الجمعة , أبريل 19 2024
ardeenfr
أخبار عاجلة
الرئيسية / أخبار لالا اليومية / قصة عن والى روح فاطمة السمحة ،، فى ذكراها العطرة ..

قصة عن والى روح فاطمة السمحة ،، فى ذكراها العطرة ..

البصقة الكبرى
صلاح احمد ابراهيم
حدثتنى : حين انتخبت نائبة فى البرلمان فى أواسط الستينات ، وكانت المرة الاولى تدخل برلماننا امرأة ، قوبل ذلك باستبشار لا سيما فى الأوساط النسائية . وقد أقيمت لى بهذه المناسبة احتفالات فى بعض عواصمنا الإقليمية . وهكذا كان على ان البى دعوة فرع اتحادنا النسائى بمدينة (ملكال)عاصمة اعالى النيل. وهناك أعد لى برنامج ، كان ماتضمنه زيارة بعض المرافق الحكومية فى المدينة.
ذات صباح كنت فى طريقى لزيارة مستشفى المدينةكما مرتباً لى ، حين استوقفني على جانب من الطريق المفضى الى المستشفى ، منظر طفل عار تماماً يقف تحت شجرة وهو يتراجف من البرد، وحين علمت انه طفل مشرد ، فقد اهله وما له من  عائل، يعيش كما اتفق ، وعليه تدبير معيشته بنفسه ، ومن ادارنى ربنا لم يتناول لقمة ذاك الصباح ، اصطحبته معى ريثما يستقر رأيى على حل له .امسكت براحته الطفلة ، وهو متوجس منى وممن كان برفقتى ، ومن ذلك الاهتمام الذى لم يكن يتوقعه او لقيه من قبل ، ولكن الذين كانوا باستقبالى لدى المستشفى،  طلبوا منى تركه عند المدخل ريثما ننتهى من طوافنا على شتى الأقسام حتى لايكون الطفل عائقاً لنا . أعربت لهم عن خشيتى من هروب الولد فى غيابنا ، اذ لم يكن الطفل على مايبدو واثقاً حتى تلك اللحظة ما اذا كان يراد به خيراً او شر . طمأنونى بأنهم سيوكلونه لمن سيعتنى به خلال جولتنا ، وان مخاوفى من هربه لامكان لها وسأرى .
حين رجعت لم اجده . فالذين أوكل اليهم أمره انشغلوا عنه بما كان أمامهم ، فانتهز الولد الفرصة ونجا بنفسه من الاهتمام والمجهول .بحثوا عنه بلا جدوى هنا وهناك وأنا انتهرهم بقلق ولهفة وغضب، اين الولد ؟اين الولد؟ الم تعدونى. بالعناية به ، لماذا أهملتم فيه لماذا ؟ لماذا ؟ .
كان الطفل كمن انشقت الارض وابتلعته . هذا ماتوقعته وخشيته وحذرتهم منه . عاودتني صورته واقفآ تحت الشجرة يرتجف كقصبه هشة في مهب الريح ، كقطيطة صغيرة مقرورة، بلا حول أو حماية، عرضه لكل استباحات  الطبيعية  والبشر . لم أتحمل تلك الصورة قط لم اتحملها ،لم اتحملها . وانفجرت باكية يجهش بدني كله بالبكاء صارخة فيهم بحرقه وغيظ : لماذا كذبتم علي ؟ لماذا غفلتم عنه ؟ لماذا تركتموه يهرب ؟ أين راح ؟ أين راح ؟ أين ذهب ؟ أجهشت بحرقه وصورة الطفل العاري المرتجف بالبرد ، الجائع صباحآ ، الذي ليس له من راع الا الله ، لا تبرح عيني .
وجموا وجحظت الأعين من محاجرها . آخر ماكانو يتوقعونه ان تنفجر حضرة النائبة المحترمه باكية هكذا ، علانيه أمام الجميع باعلى صوتها وكل بدنها بهذه الصورة ، وكأنها فقدت عزيزآ لديها . وكل ذلك من أجل طفل متشرد لا تعرفه كانوا يمرون به وربما بأمثاله من يوم ليوم . أخذوا يعتذرون بحرارة عن إهمالهم ، والنائبة من بعد سلطه . وعدوني بالبحث عنه والعثور عليه ، فالمدنية ليست من الضخامة بحيث يختفى فيها مثل ذلك الطفل طويلا . بهذا الوعد المؤكد هدأت قليلا ومسحت دموعي وانصرفت وأنا في غايه الإغتمام.
في المساء ، قيل لي ان ثمه من يريد لقاءك علي انفراد بالمدخل . كانت قابلة جنوبية ممن التقيت بهن في المستشفي صباحآ . همست ، بعد أن تلفتت يمنة ويسرة لتطمئن : (( هناك متمردون يريدون مقابلتك ولكن وحدك ، فهل توافقين ؟)) وافقت بلا تردد .
قال لى منظمو زيارتى انها مجازفة غير مأمونة العواقب، فأنت نائبة ولايعلم احد مايمكن ان يمر ببالهم، ثم انت امرأة شمالية وستكونين وحدك معهم فى مكان مجهول. لا لا . لن نسمح لك بالمغامرة بالذهاب .ثم ماجدوى الذهاب حيث هم ؟ اعتذرى لهم اعتذرى )) على أننى بمقدار إصرارهم على عدم ذهابى ، أصررت على الذهاب صبيحة الغد حسب الاتفاق مؤكدة بان لن يصيبنى اى ضرر .ازاء عنادى وتصلبى ، حملونى مسؤولية ما انا مقدمة عليه، وأيديهم على قلوبهم يرونها حماقة منى، حماقة غير مأمونة العواقب .
فى صباح الغد ، كنّا فى طريقنا خارج ((ملكال)) بسيارة اسعاف المستشفى الحكومى ومعى تلك القابلة . اخذنا طريقاً  متعرجاً ولج بى الغابة المتاخمة، طريقاً طويلاً غير معبد، لم أحسبه سينتهى.  وأخيراً وصلنا الى قرية مخبوءة فى مكان ما من تلك الغابة. وجدنا فى استقبالنا بعض شباب يرتدون القميص والبنطلون ، بعد التحية والترحيب . اخذوا يطوفون بى قطية الى قطية * الواحدة بعد الاخرى . لم تقع عينى طوال حياتى كلها على قدر من الادقاع والبؤس  والسل والهزال كالذى رايته فى تلك القرية المجهولة. ما ان انتهينا من طوافنا على مساكن القرية-ذلك الطواف الذى ملا نفسى غماً وتعاسة – حتى ذهبوا بى الى احدى القطاطى حيث جلسنا نتحدث ، انا وأولئك الشبان .
قالوا لى : انت اول سياسى  من الشمال نراه يبكى من اجل طفل جنوبى. نحن على اقتناع بان بكاءك لم يكن بكاءاً سياسياً ولكنه صادر من القلب، وهذا مايشعرنا نحوك بالتصديق والاحترام ، ولكنك تعرفين ان البكاء لا يحل مشكلة
( بكا مايهل مشكلة – هكذا نطقوها، ولابأس ) أجبتهم باننى اعى تماما ان البكاء لايحل مشكلة ، ولكن ما لهذا ابكى.ابكى لاننى انا هكذا ، لايمكن لى ان ارى بؤس بشرى واتحمله ، فإذا بكيت فلأنها طبيعتى التى نشأت عليها ولا املك لها تغييراً. ثم كل شى ولا معاناة الاطفال وعذابهم. وفى نظرى لا معنى للعمل السياسى اذا لم يكن نابعاً من حب حقيقى للشعب ، ومقصوداً به رفع المعاناة عن الشعب ، اتركوا بكائي فهذا يخصنى ودعونا نتناقش فى مخرج اسرع لمحنة شعبنا وكيف يمكن ان نعمل معاً فى سبيل حل سليم بانجع الوسائل .هكذا بقينا طيلة ذاك النهار فى نقاش حثيث حول مختلف القضايا التى تهمنا جميعاً وكيف يمكن توحيد جهودنا، وتطوير اُسلوب التحاور فيما بيننا مستقبلاً، كان الوقت عصرً، وأحسست بتاخرى على الذين خافوا عقبى هذه المغامرة وحذرونى منها وعارضونى فيها، فربما ظنوا ان شراً لحق بى، ولهم الحق فيما فكروا فيه . عرفت ان سيارة الإسعاف  التى ستقلنى قد وصلت وبانتظارى عند مدخل القرية ، تحركنا نحوها معى أولئك الشباب المتعلم .
وإذ نحن فى طريقنا سمعنا من يصيح بِنَا من وراء يستوقفنا لامر ما . ماذا هناك ؟
قصدهم أحدأولئك الشبّان مستطلعاً، وعاد ليقول بأن ((كجور)) القراية يريد مباركتي .((الكجور )) هناك كما تعلم ، الكاهن التقليدي ومستودع الحكمة العتيقة ، والأب الروحي وسادن الطقوس . رأيته قادماً من بعد فهشّ له قلبي علم الله . فقد ذكّرني بأبي في شيخوخته . رجل طعن في السنّ ، معروق البدن ، أشيب الشعر ، بوجه كسته التجاعيد ، يمشى في مهل ووقار مستنداً على عصا طويلة ، يحيط به جمع من النساء والأطفال . حين وصل أمرني : أفتحي كفكّ !  فتحت يمناى ومددتها إليه كما طلب . أمسك بها مفتوحة هكذا وهو يهمهم بتعاويذ بلغته ، يرفع صوته حيناً ويخفضه حيناً  آخر .ثم فوجئت به يبصق بصقة لا أكبر منها في وسط راحتي . لاتحسبها مجرّد تفلة رمزيّة علي نحو ما ألفناه عندنا في الشمال عند التعويذ ، بل بصقة حقيقيّة زئبقيّة مستديرة تتلامع في وسط كفّي المدودة إليه والممسك هو بها في وسطها تماماً كالميعة الصغيرة .
القرية عن بكرة أبيها ، كبارا وصغاراً ، تقف حوالينا بما في ذلك الشبان الذين كنت أتناقش معهم سحابة  نهارنا ذاك . كان الجميع يراقبني ملياً باهتمام وتيقّظ وتحفّز ، يرصدون أيه ردّة فعل تندّ علي ملامح وجهي إزاء ماكان يقوم به كجورهم  .  أما أنا فقد آليت وبين نفسي ، مهما صدر من الرجل ألاّ أبدي امتعاضاً أو تقزازاً أو استغراباً ، أما قصدني الرجل بنيّة الخير ، لايريد لي من وراء ذلك غير البركة ؟ ثم ماالذي سيصيبني مّما يفعل ، إن هي إلا لحظات وتنتهي لا تستوجب غير صبر وحسن قبول . هكذا احنيت راسى لا أبدى حراكاً كالجبل. ماددة يدى فى طاعة وإذعان وتوقير ،راحتى المفتوحة وعليها بصقته الكبيرة تتوامض امام عينى وكأنها ليست هناك . لاحظتهم بمؤخرة عينى ومن طرف خفى ، فإذا بنظراتهم مثبة فى تلحظنى باهتمام وتركيز يحاولون استشفاف ماقد يخالجني من تأفف او ضيق او اشمئزاز . الامر الذى ضاعف عزيمتى على تحمل طقوس تلك المباركة بصبر وسعة صدر ، حتى أنهى الرجل تعاويذه . ابتسم العجوز فى عذوبة وقال لى :(( لاعليك يابنتى، الان أرمى هذا على الارض )) نفضت يدى وأخرجت منديلى امسح كفى عّما لصق بها من بلل مقدس ، وقد بان الارتياح والإعجاب على وجوه الجميع فقد مررت فى الامتحان دون ان اخذلهم ، ولعلهم بهذه اللحظات العابرة فقط، اعتبرونى واحدة منهم لا اكثر ولا اقل ، فاى شرف لى . وهكذا ودعونى بالود والبشاشة وظلوا واقفين مودعين طويلاً بعد تحرك سيارتنا حتى دلفنا الى أحشاء الغابة فى طريق العودة . حين وصلت استقبلتنى عيون ملؤها قلق وتوجس يتساءلون فى لهفة غير مصدقين : ما الذى جعلك تتاخرين هكذا ؟ هل تعرضوا لك بسوء؟ ما الذى حدث ؟ أجبتهم لم يحدث الا الخير . الم اوكد لكم انه لن يحدث ما حذرتمونى منه ؟ للشعب حس صادق لايخونه ، وفطانة لا تخذله اسوء ما يحدث لنا ان ننظر الى انفسنا واليه كشيئين  مختلفين ، والاسوء من ذلك ان نسمح لجهة ما ، او لشيء ما ان ينحشر ما بيننا ، بل وأسوأ من ذلك كله ان نتعالى عليه ، ونستهين بما لديه ، ونتقزز من أشيائه أيا كانت- كتلك البصقة الكبرى المتكومة على راحة يدى من شيخ ماتمنى لى بها الا البركة والتوفيق والحماية .

 

Print Friendly, PDF & Email

عن laalaa

شاهد أيضاً

حزب المؤتمر السوداني تصريح صحفي

Share this on WhatsAppحزب المؤتمر السوداني تصريح صحفي طالعنا البيان المؤسف الصادر من سكرتارية اللجنة …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.