الخميس , أبريل 25 2024
ardeenfr
أخبار عاجلة
الرئيسية / أخبار لالا اليومية / كيفَ ولماذا نجحَ الإسلاميون في إجهاضِ انتفاضةِ أبريل 1985؟

كيفَ ولماذا نجحَ الإسلاميون في إجهاضِ انتفاضةِ أبريل 1985؟

دروسٌ لثورةِ ديسمبر 2018د
05-05-2019 
د. سلمان محمد أحمد سلمان 

مقدمة 

مضى نحو ثلثِ قرنٍ من الزمان منذ أن نجح الإسلاميون في إجهاض انتفاضة أبريل عام 1985، ووأد المطالب والمبادئ النبيلة التي اندلعت الانتفاضة من أجلها، والتي قدم أبناء وبنات الشعب السوداني الأرواح والدماء في سبيلها – الحل السلمي لقضية الجنوب، وإلغاء قوانين سبتمبر 1983 وعودة الديمقراطية والمواطنة والحريات الأساسية. 

يحاول الإسلاميون وبجهدٍ خارقٍ ومساعداتٍ بلا حدود من حركة الإخوان المسلمين العالمية ودول الجوار تكرارَ ذات المسرحية، واختطاف ثورة ديسمبر 2018 وإفراغها من مضمونها ومبادئها ومطالبها، ومواصلة التمسك بالسلطة وحماية انفسهم من المحاسبة على جرائم القتل والتعذيب والفساد المالي غير المسبوق. 

ولكي نسيرَ بثورةِ ديسمبر 2018 إلى غاياتها النبيلة – حرية، سلام وعدالة – فلا بُدَّ من دراسةٍ متأنية للأسباب التي أدّت إلى نجاح الإسلاميين في اختطاف انتفاضة أبريل وإفراغها من مبادئها وغاياتها، والتصدّي لتلك الأسباب بعنايةٍ وجِدّية حتى لا تتكرر تلك المأساة مرةً ثانية بأية صورةٍ من الصور. 

المصالحة الوطنية مع نظام نميري عام 1978 

قادت الجبهة الوطنية التي تكوّنت من حزب الأمة والحزب الاتحادي الديمقراطي والجبهة القومية الإسلامية المصالحة الوطنية مع نظام نميري عام 1978. غير أن التردّد تجاه المصالحة ساد داخل حزبي الأمة والاتحادي الديمقراطي، فانشق الحزبان بين مؤيدٍ ومعارضٍ للمصالحة. وقد كان ذلك هو غاية ماتمناه الإسلاميون الذين عرضوا أنفسهم كحلفاء متماسكين يمكن لنميري الثقة بهم. انفرد اللإسلاميون نتيجة ذلك بالمعلب السياسي تحت غطاء وحماية نظام نميري ليبنوا تدريجياً امبراطوريتهم المالية الضخمة المتمثلة في البنوك والشركات الإسلامية، ودولتهم الإعلامية المتمثلة في عددٍ كبيرٍ من صحف الإثارة والكراهية. 

ثم ملأوا فراغ نظام نميري السياسي بقوانين سبتمبر 1983 والتي أعطتهم سيفاً حاداً وقاسياً استخدموه بشراسةٍ لإذلال وإهانة الشعب السوداني. 

ردّةُ فعل الإسلاميين تجاه انتفاضة أبريل 1985 

فوجئ الإسلاميون بانتفاضة أبريل عام 1985 ولكنهم استطاعوا تجميع صفوفهم بسرعة والقفز في الصفوف الأمامية للقوى السياسية المعارضة. وانبنت خطتهم على حيلتين. 

كانت الحيلة الأولى الإدعاء أنهم كانوا قد عارضوا نظام نميري في أواخر شهوره وأنهم بمعارضتهم تلك قد ساهموا في إضعاف النظام وإسهال مهمة إسقاطه. وقد ساعدهم في ذلك الإدعاء الخبيث إعلامهم الابتزازي الذي كانوا قد غطّوا به الساحة السياسية. 

وكانت الحيلة الثانية هي التخويف من الشيوعية والعلمانية وأن الدكتور جون قرنق سيصل الخرطوم بجيوشه متحالفاً مع قوى اليسار لإسقاط الدولة الإسلامية وإنهاء عروبة وإسلامية السودان، وسوف تصل مع الدكتور قرنق إسرائيل والصليبيون والصهاينة. 

وكان الهدفان الرئيسيان والعاجلان للحركة الإسلامية هما الوقوف بقوة ضد أية محاولة لإلغاء قوانين سبتمبر، ووقف أي تفاوضٍ يقود لحلٍ سلميٍ لقضية الجنوب. كان الإسلاميون يدركون أن بقاء قوانين سبتمبر سوف يعني تلقائياً إجهاض مطالب الانتفاضة لدولة الحرية والسلام والعدالة والمواطنة في السودان، وبقاء تسلّطهم واستبدادهم. وكانوا يعون أيضاً أن حل مشكلة الجنوب لن يتم بدون إلغاء قوانين سبتمبر. 

ولكي يتم تحقيق هذين الهدفين فقد كان من الضروري للحركة الإسلامية أن تصل وبسرعة إلى مركب القيادة الجديد. 

اختطاف الإسلاميين لمركب قيادة انتفاضة أبريل 

نجح الإسلاميون في شغل الرأي العام والساحة السياسية في جدلٍ عقيم حول دور الإسلاميين في إسقاط نظام نميري، وبدأوا في تنفيذ برنامجهم الذي انبنى على احتواء الانتفاضة من الداخل، من خلال استلام المجلس العسكري ومجلس الوزراء، بتعيين وفرض قياداتهم العسكرية والمدنية للمجلسين. 

تمثل نجاحهم الأول في فرض المشير سوار الذهب، وزير دفاع نميري وأحد قيادات الحركة الإسلامية، لرئاسة المجلس العسكري. 

وكان النجاح الثاني هو فرض الدكتور الجزولي دفع الله المعروف بميوله الإسلامية رئيساً للوزراء. وأضافوا لنجاحههم ذاك تمثيل بعض الأحزاب في مجلس وزراء الانتفاضة بوزراء يدينون بالولاء للحركة الإسلامية أكثر من ولائهم لحزبهم الذي وضعهم في ذلك المنصب. 

وبتلك التركيبة للمجلس العسكري ومجلس الوزراء فقد بات واضحاً أن المجلسين سوف يتصديان لأية محاولات لإلغاء قوانين سبتمبر، ووقف أيّةِ اتصالاتٍ ومفاوضاتٍ لحلٍ سلميٍ لقضية الجنوب. 

اتصالات حكومة انتفاضة أبريل مع الحركة الشعبية: 

رسالة اللواء عثمان عبد الله إلى الدكتور جون قرنق 

بدأت الاتصالات بين الحكومة الجديدة الانتقالية التي ترأّسها الدكتور الجزولي دفع الله مع الدكتور جون قرنق بعد أسابيع قليلة من تشكيل الحكومة في شهر أبريل عام 1985. فقد كتب اللواء عثمان عبد الله وزير الدفاع في الحكومة الانتقالية في 27 مايو عام 1985 رسالةً إلى الدكتور جون قرنق خاطبه فيها بكلمتي “صديقي جون.” وقد ذكّرتْ الرسالةُ الدكتور جون قرنق بالمعاناة التي يعيشها الشعب السوداني، وأوضحت أن انتفاضة أبريل التي أطاحت بالنظام الدكتاتوري لم تحقّق أهدافها بعد بسبب نزيف جروح الحرب في جنوب السودان. 

أضافت الرسالة أن البلاد كانت تتوقّع عودة الدكتور جون قرنق للسودان مباشرةً بعد نجاح الانتفاضة ليساهم في التحوّلات الجديدة في البلاد، لأنها لا تعتقد أن الدكتور قرنق يحارب كمتمردٍ، بل من أجل تحقيق الوحدة الوطنية وتحسين أوضاع السودانيين في الشمال والجنوب. اختتم اللواء عثمان عبد الله الرسالة بعرضه مقابلة الدكتور قرنق في أيِّ مكان وزمان لمناقشة مسائل أمن واستقرار البلاد، موضّحاً أن ما يجمع الشعب السوداني في شطري البلاد هو أكثر مما يفرقهما. 

جاءت أول رسالة لدكتور قرنق من الحكومة الجديدة من وزير الدفاع، اللواء عثمان عبد الله الذي كانت تربطه علاقات صداقة بالدكتور جون قرنق. وكان الاعتقاد أن تلك العلاقة الوطيدة بين الرجلين، ومكانة اللواء عثمان عبد الله في الحكومة الجديدة، سوف تساعدان على بدء المفاوضات بين حكومة الانتفاضة والحركة الشعبية. 

رسالة الدكتور الجزولي دفع الله للدكتور جون قرنق 

غير أنه تلتْ رسالة اللواء عثمان عبد الله بعد أقل من أسبوع من إرسالها، رسالةٌ أخرى في الفاتح من يونيو عام 1985 من رئيس الوزراء الدكتور الجزولي دفع الله إلى الدكتور جون قرنق. وقد تم إرسال الرسالة الثانية قبل وصول الرد من الدكتور قرنق على الرسالة الأولى. 

كان واضحاً أن الغرض من الرسالة الثانية هو تأكسد استلام الإسلاميين زمام المبادرة في التفاوض مع الحركة الشعبية، دون تدخل طرفٍ سياسيٍ أو عسكريٍ آخر، وإبعاد اللواء عثمان عبد الله من تلك الحلبة نهائياً. 

تحدّثت رسالة الدكتور الجزولي دفع الله عن انتفاضة أبريل وكيف تدخّل الجيش السوداني في اللحظات الحرجة من الانتفاضة ليقف بجانب الشعب مما ساهم في نجاح الانتفاضة، وأوضحت أن من مهام الحكومة الجديدة حلُّ مشكلة الجنوب. تضمّنت الرسالة ما أسمته أفكاراً للنقاش وشملت عرضاً بالعودة إلى اتفاقية أديس أبابا للحكم الذاتي للجنوب لعام 1972. 

وكأن هذه العموميات ومحاولة بثّ الحياة في روح اتفاقية أديس أبابا لم تكن كافيةً لإثارة الدكتور قرنق ولإغلاق باب التفاوض الذي لم ينفتح بعد، فقد مضت الرسالة لتقول إنه على الرغم من أن مشكلة الجنوب لم تبدأ بالقوانين الإسلامية، إلّا أن السيد رئيس الوزراء يُقدّر آثارها، ويعتقد أنه إذا تمّ الاتفاق على المسائل الأخرى فإن مسألة القوانين الإسلامية لن تكون حجرَ عثرة في طريق الاتفاق، وأنه يمكن الوصول إلى حلٍ لأن هذه القوانين هي موضع نقاش. 

في حقيقة الأمر فلم تكن تلك القوانين موضع نقاشٍ إطلاقاً للدكتور الجزولي دفع الله الذي رفض حتى وضعها في أجندة اجتماعات مجلس وزرائه. 

الأسوأ من هذا أن السيد رئيس الوزراء ذكّر الدكتور جون قرنق أن الشعب في جنوب السودان يعاني من نقصٍ في المواد الغذائية، وأن أعداداً من المواطنين هناك يموتون من الجوع، وأنه من الضروري وقف القتال حتى يصل العون الإنساني إلى من يحتاجونه. وقد حاولت تلك الفقرة أن ترسل إلى الدكتور قرنق وإلى من يقرأون الرسالة أن حكومة الدكتور الجزولي دفع الله أكثر اهتماماً بحياة أبناء الجنوب واحتياجاتهم الأنسانية من الدكتور قرنق وحركته الشعبية التي كانت تحارب من أجلهم. 

في نهاية الرسالة أوضح السيد رئيس الوزراء أنه مستعد لإرسال وفدٍ لمقابلة الدكتور قرنق في أيِّ مكان لبدء حوارٍ مع الحركة الشعبية. 

من الواضح أن الغرض من تلك الرسالة كان وضع شروط مسبقة يعلم الإسلاميون تمام العلم رفض الدكتور قرنق التام لها، وبالتالي إنهاء الحوار قبل أن يبدأ. فقد واصلتْ الرسالة الحديث عن مشكلة جنوب السودان وعرضتْ العودةَ إلى اتفاقية أديس أبابا بينما كانت الحركة الشعبية قد أعلنت برنامجها في يوليو عام 1983، أي قبل حوالي العامين من الرسالة، موضحةً أن المشكلة لم تعدْ مشكلة جنوب السودان، بل هي مشكلة السودان ككل. كما أن ميثاق الحركة الشعبية كان قد أعلن موت اتفاقية أديس أبابا، وإحلالها بالسودان الجديد. 

تعرّضت الرسالة إلى مسألة الدين والدولة بصورةٍ فيها الكثير من الاستخفاف بالدور الذي لعبته مسألة الدين والدولة في مشكلة جنوب السودان، وكان هناك الكثير من التعميم والمراوغة في مواجهتها. 

كما أن إخطار دكتور قرنق بالمجاعة في الجنوب، والتضرّع إليه بوقف القتال حتى يصل العون الإنساني إلى شعب الجنوب، الذي يحارب الدكتور قرنق وجيشه من أجلهم، لا بد أن تكون قد أعطت الانطباع أن الحكومة في الخرطوم تحاول أن تبدو مهتمةً بأحوال المواطنين الجنوبيين أكثر من الحركة الشعبية لتحرير السودان التي قامت وتحارب من أجلهم. ولا بُدَّ أن دكتور قرنق قد قرأ هذه الفقرة من رسالة رئيس الوزراء كإهانةٍ شخصيةٍ له. 

كما يُلاحظ أن السيد رئيس الوزراء قد عرض إرسال وفدٍ لمقابلة الدكتور قرنق في أيِّ مكان لبدء حوارٍ جاد، بدلاً من أن يعرض عليه مقابلته هو شخصياً. 

كان غريباً أن تأتي رسالة السيد رئيس الوزراء للدكتور قرنق بعد أربعة أيامٍ فقط من رسالة اللواء عثمان عبد الله وزير الدفاع. كما أن الرسالتين لا بد أن تكونا قد أثارتا السؤال عن لماذا لم تأتِ هذه الرسائل من الفريق سوار الذهب رئيس المجلس العسكري الانتقالي؟ 

ردُ الدكتور جون قرنق على رسالة الدكتور الجزولي دفع الله 

كان ردُّ الدكتور قرنق على رسالة الدكتور الجزولي دفع الله، كما هو متوقّع، حاداً وغاضباً، وكان تاريخ خطابه الفاتح من سبتمبر عام 1985. أشار رد الدكتور قرنق أن رسالة رئيس الوزراء وصلته في 25 يونيو، أي بعد قرابة الشهر من إرسالها. 

أوضح ردّ الدكتور قرنق أنه على العكس من دعاية وادعاءات المجلس العسكري الانتقالي فإن الحركة الشعبية كانت دائماً تدعو للحوار. وانطلاقاً من هذه النقطة فقد شنّ الردُّ هجوماً عنيفاً على المجلس العسكري الانتقالي، ووصفه بأنه امتدادٌ لنظام نميري، واتهمه بتصعيد الحرب والدمار والموت في الجنوب في نفس الوقت الذي كان المجلس يتحدّث عن التفاوض والحوار. ذكّر ردُّ الدكتور قرنق أن جنرالات المجلس العسكري الانتقالي هم الذين أداروا الحرب في الجنوب وصعّدوها منذ عام 1983، ولا يمكن أن يقودوا السودان ويتحدثوا عن السلام عام 1985. 

وطالب الردُّ بتسليم المجلس لصلاحياته إلى المدنيين الذين قادوا الانتفاضة على نظام نميري وحربه الغاشمة في جنوب البلاد، وأن يدير البلاد مجلسٌ سياديٌ مدني ومجلس وزراء مدني أيضاً يمثل قادة انتفاضة أبريل الحقيقيين. 

طالب ردُّ الدكتور قرنق بضرورة أن تلتزم الحكومة السودانية علناً بمناقشة مشكلة السودان، وليس مشكلة جنوب السودان، في مؤتمرٍ وطنيٍ جامع يناقش نظام الحكم في الخرطوم وأقاليم السودان. 

لكن الدكتور قرنق اشترط الاستجابة لمجموعة من المطالب قبل عقد هذا المؤتمر منها رفع حالة الطوارئ، وإلغاء قوانين سبتمبر، واتفاقيتي الدفاع المشترك مع مصر وليبيا. اختتم الدكتور جون قرنق رسالته بتأكيده أن الحركة على استعداد لحضور هذا المؤتمر الوطني حال الاستجابة لهذه الشروط الثلاثة. 

رد الدكتور الجزولي دفع الله على رسالة الدكتور جون قرنق 

قام رئيس الوزراء الدكتور الجزولي دفع الله بالرد على رسالة الدكتور جون قرنق في 10 نوفمبر عام 1985، أي بعد أكثر من سبعين يوماً من تاريخ الرسالة. ولا بد من التساؤل: لماذا أخذ رد رئيس الوزراء كل ذلك الزمن؟ 

بدأ الرد بالقول إن المجلس العسكري الانتقالي ومجلس الوزراء قد تمّ تشكيلهما بعد إجماعٍ عريض من القوى السياسية التي قادت الانتفاضة ووقّعت على الميثاق الوطني (التجمع الوطني لإنقاذ الوطن). أوضحت الرسالة استعداد الحكومة للنظر في مسألة رفع حالة الطوارئ قبل انعقاد المؤتمر. غير أن الرسالة تعثّرت وارتبكت في مطلب إلغاء قوانين سبتمبر. فقد أشارت الرسالة إلى أن هذا المطلب يمكن مناقشته في المؤتمر الوطني المقترح. 

لم يقم الدكتور قرنق بالرد على تلك الرسالة، وتوقّفت الاتصالات بعد ذلك بين الحكومة والحركة الشعبية. كان واضحاً أن المسافة التي تفصل الطرفين صارت كبيرةً، والأمور العالقة معقّدةً. وقد زاد من ذلك التعقيد تصعيد الحرب في جنوب السودان، ثم صدور دستور السودان لعام 1985 خلال فترة تبادل الرسائل. 

دستور السودان لعام 1985 وقوانين سبتمبر 

في تلك الأثناء كان دستور السودان الانتقالي قد تمّ إعداده والموافقة عليه بواسطة مجلس الوزراء، ثم تمّ اعتماده وإجازته بعد ذلك بواسطة المجلس العسكري الانتقالي. وقد وقّع كل أعضاء المجلس العسكري على الدستور في 10 أكتوبر عام 1985، ودخل الدستور حيز النفاذ في نفس ذلك اليوم. ولم يكن هناك أي دورٍ للتجمع الوطني في تلك المهمة. بل إنه لم تتم حتى استشارة التجمع في مسودة الدستور. 

وقد نصّت المادة 4 من الدستور على أن “الشريعة الإسلامية والعرف مصدران أساسيان للتشريع، والأحوال الشخصية لغير المسلمين يحكمها القانون الخاص بهم.” 

هكذا أكّدت ورسّخت تلك المادة من دستور عام 1985 بقاء قوانين سبتمبر التي كانت انتفاضة أبريل قد طالبت بإلغائها. 

وقد سَمّى الدستور في عدّة مواد الانتفاضة التي أطاحت بحكومة نميري “ثورة رجب” وليس “انتفاضة أبريل”، ليؤكّد التوجّه الإسلامي للحكومة الانتقالية. 

وهكذا حسم الدستور مسألة قوانين سبتمبر وحقوق المواطنة وقضايا الحرية والديمقراطية في السودان، ونسف مطالب وأحلام انتفاضة أبريل عام 1985 باستعادة الديمقراطية والحريات الأساسية والمواطنة وحل قضية الجنوب. 

دستور السودان لعام 1985 واتفاقية أديس أبابا 

نصّت المادة 16 من دستور السودان لعام 1985 على الآتي: “يقوم نظام الحكم الذاتي الإقليمي فـي الإقليم الجنوبي على أساس السودان الموحّد وفقاً لقانون الحكم الذاتي الإقليمي للمديريات الجنوبية لسنة 1972م أو أيّة تعديلات يجيزها ثلثا أعضاء المجلس العسكري الانتقالي ومجلس الوزراء في اجتماع مشترك، على أن يخضع أيُّ تعديل رغم تنفيذه، للاستفتاء المشار إليه في قانون الحكم الذاتي للإقليم الجنوبي متى ما كان ذلك ممكنا.”  

وهكذا قرّرت حكومة انتفاضة أبريل إعادة الحياة لاتفاقية أديس أبابا لعام 1972، من جانبٍ واحد. كان قرار إحياء اتفاقية أديس أبابا قراراً أحادياً من حكومة الانتفاضة، رفضته الحركة الشعبية صراحةً في رسالة الدكتور جون قرنق إلى السيد رئيس الوزراء التي أوضح فيها أن المشكلة هي مشكلة السودان وليست مشكلة جنوب السودان. 

كما لا بُدّ من ملاحظة التعديل الخفي لاتفاقية أديس أبابا بواسطة الدستور الانتقالي. فبينما نصّت الاتفاقية بوضوحٍ على أن تعديل الاتفاقية يحتاج إلى موافقة ثلثي مواطني الجنوب في استفتاء عام يُجرى في المديريات الجنوبية الثلاثة للسودان، أشار الدستور إلى عقد الاستفتاء “متى كان ذلك ممكناً.” وهذا بالطبع يجعل من الاستفتاء أمراً تقديرياً تقرّر الحكومة وحدها إمكانية عقده أو عدم عقده، ولم يعد ضرورةً قانونية. ومن الواضح أن هذا تعديلٌ جوهريٌ لاتفاقية أديس أبابا، تمّ اعتماده بواسطة مجلس الوزراء والمجلس العسكري الانتقالي، ودون اتباع الإجراءات التي نصّت عليها الاتفاقية نفسها للقيام بمثل ذلك التعديل، ودون التشاور مع الحركة الشعبية (الطرف الآخر للاتفاقية)، دعك من الاتفاق معها. وكان هذا مثالاً آخر لاستخفاف حكومة انتفاضة أبريل بقضية الجنوب. 

وقد أوضحتْ موادُ الدستور تلك، وطريقةُ وكيفيةُ إعداده، هيمنةَ الإسلاميين على حكومة الانتفاضة والمجلس العسكري الانتقالي، وضمور، إن لم نقل انتهاء، دور التجمّع الوطني الذي قاد انتفاضة أبريل. 

كما أصبح واضحاً أن إصدار دستور عام 1985 في 10 أكتوبر من ذلك العام، متضمّناً تلك المواد عن الشريعة الإسلامية وقضية الجنوب، كان السبب الرئيسي لعدم ردِّ الدكتور قرنق على رسالة السيد رئيس الوزراء المؤرخة 10 نوفمبر عام 1985 (كما ذكر الدكتور قرنق بنفسه). فالدستور قد صدر، ووضعَ وأطّرَ أسسَ حكم البلاد، بما فيها جنوب السودان. وقد جعل الدستور من هذه الأسس الدستورية أمراً واقعاً، وأكد بقاء قوانين سبتمبر، دون نقاشٍ أو اتفاقٍ مع الحركة الشعبية، فما الذي تبقّى للمؤتمر المقترح؟ كما يُلاحظ أن رئيس الوزراء قام بالردِّ على رسالة الدكتور قرنق بعد شهرٍ من صدور الدستور. أي أن رئيس الوزراء قد انتظر صدور الدستور ثم قام بالرد على الدكتور قرنق بعد ذلك. 

وكان الدكتور قرنق قد أدلى بعدّة تصريحاتٍ بعد توقّف الرسائل مع رئيس الوزراء أعلن فيها أن السيدين رئيس المجلس العسكري الانتقالي ورئيس الوزراء كليهما من اتباع جبهة الميثاق الإسلامي، وأنهما يأتمران بأوامرها وينفذان توجيهاتها. 

موقف حكومة انتفاضة أبريل من لقاء وإعلان كوكادام 

انعقد لقاء كوكادام في إثيوبيا بين ممثلين للتجمع الوطني وبعض الأحزاب السياسية الشمالية مع الحركة الشعبي لتحرير السودان في شهر مارس عام 1986. وقد قاطعت الجبهة القومية الإسلامية والحزب الاتحادي الديمقراطي اللقاء، وتنصّل حزب الأمة من الإعلان حال رجوع وفده للخرطوم. وقد شنَّ إعلام الإسلاميين هجوماً شديداً على لقاء كوكادام أرعب حزبي الأمة والاتحادي الديمقراطي فاتخذا ذلك الموقف السلبي من اللقاء. 

تغيّب عن لقاء كوكادام الفريق سوار الذهب رئيس المجلس العسكري، وكذلك الدكتور الجزولي دفع الله رئيس الوزراء، ولم يكلفا نفسيهما حتى مشقة إرسال من يمثل أيٍ منهما في ذلك اللقاء. كانت تلك إشارةً واضحة عن رأيهما السالب في اللقاء. 

لا بُدَّ من التذكير أن إعلان كوكادام الذي وقّعَ عليه التجمع الوطني لإنقاذ الوطن مع الحركة الشعبية في مارس عام 1986 كان قد نصَّ على: 

(ج) إلغاء قوانين سبتمبر 1983 وكل القوانين المقيّدة للحريات. 

(د) العمل بدستور 1956 المعدّل عام 1964 مع إضافة “الحكم الإقليمي” وأية مسائل أخرى تتفق عليها القوى السياسية. 

ولم تبدِ حكومة انتفاضة أبريل أي اهتمام بذلك الإعلان، ولم تكلف نغسها حتى عبء التعليق عليه. 

كما أن الحرب التي قامت انتفاضة أبريل من أجل إنهائها زادت استعاراً، ووصلت أصوات المدافع وطلقات البنادق وقصف الطائرات المدن الكبرى في جنوب السودان. 

تمدّدُ وتزايدُ نفوذ الإسلاميين في الفترة الانتقالية 

تمدّد في الفترة الانتقالية – تحت سمع وبصر وحماية حكومة الانتفاضة – نفوذ الإسلاميين وتزايد في القطاع الاقتصادي، وأصبحوا المحتكر الأكبر للسلع الرئيسية استيراداً وتصديراً – يحددون وجودها وعدمه، وأسعارها، كما يشاءون. وغطّى نفوذ الإسلاميين جلَّ النظام المصرفي، ووسائل الإعلام من صحفٍ وإذاعات وتلفزيون، لتصبحا تحت سيطرتهم الكاملة. 

ثم شرعوا في إعداد قانون انتخاباتٍ فصّلوا فيه الدوائر الجغرافية، وكذلك دوائر الخريجين، حسب الخطة التي نظموا أنفسهم لها. وأصبح الترشيح والتصويت لدوائر الخريجين على مستوى المديريات وليس مركزياً كما كان في الانتخابات السابقة. وقد فاز الإسلاميون نتيجة ذلك الإعداد الذي عكسه قانون الانتخابات على 23 مقعداً من أصل 28 مقعداً لدوائر الخريجين فيكيفَ ولماذا نجحَ الإسلاميون في إجهاضِ انتفاضةِ أبريل 1985؟

دروسٌ لثورةِ ديسمبر 2018د
05-05-2019 03:57 AM
د. سلمان محمد أحمد سلمان 

مقدمة 

مضى نحو ثلثِ قرنٍ من الزمان منذ أن نجح الإسلاميون في إجهاض انتفاضة أبريل عام 1985، ووأد المطالب والمبادئ النبيلة التي اندلعت الانتفاضة من أجلها، والتي قدم أبناء وبنات الشعب السوداني الأرواح والدماء في سبيلها – الحل السلمي لقضية الجنوب، وإلغاء قوانين سبتمبر 1983 وعودة الديمقراطية والمواطنة والحريات الأساسية. 

يحاول الإسلاميون وبجهدٍ خارقٍ ومساعداتٍ بلا حدود من حركة الإخوان المسلمين العالمية ودول الجوار تكرارَ ذات المسرحية، واختطاف ثورة ديسمبر 2018 وإفراغها من مضمونها ومبادئها ومطالبها، ومواصلة التمسك بالسلطة وحماية انفسهم من المحاسبة على جرائم القتل والتعذيب والفساد المالي غير المسبوق. 

ولكي نسيرَ بثورةِ ديسمبر 2018 إلى غاياتها النبيلة – حرية، سلام وعدالة – فلا بُدَّ من دراسةٍ متأنية للأسباب التي أدّت إلى نجاح الإسلاميين في اختطاف انتفاضة أبريل وإفراغها من مبادئها وغاياتها، والتصدّي لتلك الأسباب بعنايةٍ وجِدّية حتى لا تتكرر تلك المأساة مرةً ثانية بأية صورةٍ من الصور. 

المصالحة الوطنية مع نظام نميري عام 1978 

قادت الجبهة الوطنية التي تكوّنت من حزب الأمة والحزب الاتحادي الديمقراطي والجبهة القومية الإسلامية المصالحة الوطنية مع نظام نميري عام 1978. غير أن التردّد تجاه المصالحة ساد داخل حزبي الأمة والاتحادي الديمقراطي، فانشق الحزبان بين مؤيدٍ ومعارضٍ للمصالحة. وقد كان ذلك هو غاية ماتمناه الإسلاميون الذين عرضوا أنفسهم كحلفاء متماسكين يمكن لنميري الثقة بهم. انفرد اللإسلاميون نتيجة ذلك بالمعلب السياسي تحت غطاء وحماية نظام نميري ليبنوا تدريجياً امبراطوريتهم المالية الضخمة المتمثلة في البنوك والشركات الإسلامية، ودولتهم الإعلامية المتمثلة في عددٍ كبيرٍ من صحف الإثارة والكراهية. 

ثم ملأوا فراغ نظام نميري السياسي بقوانين سبتمبر 1983 والتي أعطتهم سيفاً حاداً وقاسياً استخدموه بشراسةٍ لإذلال وإهانة الشعب السوداني. 

ردّةُ فعل الإسلاميين تجاه انتفاضة أبريل 1985 

فوجئ الإسلاميون بانتفاضة أبريل عام 1985 ولكنهم استطاعوا تجميع صفوفهم بسرعة والقفز في الصفوف الأمامية للقوى السياسية المعارضة. وانبنت خطتهم على حيلتين. 

كانت الحيلة الأولى الإدعاء أنهم كانوا قد عارضوا نظام نميري في أواخر شهوره وأنهم بمعارضتهم تلك قد ساهموا في إضعاف النظام وإسهال مهمة إسقاطه. وقد ساعدهم في ذلك الإدعاء الخبيث إعلامهم الابتزازي الذي كانوا قد غطّوا به الساحة السياسية. 

وكانت الحيلة الثانية هي التخويف من الشيوعية والعلمانية وأن الدكتور جون قرنق سيصل الخرطوم بجيوشه متحالفاً مع قوى اليسار لإسقاط الدولة الإسلامية وإنهاء عروبة وإسلامية السودان، وسوف تصل مع الدكتور قرنق إسرائيل والصليبيون والصهاينة. 

وكان الهدفان الرئيسيان والعاجلان للحركة الإسلامية هما الوقوف بقوة ضد أية محاولة لإلغاء قوانين سبتمبر، ووقف أي تفاوضٍ يقود لحلٍ سلميٍ لقضية الجنوب. كان الإسلاميون يدركون أن بقاء قوانين سبتمبر سوف يعني تلقائياً إجهاض مطالب الانتفاضة لدولة الحرية والسلام والعدالة والمواطنة في السودان، وبقاء تسلّطهم واستبدادهم. وكانوا يعون أيضاً أن حل مشكلة الجنوب لن يتم بدون إلغاء قوانين سبتمبر. 

ولكي يتم تحقيق هذين الهدفين فقد كان من الضروري للحركة الإسلامية أن تصل وبسرعة إلى مركب القيادة الجديد. 

اختطاف الإسلاميين لمركب قيادة انتفاضة أبريل 

نجح الإسلاميون في شغل الرأي العام والساحة السياسية في جدلٍ عقيم حول دور الإسلاميين في إسقاط نظام نميري، وبدأوا في تنفيذ برنامجهم الذي انبنى على احتواء الانتفاضة من الداخل، من خلال استلام المجلس العسكري ومجلس الوزراء، بتعيين وفرض قياداتهم العسكرية والمدنية للمجلسين. 

تمثل نجاحهم الأول في فرض المشير سوار الذهب، وزير دفاع نميري وأحد قيادات الحركة الإسلامية، لرئاسة المجلس العسكري. 

وكان النجاح الثاني هو فرض الدكتور الجزولي دفع الله المعروف بميوله الإسلامية رئيساً للوزراء. وأضافوا لنجاحههم ذاك تمثيل بعض الأحزاب في مجلس وزراء الانتفاضة بوزراء يدينون بالولاء للحركة الإسلامية أكثر من ولائهم لحزبهم الذي وضعهم في ذلك المنصب. 

وبتلك التركيبة للمجلس العسكري ومجلس الوزراء فقد بات واضحاً أن المجلسين سوف يتصديان لأية محاولات لإلغاء قوانين سبتمبر، ووقف أيّةِ اتصالاتٍ ومفاوضاتٍ لحلٍ سلميٍ لقضية الجنوب. 

اتصالات حكومة انتفاضة أبريل مع الحركة الشعبية: 

رسالة اللواء عثمان عبد الله إلى الدكتور جون قرنق 

بدأت الاتصالات بين الحكومة الجديدة الانتقالية التي ترأّسها الدكتور الجزولي دفع الله مع الدكتور جون قرنق بعد أسابيع قليلة من تشكيل الحكومة في شهر أبريل عام 1985. فقد كتب اللواء عثمان عبد الله وزير الدفاع في الحكومة الانتقالية في 27 مايو عام 1985 رسالةً إلى الدكتور جون قرنق خاطبه فيها بكلمتي “صديقي جون.” وقد ذكّرتْ الرسالةُ الدكتور جون قرنق بالمعاناة التي يعيشها الشعب السوداني، وأوضحت أن انتفاضة أبريل التي أطاحت بالنظام الدكتاتوري لم تحقّق أهدافها بعد بسبب نزيف جروح الحرب في جنوب السودان. 

أضافت الرسالة أن البلاد كانت تتوقّع عودة الدكتور جون قرنق للسودان مباشرةً بعد نجاح الانتفاضة ليساهم في التحوّلات الجديدة في البلاد، لأنها لا تعتقد أن الدكتور قرنق يحارب كمتمردٍ، بل من أجل تحقيق الوحدة الوطنية وتحسين أوضاع السودانيين في الشمال والجنوب. اختتم اللواء عثمان عبد الله الرسالة بعرضه مقابلة الدكتور قرنق في أيِّ مكان وزمان لمناقشة مسائل أمن واستقرار البلاد، موضّحاً أن ما يجمع الشعب السوداني في شطري البلاد هو أكثر مما يفرقهما. 

جاءت أول رسالة لدكتور قرنق من الحكومة الجديدة من وزير الدفاع، اللواء عثمان عبد الله الذي كانت تربطه علاقات صداقة بالدكتور جون قرنق. وكان الاعتقاد أن تلك العلاقة الوطيدة بين الرجلين، ومكانة اللواء عثمان عبد الله في الحكومة الجديدة، سوف تساعدان على بدء المفاوضات بين حكومة الانتفاضة والحركة الشعبية. 

رسالة الدكتور الجزولي دفع الله للدكتور جون قرنق 

غير أنه تلتْ رسالة اللواء عثمان عبد الله بعد أقل من أسبوع من إرسالها، رسالةٌ أخرى في الفاتح من يونيو عام 1985 من رئيس الوزراء الدكتور الجزولي دفع الله إلى الدكتور جون قرنق. وقد تم إرسال الرسالة الثانية قبل وصول الرد من الدكتور قرنق على الرسالة الأولى. 

كان واضحاً أن الغرض من الرسالة الثانية هو تأكسد استلام الإسلاميين زمام المبادرة في التفاوض مع الحركة الشعبية، دون تدخل طرفٍ سياسيٍ أو عسكريٍ آخر، وإبعاد اللواء عثمان عبد الله من تلك الحلبة نهائياً. 

تحدّثت رسالة الدكتور الجزولي دفع الله عن انتفاضة أبريل وكيف تدخّل الجيش السوداني في اللحظات الحرجة من الانتفاضة ليقف بجانب الشعب مما ساهم في نجاح الانتفاضة، وأوضحت أن من مهام الحكومة الجديدة حلُّ مشكلة الجنوب. تضمّنت الرسالة ما أسمته أفكاراً للنقاش وشملت عرضاً بالعودة إلى اتفاقية أديس أبابا للحكم الذاتي للجنوب لعام 1972. 

وكأن هذه العموميات ومحاولة بثّ الحياة في روح اتفاقية أديس أبابا لم تكن كافيةً لإثارة الدكتور قرنق ولإغلاق باب التفاوض الذي لم ينفتح بعد، فقد مضت الرسالة لتقول إنه على الرغم من أن مشكلة الجنوب لم تبدأ بالقوانين الإسلامية، إلّا أن السيد رئيس الوزراء يُقدّر آثارها، ويعتقد أنه إذا تمّ الاتفاق على المسائل الأخرى فإن مسألة القوانين الإسلامية لن تكون حجرَ عثرة في طريق الاتفاق، وأنه يمكن الوصول إلى حلٍ لأن هذه القوانين هي موضع نقاش. 

في حقيقة الأمر فلم تكن تلك القوانين موضع نقاشٍ إطلاقاً للدكتور الجزولي دفع الله الذي رفض حتى وضعها في أجندة اجتماعات مجلس وزرائه. 

الأسوأ من هذا أن السيد رئيس الوزراء ذكّر الدكتور جون قرنق أن الشعب في جنوب السودان يعاني من نقصٍ في المواد الغذائية، وأن أعداداً من المواطنين هناك يموتون من الجوع، وأنه من الضروري وقف القتال حتى يصل العون الإنساني إلى من يحتاجونه. وقد حاولت تلك الفقرة أن ترسل إلى الدكتور قرنق وإلى من يقرأون الرسالة أن حكومة الدكتور الجزولي دفع الله أكثر اهتماماً بحياة أبناء الجنوب واحتياجاتهم الأنسانية من الدكتور قرنق وحركته الشعبية التي كانت تحارب من أجلهم. 

في نهاية الرسالة أوضح السيد رئيس الوزراء أنه مستعد لإرسال وفدٍ لمقابلة الدكتور قرنق في أيِّ مكان لبدء حوارٍ مع الحركة الشعبية. 

من الواضح أن الغرض من تلك الرسالة كان وضع شروط مسبقة يعلم الإسلاميون تمام العلم رفض الدكتور قرنق التام لها، وبالتالي إنهاء الحوار قبل أن يبدأ. فقد واصلتْ الرسالة الحديث عن مشكلة جنوب السودان وعرضتْ العودةَ إلى اتفاقية أديس أبابا بينما كانت الحركة الشعبية قد أعلنت برنامجها في يوليو عام 1983، أي قبل حوالي العامين من الرسالة، موضحةً أن المشكلة لم تعدْ مشكلة جنوب السودان، بل هي مشكلة السودان ككل. كما أن ميثاق الحركة الشعبية كان قد أعلن موت اتفاقية أديس أبابا، وإحلالها بالسودان الجديد. 

تعرّضت الرسالة إلى مسألة الدين والدولة بصورةٍ فيها الكثير من الاستخفاف بالدور الذي لعبته مسألة الدين والدولة في مشكلة جنوب السودان، وكان هناك الكثير من التعميم والمراوغة في مواجهتها. 

كما أن إخطار دكتور قرنق بالمجاعة في الجنوب، والتضرّع إليه بوقف القتال حتى يصل العون الإنساني إلى شعب الجنوب، الذي يحارب الدكتور قرنق وجيشه من أجلهم، لا بد أن تكون قد أعطت الانطباع أن الحكومة في الخرطوم تحاول أن تبدو مهتمةً بأحوال المواطنين الجنوبيين أكثر من الحركة الشعبية لتحرير السودان التي قامت وتحارب من أجلهم. ولا بُدَّ أن دكتور قرنق قد قرأ هذه الفقرة من رسالة رئيس الوزراء كإهانةٍ شخصيةٍ له. 

كما يُلاحظ أن السيد رئيس الوزراء قد عرض إرسال وفدٍ لمقابلة الدكتور قرنق في أيِّ مكان لبدء حوارٍ جاد، بدلاً من أن يعرض عليه مقابلته هو شخصياً. 

كان غريباً أن تأتي رسالة السيد رئيس الوزراء للدكتور قرنق بعد أربعة أيامٍ فقط من رسالة اللواء عثمان عبد الله وزير الدفاع. كما أن الرسالتين لا بد أن تكونا قد أثارتا السؤال عن لماذا لم تأتِ هذه الرسائل من الفريق سوار الذهب رئيس المجلس العسكري الانتقالي؟ 

ردُ الدكتور جون قرنق على رسالة الدكتور الجزولي دفع الله 

كان ردُّ الدكتور قرنق على رسالة الدكتور الجزولي دفع الله، كما هو متوقّع، حاداً وغاضباً، وكان تاريخ خطابه الفاتح من سبتمبر عام 1985. أشار رد الدكتور قرنق أن رسالة رئيس الوزراء وصلته في 25 يونيو، أي بعد قرابة الشهر من إرسالها. 

أوضح ردّ الدكتور قرنق أنه على العكس من دعاية وادعاءات المجلس العسكري الانتقالي فإن الحركة الشعبية كانت دائماً تدعو للحوار. وانطلاقاً من هذه النقطة فقد شنّ الردُّ هجوماً عنيفاً على المجلس العسكري الانتقالي، ووصفه بأنه امتدادٌ لنظام نميري، واتهمه بتصعيد الحرب والدمار والموت في الجنوب في نفس الوقت الذي كان المجلس يتحدّث عن التفاوض والحوار. ذكّر ردُّ الدكتور قرنق أن جنرالات المجلس العسكري الانتقالي هم الذين أداروا الحرب في الجنوب وصعّدوها منذ عام 1983، ولا يمكن أن يقودوا السودان ويتحدثوا عن السلام عام 1985. 

وطالب الردُّ بتسليم المجلس لصلاحياته إلى المدنيين الذين قادوا الانتفاضة على نظام نميري وحربه الغاشمة في جنوب البلاد، وأن يدير البلاد مجلسٌ سياديٌ مدني ومجلس وزراء مدني أيضاً يمثل قادة انتفاضة أبريل الحقيقيين. 

طالب ردُّ الدكتور قرنق بضرورة أن تلتزم الحكومة السودانية علناً بمناقشة مشكلة السودان، وليس مشكلة جنوب السودان، في مؤتمرٍ وطنيٍ جامع يناقش نظام الحكم في الخرطوم وأقاليم السودان. 

لكن الدكتور قرنق اشترط الاستجابة لمجموعة من المطالب قبل عقد هذا المؤتمر منها رفع حالة الطوارئ، وإلغاء قوانين سبتمبر، واتفاقيتي الدفاع المشترك مع مصر وليبيا. اختتم الدكتور جون قرنق رسالته بتأكيده أن الحركة على استعداد لحضور هذا المؤتمر الوطني حال الاستجابة لهذه الشروط الثلاثة. 

رد الدكتور الجزولي دفع الله على رسالة الدكتور جون قرنق 

قام رئيس الوزراء الدكتور الجزولي دفع الله بالرد على رسالة الدكتور جون قرنق في 10 نوفمبر عام 1985، أي بعد أكثر من سبعين يوماً من تاريخ الرسالة. ولا بد من التساؤل: لماذا أخذ رد رئيس الوزراء كل ذلك الزمن؟ 

بدأ الرد بالقول إن المجلس العسكري الانتقالي ومجلس الوزراء قد تمّ تشكيلهما بعد إجماعٍ عريض من القوى السياسية التي قادت الانتفاضة ووقّعت على الميثاق الوطني (التجمع الوطني لإنقاذ الوطن). أوضحت الرسالة استعداد الحكومة للنظر في مسألة رفع حالة الطوارئ قبل انعقاد المؤتمر. غير أن الرسالة تعثّرت وارتبكت في مطلب إلغاء قوانين سبتمبر. فقد أشارت الرسالة إلى أن هذا المطلب يمكن مناقشته في المؤتمر الوطني المقترح. 

لم يقم الدكتور قرنق بالرد على تلك الرسالة والحركة الشعبية. كان واضحاً أن المسافة التي تفصل الطرفين صارت كبيرةً، والأمور العالقة معقّدةً. وقد زاد من ذلك التعقيد تصعيد الحرب في جنوب السودان، ثم صدور دستور السودان لعام 1985 خلال فترة تبادل الرسائل. 

دستور السودان لعام 1985 وقوانين سبتمبر 

في تلك الأثناء كان دستور السودان الانتقالي قد تمّ إعداده والموافقة عليه بواسطة مجلس الوزراء، ثم تمّ اعتماده وإجازته بعد ذلك بواسطة المجلس العسكري الانتقالي. وقد وقّع كل أعضاء المجلس العسكري على الدستور في 10 أكتوبر عام 1985، ودخل الدستور حيز النفاذ في نفس ذلك اليوم. ولم يكن هناك أي دورٍ للتجمع الوطني في تلك المهمة. بل إنه لم تتم حتى استشارة التجمع في مسودة الدستور. 

وقد نصّت المادة 4 من الدستور على أن “الشريعة الإسلامية والعرف مصدران أساسيان للتشريع، والأحوال الشخصية لغير المسلمين يحكمها القانون الخاص بهم.” 

هكذا أكّدت ورسّخت تلك المادة من دستور عام 1985 بقاء قوانين سبتمبر التي كانت انتفاضة أبريل قد طالبت بإلغائها. 

وقد سَمّى الدستور في عدّة مواد الانتفاضة التي أطاحت بحكومة نميري “ثورة رجب” وليس “انتفاضة أبريل”، ليؤكّد التوجّه الإسلامي للحكومة الانتقالية. 

وهكذا حسم الدستور مسألة قوانين سبتمبر وحقوق المواطنة وقضايا الحرية والديمقراطية في السودان، ونسف مطالب وأحلام انتفاضة أبريل عام 1985 باستعادة الديمقراطية والحريات الأساسية والمواطنة وحل قضية الجنوب. 

دستور السودان لعام 1985 واتفاقية أديس أبابا 

نصّت المادة 16 من دستور السودان لعام 1985 على الآتي: “يقوم نظام الحكم الذاتي الإقليمي فـي الإقليم الجنوبي على أساس السودان الموحّد وفقاً لقانون الحكم الذاتي الإقليمي للمديريات الجنوبية لسنة 1972م أو أيّة تعديلات يجيزها ثلثا أعضاء المجلس العسكري الانتقالي ومجلس الوزراء في اجتماع مشترك، على أن يخضع أيُّ تعديل رغم تنفيذه، للاستفتاء المشار إليه في قانون الحكم الذاتي للإقليم الجنوبي متى ما كان ذلك ممكنا.”  

وهكذا قرّرت حكومة انتفاضة أبريل إعادة الحياة لاتفاقية أديس أبابا لعام 1972، من جانبٍ واحد. كان قرار إحياء اتفاقية أديس أبابا قراراً أحادياً من حكومة الانتفاضة، رفضته الحركة الشعبية صراحةً في رسالة الدكتور جون قرنق إلى السيد رئيس الوزراء التي أوضح فيها أن المشكلة هي مشكلة السودان وليست مشكلة جنوب السودان. 

كما لا بُدّ من ملاحظة التعديل الخفي لاتفاقية أديس أبابا بواسطة الدستور الانتقالي. فبينما نصّت الاتفاقية بوضوحٍ على أن تعديل الاتفاقية يحتاج إلى موافقة ثلثي مواطني الجنوب في استفتاء عام يُجرى في المديريات الجنوبية الثلاثة للسودان، أشار الدستور إلى عقد الاستفتاء “متى كان ذلك ممكناً.” وهذا بالطبع يجعل من الاستفتاء أمراً تقديرياً تقرّر الحكومة وحدها إمكانية عقده أو عدم عقده، ولم يعد ضرورةً قانونية. ومن الواضح أن هذا تعديلٌ جوهريٌ لاتفاقية أديس أبابا، تمّ اعتماده بواسطة مجلس الوزراء والمجلس العسكري الانتقالي، ودون اتباع الإجراءات التي نصّت عليها الاتفاقية نفسها للقيام بمثل ذلك التعديل، ودون التشاور مع الحركة الشعبية (الطرف الآخر للاتفاقية)، دعك من الاتفاق معها. وكان هذا مثالاً آخر لاستخفاف حكومة انتفاضة أبريل بقضية الجنوب. 

وقد أوضحتْ موادُ الدستور تلك، وطريقةُ وكيفيةُ إعداده، هيمنةَ الإسلاميين على حكومة الانتفاضة والمجلس العسكري الانتقالي، وضمور، إن لم نقل انتهاء، دور التجمّع الوطني الذي قاد انتفاضة أبريل. 

كما أصبح واضحاً أن إصدار دستور عام 1985 في 10 أكتوبر من ذلك العام، متضمّناً تلك المواد عن الشريعة الإسلامية وقضية الجنوب، كان السبب الرئيسي لعدم ردِّ الدكتور قرنق على رسالة السيد رئيس الوزراء المؤرخة 10 نوفمبر عام 1985 (كما ذكر الدكتور قرنق بنفسه). فالدستور قد صدر، ووضعَ وأطّرَ أسسَ حكم البلاد، بما فيها جنوب السودان. وقد جعل الدستور من هذه الأسس الدستورية أمراً واقعاً، وأكد بقاء قوانين سبتمبر، دون نقاشٍ أو اتفاقٍ مع الحركة الشعبية، فما الذي تبقّى للمؤتمر المقترح؟ كما يُلاحظ أن رئيس الوزراء قام بالردِّ على رسالة الدكتور قرنق بعد شهرٍ من صدور الدستور. أي أن رئيس الوزراء قد انتظر صدور الدستور ثم قام بالرد على الدكتور قرنق بعد ذلك. 

وكان الدكتور قرنق قد أدلى بعدّة تصريحاتٍ بعد توقّف الرسائل مع رئيس الوزراء أعلن فيها أن السيدين رئيس المجلس العسكري الانتقالي ورئيس الوزراء كليهما من اتباع جبهة الميثاق الإسلامي، وأنهما يأتمران بأوامرها وينفذان توجيهاتها. 

موقف حكومة انتفاضة أبريل من لقاء وإعلان كوكادام 

انعقد لقاء كوكادام في إثيوبيا بين ممثلين للتجمع الوطني وبعض الأحزاب السياسية الشمالية مع الحركة الشعبي لتحرير السودان في شهر مارس عام 1986. وقد قاطعت الجبهة القومية الإسلامية والحزب الاتحادي الديمقراطي اللقاء، وتنصّل حزب الأمة من الإعلان حال رجوع وفده للخرطوم. وقد شنَّ إعلام الإسلاميين هجوماً شديداً على لقاء كوكادام أرعب حزبي الأمة والاتحادي الديمقراطي فاتخذا ذلك الموقف السلبي من اللقاء. 

تغيّب عن لقاء كوكادام الفريق سوار الذهب رئيس المجلس العسكري، وكذلك الدكتور الجزولي دفع الله رئيس الوزراء، ولم يكلفا نفسيهما حتى مشقة إرسال من يمثل أيٍ منهما في ذلك اللقاء. كانت تلك إشارةً واضحة عن رأيهما السالب في اللقاء. 

لا بُدَّ من التذكير أن إعلان كوكادام الذي وقّعَ عليه التجمع الوطني لإنقاذ الوطن مع الحركة الشعبية في مارس عام 1986 كان قد نصَّ على: 

(ج) إلغاء قوانين سبتمبر 1983 وكل القوانين المقيّدة للحريات. 

(د) العمل بدستور 1956 المعدّل عام 1964 مع إضافة “الحكم الإقليمي” وأية مسائل أخرى تتفق عليها القوى السياسية. 

ولم تبدِ حكومة انتفاضة أبريل أي اهتمام بذلك الإعلان، ولم تكلف نغسها حتى عبء التعليق عليه. 

كما أن الحرب التي قامت انتفاضة أبريل من أجل إنهائها زادت استعاراً، ووصلت أصوات المدافع وطلقات البنادق وقصف الطائرات المدن الكبرى في جنوب السودان. 

تمدّدُ وتزايدُ نفوذ الإسلاميين في الفترة الانتقالية 

تمدّد في الفترة الانتقالية – تحت سمع وبصر وحماية حكومة الانتفاضة – نفوذ الإسلاميين وتزايد في القطاع الاقتصادي، وأصبحوا المحتكر الأكبر للسلع الرئيسية استيراداً وتصديراً – يحددون وجودها وعدمه، وأسعارها، كما يشاءون. وغطّى نفوذ الإسلاميين جلَّ النظام المصرفي، ووسائل الإعلام من صحفٍ وإذاعات وتلفزيون، لتصبحا تحت سيطرتهم الكاملة. 

ثم شرعوا في إعداد قانون انتخاباتٍ فصّلوا فيه الدوائر الجغرافية، وكذلك دوائر الخريجين، حسب الخطة التي نظموا أنفسهم لها. وأصبح الترشيح والتصويت لدوائر الخريجين على مستوى المديريات وليس مركزياً كما كان في الانتخابات السابقة. وقد فاز الإسلاميون نتيجة ذلك الإعداد الذي عكسه قانون الانتخابات على 23 مقعداً من أصل 28 مقعداً لدوائر الخريجين في

 

Print Friendly, PDF & Email

عن laalaa

شاهد أيضاً

حزب المؤتمر السوداني تصريح صحفي

Share this on WhatsAppحزب المؤتمر السوداني تصريح صحفي طالعنا البيان المؤسف الصادر من سكرتارية اللجنة …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.