جمال غلاب
انتظرت دوري بصبر و جلد و أخفيت الضيق الذي تنطق به ملامحي عادة عندما يتعلق الأمر بالوقوف في الطوابير الطويلة و الانتظار لمدة من الزمن غير معلومة. طالت المدة ففكرت في مغادرة هذه الساحة المزدحمة و الذهاب إلى مكان لا أضطر فيه للانتظار أو الوقوف أو ما شابه، لكن عدلت عن تنفيذ هذه الفكرة في آخر لحظة فقد تذكرت أنني فعلت ذلك مرات عديدة من قبل و كان الأمر غالباً ما ينتهي بالعودة إلى مثل هذه الطوابير، أعود مرغماً و كارهاً و منقبضاً و قانطاً فينتقم الطابور بأن يكون أكثف زحاماً و اكثر تململاً مما تركته عليه، و الواقفون أجدهم في أقصى حالات الضيق و التذمر و التجهم، كأنهم قنطوا من رحمة الله الواسعة، يقفون و هم على أتم الاستعداد للتحرش بأيٍ كان و يسوء الأمر بأن يتكرر التردد على المكان نفسه لأيام و أحياناً أسابيع بسبب الزحام و انتهاء الدوام و هكذا الحال دائماً: بعض المسائل لا يمكن التعاطي معها إلا بالوقوف في طوابير ممطوطة لا أول لها و لا آخر و إنّا لله و إنا إليه راجعون.
جلست القرفصاء و أخذت أبكى. كانت وقفتنا قد طالت هذه المرة طولاً عجيباً و نشأت خلال فترة الانتظار التي لا نعلم مقدارها باك تاون صغيرة و لما امتد الانتظار بنا ما لا نعلم مقداره مرة أخرى من جديد صارت الباك تاون سنتراً نشأت من حوله مجموعة من الباك تاونات التي طفقت تشكو من التهميش و تلعن المركز و تتوعده بالويل و الثبور و لا نعلم متى حدث ذلك، هل عندما ذهب الجماعة الذين نصطف خلف شبابيكهم للفطور، أم عندما صرفونا و لم ننصرف فبتنا ليلتنا حيث نحن و في نية كل واحد من ألا ينصرف ما لم يأت دوره فتوالت علينا الأيام و الليالي و ما عاد لنا من شغل سوى انتظار الدور.
السبب الذي جعلني اتقرفص باكياً هو أنني تذكرت أمي و لما حاولت استعادة بعض تفاصيل ملامحها عجزت و كان الوجه يظهر و يختفي خلف حجاب من البخار الحاجب فدق قلبي خلف الحجاب الحاجز و داهمني شوقُ مؤمنٍ إلى الحجاز فأنشأت أبكي و أذرف الدمع و جلست القرفصاء هكذا و لما أشأ مغادرة الصف، فقد يحين الدور و أنا على هذا الحال من الحنين، فتقرفصت يا رجل و كان الناس يغادرون مواقعهم و يأتون لمواساتي ثم يعودون إليها بسرعة و كانت المواساة تتم بالتربيت على رأسي و الهمهمة المبهمة، و أنا أخفي وجهي بين ركبتي إلى أن تساقط شعري من كثرة التربيت و انصلعت.