الخميس , أبريل 18 2024
ardeenfr
أخبار عاجلة
الرئيسية / أخبار لالا اليومية / الشاعر عفيف اسماعيل يكتب عن تعذيبه بواسطة الكادر الاخوانى مبارك الكودة فى الحصاحيصا

الشاعر عفيف اسماعيل يكتب عن تعذيبه بواسطة الكادر الاخوانى مبارك الكودة فى الحصاحيصا

    “.. أيتها الكلاب الجليلة.. رحماك!! فلقد نلت قبل قليل
    حصة من النباح تكفي إلي نهاية العمر “
    ..
    ..
    المكان: نادي الاهلي الرياضي الاجتماعي الثقافي بالحصاحيصا.
    الزمان:27 رمضان 1991
    عندما حاول صناع القبح الإسلاموي المنظم بايدولوجية وحيد القرن طمس أرث النشاط الثقافي في تننافسه الصحي والشريف بالتغول علي مكتسبات دور العمل الأهلي الثقافي الابداعي بمدينة الحصاحيصا، وبإحلال بيت الثقافة كبديل وحيد لها، وخاصة رابطة الأداب والفنون كأنشط جسد يضم كافة أشكال الفنون الإبداعية، وجدت خطوتهم معارضة فاعلة ضد مشروعهم لسرق كل ما يجمل الحياة بالمدينة والوطن.
    مع مجموعة كبيرة من الحادبين علي امر العمل الثقافي بالمدينة توحدنا حول هدف واحد وهو ان تبقي مكتسبات المؤسسات الأهلية وممتلكاتها ملكاً لأهلها، وضد ان يستحوذ بيت الثقافة علي قطعة الارض المصدقة لرابطة الآداب والفنون، إن ارادت الدولة الإسلاموية بمالها المنهوب من ثروات الشعب أن تبني و تأسس ما يخصها من منظمات عليها تأسيسها بعيدا عن دور هذه المؤسسات التي تعمرت بعرق الجهد الذاتي لكل اهل الحصاحيصا ومبدعيها. واعلنا بشكل واضح عن عدم مشاركتنا في اي انشطة يقيمها بيت الثقافة بالمدينة. وبدأ اثر تلك المقاطعة فاعلا عندما لم تحقق كل انشطة بيت الثقافة ما كان تلك الطغمة ترجوه منها.عانت انشطتهم من البوار لفقر خيالها الابداعي و لبعدها عن هموم الناس وتركيزها علي تجييش الشعب السوداني.
    لكن هؤلاء القوم الذين قرصنوا الوطن بليل، يمتكلون ثعلبية ودهاء كبيرهم الذي علمهم السحر حتى انقلب عليه. تفتقت عبقريتهم الماكرة في الاستفادة من ارث النشاط الثقافي الحيوي لمدينة في شهر رمضان من كل عام. أكثر من ذلك تم دعوتي وصديقي الشاعر الكبير أزهري محمد علي تحت اسم رابطة الاداب والفنون التي نكن لها كل تقدير واحترام ونشارك في انشطتها من حين لآخر، وعلي مسرح النادي الاهلي شيخ اندية الحصاحيصا الذي لا يمكن باي حال رفض دعوة تاتي من طرفهم.
    رافقت أزهري محمد علي إلي مكان الاحتفالية، لطمتنا فور وصولنا لافتة كبيرة الحجم تحتها اسماؤنا مع بقية المبدعين المشاركين وتتصدرها ديباجة بيت الثقافة كجهة منظمة، وإمعانا في المخاتلة وإدقان في اللؤم تم لحظة وصولنا الإعلان عن ضيف شرف الأمسية وهو محافظ محافظة الحصاحيصا مبارك “الكوده” العائد من الاراضي المقدسة بعد أن أداء عُمرة رمضان.
    سريعا أزهري وانا حسمنا امرنا باننا سوف نقرأ اشعارنا فقط تكريما للحضور الذي اكتشفنا من معظمهم قد تم دعواتهم تحت اسم رابطة الاداب والفنون.
    صعدت إلي المنصة، وبعد تحية شهداء الوطن في الديمقراطية والسيادة الوطنية وخاصة شهداء انتفاضة 6 ابريل التي كانت تحل ذكراها في تلك الايام، اعلنت بأنني لن اقرأ في هذا اليوم غير اشعاري التي كُتبت للشهداء، وكان الأول نص بعنوان “لوحة” مهداة لشهيد الفكر الاستاذ محمود محمد طه،النص الثاني بعنوان” نجمة الجنوب تقود إلي كل الإتجاهات” مهداة إلي الشهيد د. علي فضل الذي لم يجف دمه بعد، وتبعني أزهري في تحية الشهداء وذكري ابريل وقراءات نصوص للشهداء ايضا.
    كان التصفيق يهز ارجاء المدينة الصغيرة بعد كل قراءة . طلب الكوده من مدير الليلة فرصة للحديث، صعد الرجل بهدوء كظيم تبرزه تلك الحركة العصبية علي فكيه وفضحه اصككاك اسنانه عندما حاول الابتسام قبل بداية حديثه. تمالك نفسه سريعا، وتحدث بهدوء مفتعل عن العشرة الاواخر من رمضان وكيف كان السلف الصالح يقيمها، عن فضل ليلة 27 رمضان، وعن فضل ليلة القدر، وتحدث عن طرق مختلفة للعبادة واقامة الليل تقربا للخالق، قال منها يمكن ان نتقرب إلي الله مثلما نفعل الليلة، من خلال الغناء والشعر، وجميع الفنون، فجأة ثار الرجل مثل بركان محبوس منذ الآف السنين وصرخ باعلي صوته في نوبة من الهياج تفضح الأسس التي بني عليها المشروع الحضاري الاسلاموي لأذلال الشعب السوداني:
    – لكن لن نسمح بتدنيس هذه الليلة المباركة بتمجيد الهالك محمود محمد طه، ولن نسمح ان تستغل منابرنا من قبل الشيوعيين، والبعثيين، نحنا الله ذرعنا في البلد دي وغيروا ما في زول بقلعنا، ،ثم صار يهذي مثل مصاب بالملاريا ويردح مثل مثكول: شيوعي تاني ما بجي، بعثي تاني ما بجي، أمه تاني ما بجي، اتحادي تاني ما بجي، والجمهوريين ديل قطعنا راس الحية زمان، ومحمود الهالك شبع موت، منو الداير يبعثوا لينا تاني كمان.. ثم رمى بالمايك مفتوحا فوق الطاولة الحديدية فصار يصدر صفيراً عاليا يصم الأذان.
    بارتباك أعلن مدير الامسية عن الفقرة التالية، همس ازهري في اذني بأنه سوف يذهب لأن لديه ضيوف بالبيت، وخرج مباشرة بعد أن انتهي احد الشعراء من قراءة نصه الأول.
    أحسست بان هناك من يحاول ان يهمس في اذني بفحيح أعمى ولا يريد ان يسمعه من هم حولي قائلا:
    – يا عفيف عايزنك
    التفت نحوه، وحدقت مباشرة في عينيه وبين وجهينا مسافة اقل من شبر هو يردد: عايزنك قوم يالله معاي.
    تجاهلته التفت جهة المسرح، فجاء حانقاً وجلس في المقعد الذي كان يشغله ازهري
    – عايزنك..معاك أمن
    قلت له بصوت عال كي يسمعه كل من حولي:
    – عندك ما يثبت انك أمن
    ارتبك قليلا، ثم أخرج من جيبه بطاقة وأخفى بعض معلوماتها باصابعه وضعها علي فخذ رجله اليسرى.
    بنفس الصوت المسموع لمن حولي كي يدركوا حقيقته
    – انتا خجلتا من انها بطاقة امن ولا شنو خاتيها بعيد كد ، ارفعها فوق في الضو دا عشان اشوفها ولا قايل النظارات دي انا لابسه زينة ساي، قرب البطاقة شويه، ما قادر اشوفا.
    ارتبك مرة أخري من صوتي الذي صار يلفت بعض جمهور الأمسية، ولم ينتبه هذه المرة أن يغطي بقية المعلومات التي اراد أن يخفيها في المرة الأولى فحفظت ذاكرتي تلك التفاصيل، لتشكل أول بلاغ حزبي عن أحد كوادر الأمن الجدد بالمدينة الذي كشف نفسه في تلك الليلة.
    – يأخي مامكن تصبر شويه لحد ما الليلة تنتهي
    – لا.. عايزنك هسع
    وتم اعتقالي من وسط جمهور الأمسية الرمضانية، وطار الخبر بين جهات المدينة الصغيرة سريعا،تحركت معه لأجد قوة كاملة العتاد تقف خارج النادي،واخذتني إلي مكاتب الأمن بالمدينة.
    تزامن وصولنا مع عربة الكوده الفارهة، ارتبك افراد الأمن الجالسين في باحة المكتب في مقدمتهم أحد مؤسسي وحدة الأمن بالمدينة وهو حسن العوض من قرية “دلوت البحر”، وقفوا جميعا لتحية الكوده الذي لم يبادرهم بالسلام الذي قال بلهجة آمرا
    – خلو لي شاعر الشيوعيين دا الليله عشان ادبوا ليكم..
    لدهشتي وجدت في احد المكاتب صديقي الشاعر أزهري محمد علي الذي كنت أظن انه الآن يستمتع بعشاء رمضاني بين اسرته وضيوفه، كان يحقق معه أحد ابناء المدينة العاملين في جهاز الأمن اللاوطني وهو عزالدين الصول ومعه آخر، فور دخول الكوده، وقفا معا في لحظة واحدة كمن يؤدي تحية عسكرية، بينما اتسعت ابتسامة أزهري وهوجالس ينظر إلي ارتباكهما، وحاول عز الدين الصول الذي تربطني به ملاعب صبا وجيرة في الحي عندما قدمت اسرته من ود مدني لتستوطن بالحصاحيصا الخروج من الغرفة، فأمره الكوده بالبقاء وان يحضر ورقة وقلم، وامر الآخر بان ياخذ أزهري محمد علي إلي غرفة أخري..
    مازالت نوبة الهياج تكسو وجه الكوده، عروق رقبته تكاد ان تنفجر وتشنجت كل ملامحه حتي خلت انني ارى وجهه قادماً للتو من الموت وقال:
    – أكتب اي كلمة يقولا الزول دا، اسمك منو؟
    -عفيف
    وابتسم تلك الابتسامة الثعلبشيطانية او الشيطثعلبية الصفراء التي دربهم عليها شيخهم الكبير ثم اردف :
    – عفيف حاف كدا ولا ما عندك ابو؟
    لم استجب لإستفزازه واجبت بهدوء
    – عفيف اسماعيل
    وصار يهذي ويبصق في فضاء الغرفة بذاءته النتنه والتجريح، وساقط القول والاسفاف الذي يعف عنها القلم واللسان، و التي تفضح وجهه الحقيقي ثم اختتمها بقوله:
    – ها.. عفيف!! العفه وين تلقاها بلسانك الزفر دا البمجد الهالك محمود، محمود مات وشبع موت مالك تاني جايب سيرتو ليه الناس نسوا زمان، انتا قايل نفسك بتعبي في الناس ضدنا، يمين زي شغلك دا انا اشتغلوا في زمان وعارف بعملوا كيف.” يضحك بعصبية ثم يواصل” ها.. كادر دعائي قال، وبعبي في الجماهير، وقف فجاة وصار يقلد قراءتي:
    وارسم وجها لرجل قال:لا
    سجنوه قال:لا
    عذبوه: قال لا
    – وينهم الناس الدايرهم يقولوا “لا” وراك ديل، نفخك تصفيقهم وعامل فيها بطل، والله الليلة ما يفكك مني إلا الجن اللحمر، ولا اقول ليك انا هسع بعربتي الجديده دي في ساعة بس ممكن اسوقك اوديك الخرطوم يمين الجن اللحمر زاتو ما يعرف انتا وين، وتلحق محمود الشاقي حسك وداير ترفعو لمصاف النبوة كمان، كدي اقرأ لي الحتة بتاعة النبوة دي
    – الدفتر الكنت بقرأ منو صادروا ناس أمنك ديل
    – هو كان شعر فيهو فائدة كان حفظتو، شعر مسيخ بلا طعم، ولا وزن ولا قافية، رجلا قال: لا ، عذبوه قال:لا، الليلة ح نوريك العذاب لحد ما تقول يا ريت لو ما اتولدت من اصلوا، كدي وريني الكلام الفارغ دا كتبتوا مخصوص عشان تحرض بيهو الناس الليله؟
    – لا.. النص دا مكتوب من سنة85
    – هيي..هيي ماتتفلسف علىّ انتا قايل نفسك لسه في الندوة، نص وبتاع، داك كلام اي زول من الشارع بقولوا قال رجلا قال لا، ومن سنة 85 مكتوب طيب لزوموا شنو تقراهوا الليله بالذات، كدي اشرح لي تقصد شنو برجل قال لا
    – اقصد رجل اسمه محمود محمد طه و قال لا
    – يا زول انتا بصحك، عندك عقل في رأسك دا، وفاهم الكلام البتقول فيهو دا؟
    – ايوه
    – وعرف معناهو شنو؟
    – ايوه
    – هل انتا عارف انو مفروض هسع تقوم تغتسل وتتوضأ وتصلي لربك لحد الصباح كان يقبل توبتك، تلقاك هسع ما بتعرف معني غسل ووضوء وتوبة ذاتو،انتا عمرك كم؟
    -31 سنه
    – متزوج
    – لا
    – شغال شنو؟
    – مصور
    – مصور بتاع شنو؟
    – مصور فوتوعرافي
    – عندك اخوان؟
    – ايوه
    – كم اخو؟
    -سبعه
    – عندك اخوات؟
    – ايوه
    – شنو انتا شابكني ايوه ايوه، وتجاوب علي بالقطاره وينا فصاحتك الكنت بتسو فيها قدام الناس دي، ولا الشوعيين مدربنك علي انك تجاوب كدا، جاوب زي الناس لما اسألك، عندك كم اخت؟
    – اتنين
    – متزوجات؟
    -لا
    – ابوك وامك حيين؟
    – ايوه
    – كبار في العمر؟
    – ايوه
    – يعني انتا بتساعدهم في المعيشة؟
    – ايوه
    ارتخت ملامحه وحاول ان يلعب دورا آخر وقال برقة مفتعلة:
    – هسع كان حصل ليك حاجه لا قدر الله، غير تعذب ابوك وامك واخوانك وراءك شنو، اخير ليك تخليك في تصويرك دا، وبطل كلام التحريض الفارغ البتسوي فيهو دا، قبل شويه كنتا عامل فيها بطل قدام الناس، آهه هسع الناس الناس ديل وين هم؟ ما براك شايل شيلتك. أنت شكلك طيب وابن ناس، ما تكون اناني وتفكر في نفسك، فكر في اهلك ديل.انت عارف انا ذاتي كنت فنان، وبعزف الكمان، وبحب الموسيقي والشعر، لكن لاي حاجه زمنا، عشان كدا ماتضيع نفسك ساي ورا نزوة شهره وبطوله فارغة، اختا درب درب الكفار ديل الجمهوريين والشيوعيين، فكر في الكلام دا كويس، انا ح اجييك تاني بعد شويه. واشار لعزالدين الصول
    – وديهو جوه وجيب لي الشاعر التاني دا.
    جلست في تلك الزنزانة وحيدا لمدة ثلاثة ساعات، قرب الفجر استدعاني مدير وحدة الأمن واستمر التحقيق معي لأكثر من نصف ساعة من البذاءات المتواصلة تشبه الوجه الاخر لعملة الكوده الصدئة من صديد الكلمات الساقطة التي ينعم بها قاموسهما معا، ثم طل الكودة فجأة وقال له:
    – خليهو يمشي، ما دايرين نعمل منو بطل.
    فاطاع مدير الأمن بلا تردد امر المحافظ. فالأمن ليس أمن الوطن بل هو أمن حزب الجبهة القومية الإسلاموية.
    وخرجت ونسمات اول الصباح تزهر في الأفق مشبعة بطمي النيل الأزرق
    بدات تغسل بعض من سموم بدني وروحي من بذاءات اصحاب المشروع الاسلاموي الحضاري. حدقت بإتجاه النيل الأزرق حيث يقبع بنطون الحصاحيصا رفاعة مثل كائن خرافي ، ثم حدقت في الأفق فرأيت وجه محمود يتخلق بتحولات الالوان الفجرية في لوحة شفقية كاملة الزهو والابتسام، تسندني في تلك اللحظات العجاف فدبت العافية والنشاط في بدني وروحي وصرت اسير بخطوات اكثر رشاقة وانسجام.
    تجاوزت حي المايقوما متجها إلي حيث أسكن بحي أركويت. فجأة علي مشارف الحي بدا كلبين في النباح، ثم تحول إلي عاصفة من النباح من خلفي، فتمتمت سرا بحنو:
    – أيتها الكلاب الجليلة.. أعلم انك تؤدين واجبك المقدس تجاه من يقدمون إليك الطعام والمأوي،أيتها الكلاب الجليلة.. رحماك!! فلقد نلت قبل قليل حصة من النباح تكفي إلي نهاية العمر
    الجمعة 18 يناير 1985:
    أين كُتب نص “لوحة” المهداة لروح الشهيد الأستاذ محمود محمد طه؟

    بعد أن اكملت محكمة الطوارئ المهزلة والهزلية مسرحيتها العابثة واصدرت قرار حكمها بإعدام الاستاذ محمود محمد طه، عم الآسي والحزن كل ارجاء مدينة الحصاحيصا، حين تأكد تاريخ التنفيذ، فر الشيوعيون والديمقراطيون باكراً بحزنهم في صبيحة يوم 18يناير 1985 إلي خارج المدينة إلي تلك الغابة الصغيرة الواقعة بين أربجي والعيكورة، يعلكون حزنهم بعيدا ..ذاك حزن لا يمكن احتماله بين جدران المدينة.
    كان الصديق محمد نور الدين في ذاك الوقت يعمل مهندسا بمشروع الجزيرة اوقف عربته علي مقربة من الشجيرات الجافة التي تظللنا، وكان يساسق بين راديو العربة ومجلسنا وينتظر معجزة ما، وكان يهمس لي بين وقت وآخر بأنه يحس بأنه يري تفاصيل كابوس مزعج يتخلق امامه وهو لا يستطيع أن يفعل شئيا. كان الاستاذ عبد الرءوف عمر بصرامة يضعها قناع كي يخفي حزنه، يوزع في مهام العمل لذلك اليوم. واختفت ضحكة أنيس عبد الرحمن الانيسة وارتسمت علي جبينه تغطيبة عبوسه، ابحرت عينا الشاعر محمد رملي إلي ما وراء الأفق مثل ملاح تائه، وجلس عاطف اسماعيل بعيدا يمضغ حزنه وحده، ومبارك محمد الحسن يحاول يختبي خلف اطار نظارته.
    وعندما عاد محمد نورالدين بعينين مملؤتين بدمع دامي وتحولت عينيه مثل الجمر ادركنا بأن محمود قد صعد إلي حيث أختار. بدأ النص يتخلق في ذهني جملة جملة، صورة صورة وتجمعت حتى شكلت النص الشعري المعنون بلوحة:
    وارسم وجها لرجل قال: لا
    سجنوه قال:لا
    عذبوه قال: لا
    قايضوه ان يشتري روحه بدمه
    قال:لا..
    ان يبيع روحه ليربح دمه
    قال:لا..
    أوثقوه: مشى
    عصبوا عينه: أبصر
    شنقوه: انتصر
    واكمل رسم وجه رجل طيب يدعي محمود
    نبيا في وردة التكوين
    أوحت له الأرض بالعشق: فسما
    عندما حاولت تنقيح اشعاري في منتصف التسعينات والدفع بها للطباعة، تتضألت كل النصوص الشعرية التي كتبتها في فترة الثمانينات عدا نص”لوحة” المهداة للاستاذ محمود محمد طه ونص آخر اصطحبتهما معي للطباعة ليجد نص ” لوحة” حظه من النشر في مجموعتي الشعرية الثالثة”ممر الى رائحة الخفاء” الصادرة عن الهيئة المصرية العامة للكتاب تحت سلسلة كتابات جديدة الشهرية. لقد تركت المجموعة بحوزتهم قبل مغادرتي للقاهرة إلي بلاد الكانغرو في عام2003، ففاجأني الناشر في عام 2006 بطباعة المجموعة الشعرية ويزين غلافها الخلفي مقطف من نص “لوحة”.
    أيضا فاجأني الصديق الموسيقار ربيع عبد الماجد في خواتم العام الماضي بوضع نص موسيقي مواز للنص الشعري “لوحة” التي لحنها وتغني بها وعندما سمعتها اعاد إلي لحنه الجميل وصوته المعبر كل تداعيات ليلة النادي الأهلي بالحصاحيصا في 27 رمضان 1991م، وضيق أفق السلطة الحاكمة التي يمثلها محافظها بالمدينة مبارك” الكوده” أعلي سلطة أمنية لقمع سكانها.
    من زنزانة الأعتقال في تلك الليلة تكون منتدى الحصاحيصا الأدبي بعضوية كل من الشعراء أزهري محمد علي، د.طلال دفع الله عبد العزيز ومعتصم الطاهر وكنت أكمل مربعهم، وترافقنا جميعا في قراءات شعرية بطول بالبلاد وعرضها خاصة في الجامعات والمعاهد العليا.
    ظل لحن الموسيقار ربيع عبدالماجد يتدفق ويتجول بين كثير من الزكريات، منها كوابيس تلك اللحظة التي أغتيل فيها فادي الشعب السوداني الشهيد الأستاذ محمود محمد طه،علي الشبكة العنكبوتية في الرابط ادناه سوف تجدوا أغنية “لوحة”.
    http://www.youtube.com/watch؟v=RxKOPvxnANwhttp://www.youtube.com/watch؟v=RxKOPvxnANw
    ..
    ومازال الاستاذ محمود محمد طه أغنية للصلابة والجسارة..
    ومازالت ابتسامة الاستاذ محمود محمد طه مشرقة في جنبات روحي بإخضرارها المورق، وكل ما حاصرتني الأوجاع والكوابيس تضي لي عثار الخطى..
    ومازال الشهيد الأستاذ محمود طه يتجلى بهيا مثل عنقاء تنفض موتها كل يوم..
    ومازال الشهيد الأستاذ محمود طه أرقا مالحا لكل المهووسين.

 

Print Friendly, PDF & Email

عن laalaa

شاهد أيضاً

حزب المؤتمر السوداني تصريح صحفي

Share this on WhatsAppحزب المؤتمر السوداني تصريح صحفي طالعنا البيان المؤسف الصادر من سكرتارية اللجنة …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.