التاريخية والتحولات الاجتماعية التي أدت إلى ترسيخ العلمنة وفصل الدين عن الدولة وتجاوز الأشكال الاستبدادية في أنظمة الحكم إلى غير ما رجعة، وأن الدين بعد هذا (التحديد) الطويل، سلّم وتحول إلى مواطن عادي ضمن مواطني الدولة وليس الدولة أو فوقها. وهذه قيمة لم يفهمها المنظرون الإسلاميون بعد. وأن هذه الأشكال/الأدوار الرمزية، مجال الدين الحقيقي، التي ذكرها الصادق المهدي تنتمي إلى حقيقة أخرى، هي أن (الدين)، في المجتمع البرجوازي/الرأسمالي، بالفعل، “بنية فوقية”. وأن “البنية التحتية” التي هي علاقات الإنتاج هي المهيمنة في بنية الدولة، لذلك لا يستطيع الدين أبدا أن يدّعي أنه الدولة ـ فهو يعرف قدر نفسه جيداً.
ومشكلة الفكر الإسلامي عموماً أنه لم يتم حتى الآن تشكل بنى إجتماعية قادرة على إعادة طرح (الإسلام) خارج سياق بنية العشيرة الأبوية الاستبدادية وعلاقات الإنتاج الريعية الخراجية. أي أن التنظير في هذا المجال يتكل على ينبغي”، وحتى على مستوى “ينبغي” هذه، تظل المشكلة في السودان أن مسئولية الرفض تقع على عاتق الدين (المختار) الإسلام وعلى الثقافة المختارة الإسلاموعربية، وفي الإثنية المستعلية المسيطرة الإسلاموعروبية التي يمثل الصادق المهدي نموذجها الأصيل. فهي الجهة التي تناقض شروط “ينبغي” التي يحاول الصادق المهدي أن يقنعنا بها عن طريق التقريرية الإعتباطية. ثم يأتي بعد ذلك ويطالب أن لا يحاكم الإسلام والعروبة! والسؤال هو: لماذا يحاكم الإسلام والعروبة في السودان؟ فبالإضافة لما ذكرنا سابقاً فالمحاكمة ليست فقط بسبب ممارسات الإنقاذ التي يريد الصادق المهدي أن يجعل منها كبش فداء، بل بسبب ممارسات الصادق المهدي وأسلافه أيضا. وثم أنه ليس فقط لأن الإسلام إسلام والعروبة عروبة، ولكن لأنهما ـ بكل بساطة ـ يحكمان الناس وبالقوة، وبالتالي، على الحاكم أن يتوقع المحاكمة من المحكومين. وهذه بديهة، فالناس في زامبيا أو نيكاراقوا لا يحاكمون الإسلام ولا العروبة. ولكن ـ من جانب آخر ـ فمستجدات العصر هي التي صارت تحاكم كل شيء.
3/ قضية التنمية:
التنمية المستدامة:
يقدم الصادق المهدي تحت هذا العنوان طرحا جاء متماسكا نظريا في مجمله. والسبب في رأينا يرجع إلى تخليه عن أسلوب التلبيس الديني الذي ظل يمارسه في طرح القضايا الأخرى. وذلك ـ من ناحية أخرى ـ لسبب جوهري هو أن الصادق المهدي لا يسلم بوجود نظام إقتصادي إسلامي، فـ”على صعيد الاقتصادنزل الوحي بمبادئ عامة للاقتصاد مما لا يختلف عليه الناس مثل التعمير، والتكافل، ومنع الاستغلال وغيرها، ولا يوجد نظام إقتصادي بأجهزته وضوابطه لتحقيق هذه المبادئ ]والحقيقة أنه يوجد نظام إقتصادي إسلامي هو أقتصاد الريع والخراج الذي ظل يمارس على مدى تاريخ (الحضارة الإسلامية)، ولا يزال، وإن إختلفت بعض عناصره، والصادق ينكره لأنه يجرد الإسلام من تاريخه، حين تقتضي الضرورة، أي أنه يجعل منه مجرد كائن إبستيمولوجي ويتعامل معه على هذا الأساس[، الأجهزة والضوابط، أي النظام الإقتصادي الذي يوافق مقاصد الشريعة ]إذا فُهمت بأنها المبادئ العامة التي نزل بها الوحي تصبح تقرير بديهة لا تخص الدين فحسب[ هو من وضع البشر”. وكان بالتالي، أن وضع التنظير للتنمية في موضعه الصحيح، ولم يحشرها في التأصيل المستنير باعتبارها (كائنا وضعيابالجملة والتفصيل، ولم يفصلها بالتالي عن سياق البنية الفكرية الحديثة عموماً، والتنظير الحديث “الوضعي ـ العلماني” خصوصا، باعتبارها تحولا اقتصاديا واجتماعيا وثقافيا.
ولكن إذا نظرنا إلى الجانب الآخر ـ العملي ـ تبرز تناقضات الصادق المهدي مع خطابه في الواقع. فنحن لا ننمي الفراغ، وإنما هناك واقع (أصل) قائم وبه إشكالات جمة (التخلف). والصادق المهدي يتناول بالنقد جزءا من هذه الإشكالات، وقد اكتفى بنقد أنظمة الحكم الشمولية، وإلقى باللوم على الأنظمة “الديمقراطية”، ولم يتطرق إلى البنى الإجتماعية الإقتصاديةوبالتأكيد، فالوصف والتشخيص الصحيحان للواقع يسوقان إلى المعالجات الصحيحة والتطبيقات الصحيحة للتنظيرات الصحيحة. وكما ذكرنا سلفاً فإن الدولة السودانية هي وضعية تاريخية، وصفناها بأنها بنية مركز وهامش لمجتمعات ما قبل رأسمالية يسودها نمط العشيرة الأبوية الاستبدادية واقتصاد الريع العشائري على مستوى (الاقتصاد الجزئي) والخراج على المستوى (الاقتصاد الكلي) مع استمرار القاعدة العبودية في تقسيم العمل وعلاقات الإنتاجوالسبب في إخفاق الأنظمة “شمولية كانت أم ديمقراطية” في إقامة التنمية يرجع في الأساس إلى إشكالات هذه البنية الاجتماعية/الاقتصادية التي تتناقض مع التنمية، بل وتتجه سالبا في أغلب الأحيان، خاصة بعد اكتمال سيطرة العشائر الطائفية والصوفية والقبلية ـ المحافظة بطبيعتها ـ على جهاز الدولة وتحالفها مع البيروقراطية التي يقودها أبناه هذه العشائر. وتمتلك العشائر المذكورة وسائل الإنتاج وخاصة الأكثر تطورا، وتحرسها الأجهزة النظامية والبيروقراطية التي تكافئ نفسها بالغنى من الخراج (ريع الدولة) المسمى (الضرائب) التي تؤخذ من المواطنين ولا ترجع إليهم، أو في أفضل الأحوال منقوصة نقصا فادحا، أي أن البيروقراطية والنظامية، صارت تعطل دورة الإقتصاد التي أنشأها النظام الإنجليزي بتوجهه شبه الرأسمالي الذي يأخذ من الناس الضرائب ويقدم لهم الخدمات التعليمية والصحية ويقيم البنى الأساسية (أدوات الري، الطرق، السكة الحديد، التلفون.. إلخ إلخ) وهذا يعني أن النظام الاقتصادي قد تغير وعاد إلى أصله الريعي الخراجي بعد الإستقلال بواسطة (التأصيل المستنير الذي كان يسمى السودنة)، ولم يعد هناك بالتالي تنمية ولا يحزنون! لذا لن يحدث تغيير وتنمية ـ حقيقيين ـ ما لم يتغير الوضع من خلال تغير ترابط المصالح القائم اليوم، أي تغيرات جذرية في الأسس التي تقوم عليها الدولة والبنى الثقافية/الاجتماعية/ الاقتصادية، وخاصة أنماط المؤسسات مثل “دائرة المهدي”. لأن “تحرير الإقتصاد” ـ إذا سلمنا بمبدأ الرأسمالية ـ يتطلب تحرير العبيد/الأقنان/الأتباع ليصبحوا عمالا (أحرار) في سوق العمل. وتحرير الأرض ووسائل الإنتاج من قوانين العشيرة الأبوية، وتحرير العقول من ثقافة احتقار العمل (عند السادة) واحتقار العمل اليدوي والحرفي الذي يعتبر (عمل العبيد) في الثقافة الإسلاموعربية المهيمنة في السودان وتحرير الآخرين منها وتحرير المرأة من قيود الفكر الديني خاصة، وتحرير أشياء أخرى كثيرة، وما لم يحدث ذلك، أو على الأقل يجري العمل عليه، فلن تقوم للتنمية أية قائمة.
وخلاصة القول في الجانب الفكري، أن الصادق المهدي يمارس “التشبُّح” الفكري بوضع رجل في التقليد والأخرى في الحداثة، ويمارس التلفيق بنزع المقولات من سياق البنى الفكرية التي نشأت فيها ولزقها في أخرى بآلية أقرب إلى التقريرية الاعتباطية. وكما يظهر لنا من التحليلات أعلاه أن التناقض في خطابه الفكري يعكس تناقض وضعيته الاجتماعية؛ فهو رجل تعليمه ووسائل حياته حديثة، ويعيش على ريع مؤسسة غاية في المحافظة والتقليدية. وكما أنه يكسب رزقه” (بدون عمل) فهو أيضا يكسب نظرياته (بدون عمل) ـ أي بطريقة وضع اليدفهو حتى الآن، رغم كلامه الكثير، لم يمتلك شجاعة الأستاذ محمود محمد طه لتأسيس منهج للتأصيل المستنير (كنسخ الناسخ بالمنسوخ مثلا، الذي ضحى من أجله الأستاذ بحياته) نكافئه عليه.
ب/ القضية السياسية:
1ـ الخروج (تهتدون):
لم الخروج؟ والإهتداء إلى ماذا؟؟
يقول الصادق المهدي: “كانت هجرتي نتيجة للاستقطاب الحاد النافي للآخر المفضي إلى الاستئصال المغذي للاستئصال المضاد… ]ويفصّل ذلك بأن[ سياسات النظام ـ في ذلك الوقت ـ أدانت القوى السياسية الرئيسية في الشمال وخوّنتها، وعمقت المواجهة مع قوى المقاومة في الجنوب وكفرتها، واتخذت سياسات إقليمية ودولية توسعية، فأدى ذلك كله إلى تكوين تحالف عريض ضد النظام، تحالف سوداني، إقليمي ودولي”، وإذا حللنا الجزء الأول من المقولة بتاليه تصبح المعادلة كالتالي:
1/ النظام “المشروع الحضاري” = استئصال (معادلة الفعل الخطأ)
2/ تحالف سوداني إقليمي دولي “مقررات أسمرا للقضايا المصيرية” = الاستئصال المضاد (معادلة رد الفعل الصواب)
3/ الصادق المهدي “برنامج تفلحون” = تهتدون “معادلة التواطؤ الأيديولوجي
والمعادلة الثانية إذا قرأنا تفاصيلها نجد فيها “برنامج وضعية دولة التنوع داخل الوحدة” ونجد ملامح تشكل “كتلة تاريخية” لاستئصال وضعية تاريخية متفسخة؛ “جدلية المركز والهامش” والوضعيتان المذكورتان نقائض تاريخية شرط تواجدهما التعاقب وليس التزامن، لذلك كان النظام منسجما في منطق إدانته للقوى السياسية الرئيسية في الشمال ـ كجبهات مركزية ـ وتخوينها لأنها في لحظة بدت حاسمة اختارت موقفا تكتيكيا مع نقيضها التاريخيالهامش. ولكن الصادق المهدي كان له موقف آخر قائم على التواطؤ الأيديولوجي المباشر مع النظام، فعمل على:
أ/ هداية حزب الأمة إلى “الصراط القويم”، بدفعه للكف عن المضي في برنامج التحالف لأنه سيؤدي، لو قدر له الإنتصار، إلى تغيير أساسي يضر بمصالح الصادق والقوى التكتيكية في نهاية المطاف، وبالمكاسب التاريخية للكيان الإسلاموعروبي عموما بتجريده من بعض امتيازاته غير المشروعة.
ب/ هداية النظام إلى تغيير أساليبه، وتكتيكاته بالابتعاد عن سياسة التشدد واللجوء إلى سياسة النفس الطويل، للحفاظ على الوضعية التاريخية التي يستمد منها الكيان الإسلاموعروبي امتيازاته، خاصة وأن أي تغيير جذري للنظام سيحمل معه توازنا جديدا للقوى (وضع الحركة الشعبية كمعنى رمزي لقوى الهامش، وصورة أيديولوجية في ذهن الصادق للكتلة التاريخية) يخشاه الصادق المهدي والنظام بالطبع.
وسواء كان الصادق المهدي قد خرج بتخطيطه الخاص أو بالتواطؤ مع النظام (كما تذهب بعض التحليلات والتخريجات)، فإن المسألة تبقى هي هي؛ فالدور الذي لعبه الصادق المهدي كان في مصلحة النظام ومصلحة التوجه الإسلاموعروبي في السودان ـ وهذا أمر عادي، فهو بخروجه قد حقق (أو ساهم في تحقيق) الأمور التالية:
أولا: ساهم الصادق المهدي في إقناع الأنظمة العربية بالتهديد الذي تواجهه هيمنة الكيان الإسلاموعروبي في السودان، ومن ثم تخفيف العداء للنظام، وتهيئة المناخ لاستعادة النظام لعلاقاته العربية تدريجيا. وبالتالي أنقص التحالف السوداني الإقليمي الدولي جزءا إقليميا وأضافه في نفس الوقت إلى النظام.
ثانيا: أرجع خطاب الأزمة إلى حلقة قديمة، بتصوير الصراع وكأنه صراع فوقي حول كراسي السلطة، أو آليات الوصول إليها، وصارت المناظرات تجرى بين الصادق المهدي والترابي، وهما في الواقع جبهتين في سياق أيديولوجي واحد، وبذلك أضعف الصادق الجزء السوداني من التحالف ضد النظام.
ثالثا: نقل العلاقات بين حزب الأمة والحركة الشعبية إلى العداء بعدأن كان حزب الأمة “يدعو كل المليشيات القبلية في كردفان ودارفور والأجزاء الأخرى لبلادنا أن توقف فورا عداءها ضد الجيش الشعبي لتحرير السودان، وأن توجه أسلحتها صوب العدو المشترك ]النظام[“.
ويمكننا أن نقرأ  مواقفه من الجانب الآخر من الصورة، أي مواقف الإنقاذ. وإذا رجعنا إلى خارطة الصراع التي حددنا ملامحها سابقا، فإننا نرى أن الصراع بين الإنقاذ والصادق المهدي هو في مجمله صراع المستوى الفوقي حول كراسي السلطة، وليس فيه تناقض قومي أو أيديولوجي أساسي باعتبارهما من حقل أيديولوجي واحد “المركزية الإسلاموعروبية” والخلاف بينهما في آليات التنفيذ وكيفيات الممارسة وأولويات المصالح الفئوية. وقد تغيرت المواقف فيما بينهما حسب المراحل التي مرت بها الإنقاذ.
ففي مرحلة التمكين، كان هم الإنقاذ الأساسي توطيد موقعها (التمكين) في السلطة والدولة والاقتصاد، ومن الطبيعي أن يكون موقفها عدائيا من الصادق المهدي الذي انقلبت عليه. وهذه هي المرحلة التي استقوى فيها الصادق بالحركة الشعبية.
بعد أن مكنت الإنقاذ نفسها وحزبنت الدولة وزادت التناقضات بينها والآخرين مما أفرز الضغوط، الداخلية والخارجية، ولأجل توازن ما، لجأت إلى مرحلة الاحتواء، احتواء آثار ممارساتها ومغازلة القطاعات التي تقع في هامش مجال تأثير خطابها الأيديولوجي المتشدد بتوسيع مواعينها والتأرجح بين التشدد والاعتدال.
بعد “مؤتمر أسمرا وقراراته حول القضايا المصيرية” اتجهت للاستقواء بجبهات المركزية الإسلاموعروبية المعارضة، وكان أقربها الصادق المهدي، فبات من الطبيعي أن يقوم بدور الـ(Buffer) في تقسيم العمل الأيديولوجي للمركزية الإسلاموعروبية في حلبة الصراع المحتد. وبعد أن أنجز مهمته  التي ساعدته في إنجازها ظروف بتغيرات في الوضع الإقليمي، وتراجعات التجمع بسبب الإشكالات الداخلية (التناقضات الأيديولوجية، اتخاذ بعض التنظيمات من التجمع مظلة تخفي تحتها إنشقاقاتها الداخلية وعجزها عن العمل، هذا بالإضافة لعامل الزمن بإطالة أمد الأوضاع التحالفية دون تحقيق تقدم = جمودها) انتقل الصادق إلى مرحلة أخرى، هي مرحلة العودة أو ما أسماه “تفلحون“.
2/ العودة (تفلحون):
يقرر الصادق المهدي أن النظام صار يقبل بجوهر المبادئ المطلوبة لاتفاق سلام عادل:
المواطنة أساسا للحقوق الدستودرية والتعددية الدينية والثقافية (ويفسره بـالانتقال من هيمنة دين واحد وثقافة واحدة والدولة المعبرة عن ذلك إلى التعددية الدينية والثقافية والدولة المعبرة عن الجميع على أساس المواطنة … والاستفتاء أساسا للوحدة الطوعية.
وجوهر المطلوب لتحول ديمقراطي: التعددية الفكرية والسياسية ومراجعة هيكل الدولة. وإحلال  دولة الوطن ـ كما يقول.
وكل هذا مبني على تقرير مشكوك في صحته أن واقعا جديدا خلقه نضالـ”نا” (ويمكن تأويل الضمير هنا إلى عدة معاني) وأن النظام، الذي نراه كل يوم، تعامل معه والتطورات الداخلية والإقلمية والدولية في الفترة 1995ـ1998م، وبالتالي، صار يقبل المبادئ. وهذا الواقع يمكن قراءته من منظور آخر مرتبط بتحليلنا لتطورات الإنقاذ وتطورات مواقف الصادق المهدي:
ـ فخروج الصادق المهدي والدور الذي لعبه في المجال العربي، والتحول في الموقف المصري من النظام، وبروز تناقضات التجمع، والحروب الإقليمية بين الجيران وجمود الموقف الدولي عموما تجاه القضية السودانية مؤخرا، والإنشقاق الذي حدث في الإنقاذ وإنقسامها إلى تيارين والإجراءات التي اتخذت ضد الترابي، وهو انقسام أساسه في الواقع الوسائل والمصالح وليس المبادئ، وكان من نتائجه تنفيس الغضب لاعتقاد الكثيرين من الناس أن الترابي هو المسبب الأكبر للمشاكل، والتغطية بالتالي على جوهر الصراع.
وبالتالي، كان كل ذلك تحسين في وضع النظام، وفي مصلحة الكيان الإسلاموعروبي، واستراتيجية المدى الطويل. لذا، يمكن رد قبوله ـ أي النظام ـ للتفسير الإسلاموعروبي لـ”السلام العادل” و”التحول الديمقراطي” الذي يتفق مع تفسير الصادق المهدي الذي يرمي إلى تفادي أي تغيرات حقيقية للوضعية القائمة للدولة السودانية، وذلك لأنه في هذا الوقت بالذات فإن ميزان القوى يميل لمصلحته والصادق المهدي يريد أن يسرع لاستغلال هذه الفرصة “التاريخية” أي أن موقف الصادق المهدي والنظام موقف تكتيكي من قضية السلام العادلولكن المدهش حقيقة أن الصادق المهدي لا يكتفي بنسب هذه المبادئ لنفسه ويقسمها لجيرانه بل ويؤكد أن أن هناك رؤية مغايرة وينسبها للحركة الشعبيةوالناس يعرفون أن هذه المبادئ التي ذكرها وسماها جوهر المطلوب، هي مطالب قديمة ظلت تقدمها جبهات الهامش وبعض القوى اليسارية والليبرالية وظلت تقاتل من أجلها جبهات في مقدمتها الحركة الشعبية، وهي بالذات التي ساهمت بالقدر الأكبر في عملية فرض هذه “المبادئ/المطالب” على طاولة النقاش والمنفستوهات رغما عن “نهج الصحوة”. ولكن الصادق المهدي يقوم بالإستيلاء عليها هكذا بطريقة وضع اليد، ولا يكتفي بإدعاء مكليتها فحسب وإنما يوزعها على النظام بل وينفيها عن صناعها وملاكها الحقيقيين وينسب إليهم ضدها!! وهكذا، بمثل هذه الفبركة، تصبح الصورة معكوسة: فأصحاب المطالب الذين يقاتلون من أجلها يصبحون بـ”منطق” الصادق المهدي ضدها. والجهات المعنية بالمطالبة تصبح هي صاحبة المطالب/المبادئ!! هذه مفارقة غريبة وكأن المسألة كلها مسرح مخرجه الصادق المهدي، وكأن الجمهور ليس هو الجمهور. وقد يحسب البعض أن وراء ذلك المكر الشديد ـ وهذا أمر وارد في عالم السياسة ـ ولكننا نرجح أن ذلك يعود إلى شخصية “الطفل المدلل” الكامن تحت إهاب الصادق المهدي ـ الذي يحسب أن مجرد رغبته في الشيء تجعل منه ملكا له! يا صادق يا مهدي، أن هذه المطالبالمبادئ لم تتحقق لأن هناك جهة تاريخية قائمة تمارس الأحادية الدينية والثقافية والشمولية..إلخ وليس هناك سببا واحدا يدعو الآخرين لرفضها ـ لأنها مطالبهم ـ إلا إذا كنت تعتقد أن هؤلاء يعانون تخلف (وراثي)، ولكنك أول المطالبين ـ بفتح اللام ـ بهذه المطالب.
وأيضا “إذا ساء فعل المرء ساءت ظنونه”: فالجهة المتعودة على العيش فوق رؤوس الناس واستغلال عرق جباههم، الجهة المتعودة على ممارسة الهيمنة والتهميش والإقصاء والأحادية والشمولية (بمعناها الجوهري) لا تستطيع تصور “المساواة”؛ فقاعدة فهمها هي “أما أن تهيمن أو يهيمن عليك = ومن لا يظلم الناس يظلم (التي تدرّس في المدارس الثانوية)!”، وهكذا الصادق المهدي مسكون بهاجس “الهيمنة المضادة”، الذي إنطلاقا منه يفصل قميص الشمولية الإثنية ويزركشه بالألفاظ المتشددة ليصبح “الإنقلاب الإثني” ـ وهذا مجرد تحول لفظي لموقف مسبق يصف كل محاولة لمقاومة الهيمنة الإسلاموعروبية بـ”العنصرية” التي لم تعد مناسبة بعد انضمام أبناء الشمال الإسلاموعربي إلى حركات الهامش ـ ثم يتبنى موقفا من شيء لا وجود له في الواقع كبقية المخلوقات الابستمولوجية (الغول، البعاتي، الشكلوتة، الإنقلاب الإثني.. إلخ) بينما الحقيقة الواقعة أن هناك شمولية إثنية وحيدة قائمة في السودان هي الشمولية الإثنية الإسلاموعروبية التي يجلس الصادق المهدي على قمتها، ويعترف بها بشكل استهبالي “نعم كان لثقافة المركز في السودان هيمنة”: يموه هيمنة الحاضر بـ”كان” ويموه عن كيانها الإثني الذي يمارس الشمولية الإثنية بـ”ثقافة المركز” ويسكت عن الطرف المهيمن عليه الذي هو في الواقع 55 مجموعة إثنية ثقافية. ولنفترض على سبيل الجدل، أن السلطة آلت إلى المجموعات، فبأي منطق يسمى ذلك شمولية أو إنقلاب إثنى؟! وما هو المعيار الذي على أساسه توضع المجموعة الإثنية الإسلاموعربية في مقابل 55 مجموعة إثنية أخرى؟ المعيار طبعا هو مبدأ اللامساواة النابع من الاستعلاء التاريخي والهيمنة القائمة في الواقع. ولكن حتى لو افترضنا أن الصادق المهدي يريد أن يقول أن هذا الإنقلاب سيقوم به الدينكا بقيادة جون قرنق، فهذا مجرد تصور يشف عن شيئين:
الأول: احتقار الصادق المهدي للوعي السياسي للدينكا ولجون قرن باعتبارهما جهات قاصرة عن فهم التاريخ. وبالتالي ستكرر أخطاء الاسلاموعروبية في السودان، أو قاصر عن الفهم في كل شيء فتقلدها.
والثاني: المكر الأيديولوجي: وهو سلوك في أغلبه لاواعي، يهدف إلى مبدأ فرق تسد، من خلال تخويف الجماعات الإثنية الأخرى من “عدو” نظري ومصطنع، والتمويه عن الـ”عدو” القائم بالفعل، وبالتالي سد الطريق أمام/ أو تأجيل قيام كتلة تاريخية قادرة على خلق التوازن الضروري ـ في القوة والوعي ـ لتحقيق مشروع التحول التاريخي في السودان.
تحليل معادلات الصراع:
أ/ المعادلة التي يصنعها الصادق المهدي للصراع على أساس الموقف من مبادئ/مطالب السلام العادل والتحول الديمقراطي لأسباب مؤقتة، سواء كانت حقيقية أو متوهمة:
الصادق المهدي   =  المبادئ/المطالب (استنتاج نظري)
النظام             =  يقبل (مجبر)
التجمع           =   يماحك (ليس هناك تبرير واضح)
الحركة الشعبية   = تغاير (وليس ترفض فحسب، بل تخطط للإنقلاب الإثني)
يصبح قطبي التناقض هما الصادق المهدي والحركة الشعبية، وهذه نتيجة صحيحة في مضمونها، خاطئة في شكلها وتبريرها. ولكن إذا قرأناها بتفسير مبادئ السلام العادل والتحول الديمقراطي تفسيرا جوهرياً بمعنى ضرورة التحول التاريخي من وضعية جدلية المركز والهامش المأزومة إلى جدلية التعدد داخل الوحدة، مع الوضع في الاعتبار قانون الصراع الذي يقول “أن أي تغير جوهري/ أساسي لا يقوم إلا رغما عن أشياء قديمة قائمة”، تصبح المعادلة كالتالي:
الحركة الشعبية   =   التحول التاريخي (صاحب المطالب والمصلحة الأكبر)
التجمع           = يقبل (صاحب مصلحة)
النظام            = يرفض (متضرر)
الصادق المهدي  = يغاير (المتضرر الأكبر)
وفي هذه المعادلة يبدو النظام في موقع أقرب نسبيا للتحول من الصادق المهدي، وذلك لأنه:
أولا: من الناحية النظرية، النظام أقرب نسبيا إلى الحداثة منه إلى التقليد باعتبار وسائل كسبه ومجال كسبه ذي الطابع المديني في المقام الأول، وهذا يعني قدرته على المنافسة والاستمرار في مجال التحول.
ثانياً: ارتباط مصالحه بتوجهات أقرب نسبيا إلى الرأسمالية منها إلى الريع الخراجي (بسبب الطابع المديني العام).
ثالثاً: بعد إنجاز (التمكين) تحولت الدولة إلى عبء أكبر من كونها مصدرا للكسب بعد التدهور الشامل، وهذا ـ في رأينا ـ ما جعل الترابي يبتعد ويستعد لدور جديد ومواجهة احتمالات أخرى.
إذن لماذا يرفض النظام التحول التاريخي؟
أولا: لطبيعته الأيديولوجية وموقعه المسيطر نسبيا 
ثانيا: للتغيرات التي ذكرناها سابقا التي صبت في مصلحته، ولم يعد مضطرا بالدرجة الكافية لتقديم تنازلات جذرية.
ثالثا: لم تتشكل القوى البديلة بعد، بعد أن ضعف التجمع.
رابعا: هامش المناورة: فموقف النظام المبدئي من قضية الحرب والسلام مختلف جذريا، وأساسه الإيمان بالإنفصال بين الشمال والجنوب، وإنفراد التحالف الإسلامي العريض المكون من الحركات الإسلامية بجبهاتها العديدة مع قيادات حزب الأمة والإتحادي الديمقراطي بالسيطرة على دولة الشمال الإسلاموعربيةوالنظام يعلم أنه ـ في هذه الحالة ـ لن تكون هناك معارضة جدية في المدى القريب، ثم أن الموقف الدولي سيتغير كلية تجاه الدولة الإسلاموعربية التي ستقوم في الشمال وسيتعامل معها ضمن سياق الدول العربية ـ الإسلامية.
ويتضح من ذلك أن قبول النظام الذي يتحدث عنه الصادق المهدي هو في الواقع قبول شكلي تكتيكي مثلما قبل من قبل مبادئ الإيقاد وظل التفاوض المباشر ـ الذي يعطيه الصادق المهدي أهمية قصوى ـ مستمرا، ولكنه لم يُحدث أي تقدموإذا قرأنا هذا مع واقع توصل الحركة الشعبية إلى إتفاق مع التجمع (بما فيه حزب الأمة في مرحلة تهتدون) على قرارات مؤتمر أسمرا للقضايا المصيرية، فإن ذلك دليل على أن النظام والصادق المهدي هم الذين يرفضون مبادئ “السلام العادل” بالمعنى الجوهري، أي التحول التاريخي للدولة السودانية. ومن الأساليب التي يتبعها الصادق المهدي إيراد أسانيد سماعية مثل “قال لي الرئيس اليوغندي موسفيني أن قرنق يريد كذا وكذا” في مسائل ليس فيها سرية أو تحتاج إلى شهادات من موسيفيني مثل أن قرنق يريد “تغيير هوية السودان أو أفرقته” ولكن ذلك رغبة منه للإيحاء بوجود مؤامرة في موضوع ليس سريا لأن مسألة تغيير هوية السودان أصبحت مسلمة في كل المنفستوهات بما فيها المنفستوهات التجريدية للصادق المهدي نفسه، أما مسألة أفرقته، فهذه أطروحة مثلها مثل احتمالات عروبته أو أسلمته، ومذكور حتى من الصادق على سبيل الاحتمالات، أليست (أو) تعني الاحتمال؟ ولكن المغزى الضمني هو (إقصاءالاحتمالات الأخرى لهوية (السودان) في ذهن الصادق عبر صيغ الاستنكار هكذا.
وبعد أن يقوم الصادق المهدي بإلباس نقيضه ـ الحركة الشعبية، قميص “الشمولية الإثنية”، يعود لصيغة “كلمة الحق التي يراد بها الباطل”، يقول “المجموعات الوطنية السودانية مهما كانت ثقافاتها وانتماؤها الإثني تستطيع أن تتطلع لأية مراكز تريدها ما دامت تحترم حق المواطنة للآخرين بالوسائل الديمقراطية، ولكن المرفوض أن تتطلع إلى السلطة بالقوة تحت أي شعار أيديولوجي” (العودة:5) هذا الكلام صحيح في الإطار النظري، ولكن الواقع أن التطلع إلى السلطة لا يتم في الفراغ، والمنطق هو أنه إذا توفرت الوسائل الديمقراطية والفرص العادلة فلا نعتقد أن هناك مجموعة وطنية تتطلع إلى السلطة بالقوة إلا إذا كان لديها (أوهام استعلائية)، وهذا ينطبق على مجموعة واحدة فقط في السودان هي المجموعة الإسلاموعروبية. ثم أنه إذا كانت هناك جهة تحتكر السلطة وتمارسها شموليا، ولا تزال لا تؤمن إلا بالقوة فما هي الوسائل البديلة للقوة لمقاومتها؟ ثم ما السبب الذي يجعل الصادق المهدي يمنح حق “الاستفتاء أساسا للوحدة الطوعية” للجنوب فقط دون أبيي والأنقسنا وجبال النوبة طالما المشاكل هي من نفس النوع؟
تقول الفقرتان (ط) و(ي) من نداء الوطن:
ط/ إكمال تلك الإجراءات في فترة إنتقالية قدرها أربعة أعوام، في نهايتها يستفتى جنوب البلاد بحدوده عام 1956م ليختار بين وحدة طوعية بسلطات لامركزية يتفق عليها أو الإنفصال.
ي/ معالجة قضيتي جبال النوبة والأنقسنا بما يحقق مطالبهم في القسمة العادلة للسلطة والثروة ]والقسمة العادلة للسلطة والثروة عبارة عن تكرار لفقرة عامة هي الفقرة (ز)[، في إطار السودان الموحد.
وهذا يؤكد إزدواجية معايير الصادق حول ما يدعيه حول السلام العادل.
الإخفاء والإظهار
في كيفية تفصيل الرؤى والاستراتيجيات والأجندات:
بعد أن فصّل الصادق المهدي الرؤى إلى اثنتين في البداية لتناسب نظام الكفتين وأقطاب التناقض: إلى رؤية المبادئ والرؤية المغايرة للحركة الشعبية، عاد ليقسم “الساحة السودانية الآن إلى ثلاث رؤى اساسية تتصارع:
ـ الثقافة المركزية ودولتها الشمولية، وهي رؤية ما زال يوجد من يتمسك بها وإن عدل من أساليبه ]فإذا تعاملنا هنا مع كلمة شمولية بمعناها الجوهري، فإن هذا بالضبط هو موقع الصادق المهدي[.
ـ رؤية المواطنة المتساوية وتعايش الأديان والثقافات والوحدة الطوعية والتحول الديمقراطي. ]وهذا يتناقض جوهريا ـ كما بينا سابقا ـ مع الأساس الفكري والأساس الموضوعي للصادق المهدي الذي يستمد منه مصالحه ووضعيته، ولكنه (يتسلبط) لاحقا في هذه الرؤية عن طريق منهج التقريرية الاعتباطية الذي ينتهجه كثيرا[
ـ رؤية الإنقلاب الإثني ودولته الشمولية الجديدة. ]افتراضية[”
وبعد هذه الترسيمة، يقفز إلى ما يسميه صراع الأجندات:
في الفصل السادس من كتابه ـ العودة ـ يوزع احتمالات التحالف والمواجهة بين القوى السياسية السودانية على اربعة أقسام (أجندات)؛ وطنية، حربية، شمولية، وتدويلية، وينسب لنفسه ـ بالطبع ـ الأجندة الوطنية، ويكرر في مقدمة أمورها الأربعة” و”نقاطها السبع” التي هي تفاصيل الأمور الأربعة: للسلام العادل والتحول الديمقراطي. ويقرر بأن التسليم بهذه المبادئ (النقاط) يعني فتح صفحة جديدة تسمح بتحقيق تطلعات الشعب المشروعة، ويقرر أيضا أن الحريات الأساسية وتمكين القوى السياسية من تنظيم صفوفها لتمارس دورها المشروع والتسليم بالاحتكام للشعب لحسم الخلافات السياسية وبالتداول السلمي الانتخابي للسلطة يعني إلغاء أي مبرر لحمل السلاح ]ويبقى بالتالي[ اتخاذ التفاوض المباشر وسيلة لتحقيق تطلعات الشعب..”
إذن هذه هي النتيجة التي أراد التوصل إليها بعد كل تلك التفصيلات.
ولكن من المقصود بهذا الكلام؟ المقصود طبعا الجهات التي تحمل السلاحالحركة الشعبية، التحالف، والتجمع (افتراضا)، ويستضمن هذا الكلام، إذا قرئ مع تقرير سابق بأن النظام صار يقبل جوهر المبادئ المطلوبة للسلام العادل والتحول الديمقراطي، يبقى في كفة السلام الصادق والنظام. ومن واجب الجهات الأخرى أن تأتي إلى المفاوضات المباشرة (المفترضة). وهكذا فبالإضافة لتجلي النزعة التصوراتية التجريدة التي تجعل من الأمر وكأنه اختلاف بين جهات تتصارع على إناء فارغ وحول من سيملأه أو كيف يملأ هذا الإناء الذي هو الدولة! وتصبح المطالبة بإلقاء السلاح لمجرد الإقرار بإعلان مبادئ (أي النظرية الهبنقية) مثله مثل بقية الإعلانات، والتي استمر التفاوض على أساس آخرها لعدة سنوات دون الوصول إلى شيء. هكذا يظهر تحيز الصادق المهدي الإيديولوجي للنظام، فالنظام غير مطالب بإلقاء السلاح بالرغم من أنه يسيطر على الدولة ويعيد صياغة كل شيء بالقوة وهو في نفس الوقت “يتفاوض”!: والصادق المهدي يعرف (ولو نظرياً) أن “توازن القوى” أمر ضروري لأي “إتفاق عادل“. وبالنسبة للسلام العادل والتحول الديمقراطي هو أمر أكثر ضرورة من كل النظريات. فلماذا يصر الصادق على تجريد أحد أطراف الصراع من مصدر قوته الوحيد المعترف به؟ إذن السلام العادل عند الصادق المهدي ليس هو “السلام العادل”، ثم أن ما ذكره هو مجرد نقاط مُختلف حول تفسيراتها اختلافا كبيرا، ويمكن لأي أحد أن يتبناها نظريا ويبقى بالتالي الضمان الوحيد لتحقيقها في الواقع هو توازن القوى. ومن ضمن وسائل هذا التوازن حمل السلاح الذي يسميه الصادق المهدي الأجندة الحربية، كأنما الحرب حفلة لأكل البوظة!! يجعلها الناس أجندة بمزاجهم!! والغريبة أنه ينسب هذه الأجندة للحركة الشعبية دون الجهات الأخرى التي تحمل السلاح، ومن ضمنها الأجندة الحربية التي تحكم السودان لزمان طويل والتي تطورت إلى “أجندة جهادية” تجد دعما من بعض الجهات العربية والإسلامية!
عندما يأتي دور النظام، يفبرك المسألة بطريقة ماكرة، يقسم فيها النظام إلى لوبيات، ينسب إلى بعضها الأجندة الشمولية، والبقية طبعا الأجندة الوطنية، و”الدبابين” ليسوا أجندة حربية ولا يحزنون! وهو بهذا يبرر “تفلحون”، ويبرر شمولية النظام في نفس الوقت. أما في الحركة الشعبية فلا توجد لوبيات يمكن أن يوجد من بينها من يتبنى الأجندة الوطنية، فهي حربية جملة وتفصيلا، وهنا يتجلى أحد مضامين خطاب المركزية؛ “الإقصاء الرمزي”، فهم، أينما كانوا لا يخلون من الوطنية، أما الآخرون فليس فيهم احتمال لوبٍ واحد وطني: “فكلهم في الهم بلوة“!
الاستراتيجيات:
وبنفس الطريقة التي يتبعها في تفصيل الرؤى والأجندات، على المقاسات التي يريد أن يلبسها لنفسه وللآخرين، يقرر أن هناك استراتيجيات تحكم آليات التفاوض، وحددها في استراتيجيتين:
أ/ استراتيجية تهدف لأفرقة الشأن السوداني، وتحجيم دور الشمال داخليا، وإبعاد الشمال الأفريقي إقليميا؛
ب/ استراتيجية تعترف بالواقع السوداني العربي الافريقي وتطلع إلى تجاوز مظام الماضي…إلخ
ولكنه يسكت عن أهم استراتيجية:
أـ1/ الاستراتيجية الأزلية: استراتيجية الأسلمة والاستعراب “السودان جسر العروبة والإسلام إلى أفريقية” وهي الاستراتيجية التي يتبناها الصادق المهدي والنظام، وتتبناهم جهاتها، وإن كان يرجع الفضل لأحد في ابتداع آلية تتناسب مع هذه الاستراتيجية، فإنه يرجع إلى الصادق المهدي بمساهمته في تخليق” “المبادرة الليبية ـ المصرية”، أو ما يسمى بـ”المبادرة المشتركة، التي يضعها الصادق المهدي كآلية أساس، لما أسماه بالحل السلمي الشامل، ويكثر من مقارنتها بالإيقاد، المعترف بقصورها الذي يتمثل في:
1/ حصر أطراف المفاوضات في النظام والحركة الشعبية.
2/ حصر القضية محل النزاع في منظور شمال ـ جنوب.
ولكن الصادق المهدي لا يتكلم عن مزايا الإيقاد، وهي:
1/ ركزت الإيقاد على القضايا الجوهرية محل النزاع. وطرحت القضية بوضوح بالنص على علمانية الدولة أو تقرير المصير. وبهذا أغلقت باب المناورات بالمنفستوهات والتخريجات التي تنتهج أسلوب المداورة في قضية الدين والدولة مثلما يفعل الصادق المهدي بتمويه القضية في جملة “المواطنة أساسا” التي تحتمل التأويلات الواسعة.
2/ ترتيبها للأولويات منطقي، إذ أنها لا تفترض وقف إطلاق النار الشامل قبل التوصل إلى اتفاق سلام شامل.
أما المبادرة المشتركة، فمن إيجابياتها:
جمع أطراف النزاع السوداني، (وهذه قد لا تعدو عن كونها نقطة شكلية)
أما سلبياتها فهي:
أ/ تضع وقف إطلاق النار الشامل في أول بند من بنودها. (وهذا يتطلب إجراءات مثل: تهيئة المناخ، وبناء الثقة، وتحديد مدى زمني للوصول إلى اتفاق أو إعلان فشل المفاوضات المباشرة، وهذه أمور بالغة التعقيد، ويمكن للنظام أن يتلاعب عليها بسهولة كما حدث بالفعل).
ب/ تسكت عن تقرير المصير، (يعني تراجع القضية وتجاوز لمسلمة أصبحت أمرا واقعا لدى كافة أطراف الصراع في السودان).
والصادق المهدي بعد أن (دبّس) التجمع في “المبادرة المشتركة”، عاد للمنطق الشكلي باللعب على المجاهيل المطعمة بالسخرية قائلا: “والغريب أن الحركة الشعبية وهي تقود إصرار الفصائل على منع برنامج المبادرة المشتركة ما لم ينفذ النظام السوداني إجراءات بناء الثقة، وما لم يتم التنسيق مع مبادرة الإيقاد ]وهي تفاوض النظام منفردة في نفس الوقت[“. وطبعا، بالمقارنة بين المبادرتين نكتشف زيف هذا المنطق، فالصادق يلعب على إمكانية جهل القارئ بمحتويات المبادرتين، فالسبب الواضح في المطالبة بإجراءات بناء الثقة أو ما يسمى بتهيئة المناخ ـ سواء جاء من التجمع أو من قبل الحركة الشعبية هو وضع بند الوقف الفوري لإطلاق النار ووضع آلية مراقبة في البند الأول في المبادرة المشتركة، بينما الإيقاد ليست في حوجة إلى كل ذلك لأن وقف إطلاق النار يأتي بعد إمكانية التوصل إلى اتفاق سلام في ظل “توازن ما للقوى”. أما مسألة تفاوض الحركة منفردة فهذا يرجع في الأساس لرفض النظام لإضافة أطراف أخرى، لأن استراتيجيته تقوم على حصر القضية في منظور وسياق (شمال ـ جنوب)، ويسميها “مشكلة الجنوب” وهذا مرتبط بما ذكرناه سابقا حول موقف النظام المبدئي القائم على رؤية الإنفصال. أما مسألة رفض الحركة (في السر) لتوسيع الإيقاد، فهذا تخريج سيء من الصادق المهدي لخطابه (فيا ترى كيف عرف الصادق المهدي بهذا السر الكبير؟)، ثم أنه ليس للحركة أية مصلحة في ذلك، فالتجمع هو حليفها ووجوده يقويها بأقصى درجة ممكنة، ولكنها رغبة الصادق المهدي في إلباس الحركة الشعبية قميص اللوم بمناسبة وبدونها لأنها حاضرة دائما في ذهنه في صورتها الرمزية المخيفة، كمثال للنقيض الإيديولوجي/التاريخي، ورحم الله امرئا عرف نقيضه الإيديولوجي.
وهكذا، لعب الصادق المهدي دوره وعاد إلى حقله الإيديولوجي بعد أن ساهم في إمكانية استمرار الوضعية التاريخية المأزومة، أي تعليق إمكانية الحلول الحقيقية وقرّب النظام من هدفه الرامي إلى فصل الشمال. عاد والتقى بالجبهة الإسلامية لمواصلة العمل في توحيد جبهة الكفاح الداخلية (الإسلاموعروبيةمن أجل البقاء في موقع “المطالبة باحتكار الاستخدام الشرعي للعنف المادي والرمزي” بعد أن وصل الاستخدام غير الشرعي إلى مداه وأنتج مضاداته:
وقد يجمع الله الشتيتين بعدما
يظنان كل الظن ألا تلاقيا
والحقيقة أن ما بين الشتيتين مجرد حماقات سلطة، ولكنهما في الهم شرق. وإن ما هو جوهري ليس في الكلمات التي تصاغ في المنفستوهات بقدرما هو في الخلفيات والمرجعيات الموضوعية/ التاريخية التي هي قادرة على جمع الشتيتين بعدما يظنان كل الظن ألا تلاقيا.
نقلا عن د. علي سالم: بيار بورديو (6) نظام الاستعدادات والتصورات، الدولة: اكتشاف بورديو للبعد الرمزي، مجلة أفكار معاصرة. ويشرح د. علي سالم مفهوم رأس المال الرمزي بقوله: يعني رأس المال الرمزي القبول أو الاعتراف بسلطة من يملك مزايا أكثر.. وأن رأس المال الرمزي مرتبط بأهمية الموقع المحتل أو بالقيمة المعطاة من قبل الناس، أو بالتسمية المعطاة لشيء. ومما لا شك فيه أن هذه القيمة تتعلق بإنظمة الاستعدادات والتصورات للأشخاص المتوافقة مع البنى الموضوعية القائمة.
نعمان الخطيب؛ الأحزاب السياسية ودورها في أنظمة الحكم المعاصرة، ار الثقافة للنشر والتوزيع، 2 شارع سيف الدين المهراني، 1983م، ص 167.
نيكولاس بولانتزاس؛ نظرية الدولة، ترجمة ميشيل كيلو، دار التنوير للطباعة والنشر، بيروت، 1987م، ص 25.
إريك فروم؛ أزمة التحليل النفسي، ترجمة طلال عتريسي، الطبعة الأولى، المؤسسة العامة للدراسات والنشر والتوزيع، بيروت، 1988م، ص50.
ديكومب؛ الذات والآخر، (نعتذر عن ضياع بقية تفاصيل عنوان المرجع).
محمد عابد الجابري، نقد العقل العربي 3: العقل السياسي العربي محدداته وتجلياته، الطبعة الأولى، المركز الثقافي العربي، المغرب، 1990، ص 17.
المرجع السابق، ص 28.
د. علي سالم؛ المرجع السابق، ص126. ويخلص بورديو في تحليله إلى أن الدولة تعتبر نتيجة لعملية التوافق بين البنى الموضوعية والبنى الفكرية أو نتيجة العلاقات المباشرة العفوية اللاواعية بينهما. أو أنها نتيجة للواقع أو الشروط الاقتصادية والاجتماعية وبعبارات أخرى، ليست مفهوما مقدسا، أو جوهرا قائما بذاته، وإنما مفهوم له بعد اجتماعي، وبهذا ففهم الدولة يكون من خلال القطيعة مع نظرية الجواهر أو الحقائق المطلقة ومن خلال العودة، بالتالي، إلى المنطق التاريخي والسيرورات التاريخية.
نفسه، ص129.
يعرف ماركس الدولة بأنها”أداة أو آلة لخدمة البرجوازية، أو كجسم طفيلي مخيف”. أما دوركهايم فيعرفها بأنها “جهاز من المجتمع يؤدي إلى إقامة علاقات من التضامن بين أعضائه ويراقب تربيتهم… أو كأجسام اجتماعية لها صفة التحدث والتصرف باسم المجتمع أو كبنية مميزة عن بنى أخرى (أو أنظمة) تتضمن التوازن الاجتماعي بمجمله، أو كشكل للسلطة محدد بالصراعات الطبقية الاقتصادية والسياسية والأيديولوجية، وبعلاقات الإنتاج، أو كشكل يلعب دورا أساسيا في تكوين علاقات الإنتاج. (بولانتزاس) نفسه، ص132.
الجابري، المرجع السابق، ص48.
محمد سعيد القدال؛ تاريخ السودان الحديث 1820ـ1955م، مطابع شركة الأمل، 1993م، ص53.
المرجع السابق، ص16.
د. شريف حرير ود. تيرجي تفيدت؛ السودان الإنهيار أو النهضة، ترجمة مبارك على عثمان ومجدي النعيم، الطبعة الأولى، مركز الدراسات السودانية، القاهرة، 1997م، ص 19.
د. سمير أمين، مقال،               ، مجلة المستقبل العربي

Print Friendly, PDF & Email

عن laalaa

شاهد أيضاً

*♻️الحزب الاتحادي الديمقراطي الأصل♻️*

Share this on WhatsAppبسم الله الرحمن الرحيم *♻️الحزب الاتحادي الديمقراطي الأصل♻️* القطاع السياسي أمانة الإعلام …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.