لايمكن أن يوصف حال وطني في هذه الفترة سوي أن الوطن يحتضر ، بل ويلفظ في أنفاسه الأخيرة ، ومن ثم يتحلل ويمسى جثةً هامدةً ، كأنما اختار لها صاحبها الموت بعيداً عن العالمين ، بلا هوية ، ولا أسرة ، ولا أهل ، فماتت بلادي موتاً اكلنيكياً داخل منزلها العامر بالخيرات ، المكتنز بكل ثروات الدنيا وفاحت رائحتها ؛ والجميع يتقزز ويتأفف من رائحتها ، عدا المستفيدين من اصحاب الميراث ، وكثير من الفاتحين أياديهم لنهب وسرقة الثروات ، وسحق الحقوق ، وذل الرجال ؛ فهؤلاء يمثلون المتسلطون المستبدون الذين لا يشتمون الا رائحة العملات الاجنبية ، والفلل الفندقية ، والقصور الملكية ، والمصانع المستقبلية في الدول الخارجية ، كل ذلك يحجب عنهم الروائح والمساويء ويشتمونها عنبراً ومسكاً ، فلم نسمع بميت اشتم رائحة جثته النتنة .
لقد أفقدتنا عصابة (البشير) بوصلة الإتجاه ، وكل المسارات التي نشاهدها ، هي في نظام عاري يتفاخر بعريه ، ويرقص بمآخذه ، ويسعي الجميع لإسقاطه وهو ساقط منذ أن جاء ، فثبتته الدسائس ودعمته الخبائث ، وحفنة تساقطت عليه من المطبلين والهوجاء ، حتي صار يستمد قوته من بيع وشراء لأصحاب النفوس الضعيفة ، فكون منهم جيوشاً من المارقين علي حق ، ونحن نتأسف علي انهم اخوتنا الجهلاء ، من الذين غيبتهم رغباتهم ومصالحهم الشخصية ، وأعمت عيونهم الأموال والنساء ، فصاروا ألعوبة بيد (البشير) وأزلامه المأفونين ، حتي غاب ميزان العدل في عقولهم ، واستوي الباطل مع الحق ، وأصبحوا يتنباؤن بمستقبل للبلاد ، مستقبل موحش اذا سقط الطاغية ، ومعه ثلة اختارت الواقع المعاش بفظائعه خيراً من القادم المبهم ، بعد أن إصابتهم ثورات الربيع العربي بخيبة أمل ، وطابع الانسان السوداني يعلمه الجميع بأننا شعب يعشق التقليد ، ويكره المغامرة ، ويتعظ من تجارب الآخرين ، بدون دراستها ومعرفة أسباب فشلها ، ولايبتكر ويعالج اخطاء الآخرين .
اما إذا تعمقنا في المعارضة السودانية ومفهوم الإستنارة لديها في التغيير ستجد المناقضات التي تدهشك ، فاغلبية المعارضين المستنيرين يبحثون عن تغيير بدون المساس بالدين أو نبذ القبلية ، فتجدها في افواهم مجرد شعارات يطلقونها ويريدون الجميع إتباعها الا هم واسرتهم ، ويؤمنون بالتأدب والتهذيب امام سارقي قوت الشعب ومغتصبى حرائره ، بذرائع العمر والسن والمكانة الاجتماعية ، وهذا ما يجعل من المستنريين يقعون في فخ التعاطف الاجتماعي ، وخير مثال لذلك هي : قضية (وئام شوقي ) الفتاة التي تحدثت عن معاناة المراة السودانية ومآساتها تجاه التحرش المستمر في الشارع العام ، وكسر خصوصيتها وطالبت بالمساواة في المعاملة وجل كلمتها في دقيقة ونصف امام رئيس هيئة علماء السودان ، الدكتور (محمد عثمان صالح) ، وكانت ثائرة صارخة بحقوقها وحقوق أخواتها ، فتركوا حقوقها علي جنب وتحدثوا عن ثورتها والمنهج الذي اتخذته في توصيل المعلومة ، ونسوا أو تناسوا أن هذه المطالب التي ذكرتها ترفع من أجلها السلاح وتدور فيها المعارك ، فالإنسان بالنسبة للمجتمع ما هو إلا مجموعة مطالب وحقوق وما عليه سوي بعضاً من الواجبات ، وهذا هو ميزان الوجود بمقياس الألوهية أو دنيوية.
والمثل السوداني بقول ( القال حقي غلب ) أن نظام البشير ومنسوبيه أغلقوا كل الأبواب الحميدة للمطالبة بالحقوق ، فالتأدب امام رجال يتخذون من الإسلام مطية للركوب علي ظهور الوطن والمواطنين أصبح نوعاً من الخضوع ، والمجتمع الذي يطالب بإحترام شخص يسرق الوطن باسم الدين ، ويكمم الأفواه باسم الدين ، ويسكن القصور الشاهقات باسم الدين ، ويملك الزوجات القاصرات مثني وثلاث ورباع باسم الدين ؛ وما ملكت إيمانهن من الباحثات عن عمل يطعمن به أطفالهن ، أو الطالبات اللاتي يفتقدن لنقود الجامعات ، فينكوين بنار الحوجة حتي يصبحن صاغرات لاشباه رئيس الهيئة العلماء ، فلا يمكنني أن احترمه واخفض صوتي أمامه ،
فجميعهم يتقمصون دور الوصايا علي أبناء الوطن ، وفوق هذا وذاك يكفيه خذياً وافكاً أن هيئته مررت قانون (فقه الضرورة وفقه التحلل) بلا حياء ولا إستحياء .
كثير منا ينادي بالدولة العلمانية أو المدنية أو الاشتراكية أو الفيدرالية ، حتي نتحرر من القيود المجتمعية ، والاستعباد الفكري ، ولكننا نحتاج أن نتحرر اولاً داخلياً ، بمعني ان تتحرر عقولنا من ازدواجية المعايير ، فتتساوي المقايس الفكرية المتزنة في بلورة معاني الديمقراطية ، ونسقط الظواهر المستأسدة في فطرتنا المشروخة ، ونمنح أنفسنا قبول كل الاراء ، ليبقي الاحترام مقروناً بالكفاءة والمؤهلات والتحصيل الأكاديمي والعلمي ، والقبول بمجتمع يعلو ميزان عدله فوق كل الموازين ، وهذا لن يتأتى طالما ان داخل كل مواطن سوداني داعشي كبير يحفر في عقله . فيجعلنا نؤمن بالتغيير كمضمون ونسعي للمساواة كفكرة ، ولكنها فكرة نطالب الآخرين بتطبيقها بعيداً عن مجتمعنا الداخلي أي داخل محيط (الأسرة والاهل) ، ولسان حالنا يقول : نحن سعداء داخل أسرنا طالما أننا مقدسون وأسياد في وسط زوجاتنا وأطفالنا ونحن هنا نشكل الآمر الناهي ! .
الشئ الذي يجب أن يفهمه المواطن السوداني هو : معاملتك لاسرتك تنعكس علي مجتمعك وممارستك للديمقراطية الأسرية هي إنعكاس طبيعي لممارسة الدولة ، ونحن فشلنا كسودانيين في تحرير عقولنا المجتمعية ، وعدم تقبلنا للحقائق التي تشوه إنتباه وسطنا ، فأصبحنا نغوص خارج الجرح كيما نعالجه وهو ملتهبً من الداخل ، حتي أمسي محتاجاً للبتر ، لقد إضمحلت المبادئ والقيم والمثل السودانية التي كنا نتفاخر بها كسودانين ، وتسيد مشهد المعارضة السودانية ثلة من الفاقد التربوي وزاحموا أصحاب الوعي والاستنارة ، فصاغوا معارضة جديدة متهافته مترهلة تسعي الي الثروة والسلطة ، وانزوي زمرة المسنيرين يناؤون بإنفسهم
بعيداً عن الرجرجة والدهماء ، الذين حرفوا المضمون وتمسكوا بالإطار .
إن صياغة وطن معافي لايكتسب بالتباكي علي الحقوق الضائعة ، والصراخ علي المظالم ، بل ينتزع إنتزاعاً بالإيمان ، والمواجهات المطلبية ، والتوحد لحل جذور القضية ، والإلتفاف علي المبادئ الثورية ، فلن تشرق شموس الأوطان الا بروح التساوي في الميزان …
#كسلا – تحتضر
وغداً السودان سيندثر
Ghalib Tayfour