الوداع

الوداع

النظرات حين الوداع رعشة الاطراف اختناق الكلمات وحشرجتها عندما تخرج متلعثمة لا  تعبر عما بداخلك ، أن تودع شخصاً تحبه دون ان تذرف الدموع عليه ، أن لا تستطيع ان تستوعب الصدمة التي تمر بها ، ان تحاول ان تختلق لنفسك الاعذار حتي تصمد ، احيانا قد تخونك قواك ، لازت اذكر وداع صديقي لي وهو يحادثني في الهاتف قبل يوم من وفاته ، و يتفقد احوالي في الغربة التي كتبت علينا ، يعرض علي المساعدة المالية اشكره من قلبي و اخبره ان ابي بجواري و يدعمني حتي استلم راتبي الاول في بلاد الغربة ، اليوم الثاني كنت اجلس مع ابي حتي وقت متأخر من الليل ، عدت الي غرفتي في المدينه التي اخترت ان اسكنها حتي استطيع ان اكون بالقرب من مقر عملي ، وصلت و اذا بي لا أجدُ مكاناً أصفٰ فيه سيارتي الا جوار المسجد فأخترت حينها ان اجلس داخلها حتي صلاة الصبح ثم اذهب الي مقر اقامتي ، بدأت اتصفح في جوالي فاذا بي اجد الرسائل تسألني عن حاله صديقي ، لم استوعب هذة الرسالة فاتصلت باحد الاصدقاء الساعة كانت الثالثه صباحاً لكن باب اصدقائي لا يغلق في وجهي ابداً ، أسأله عن كريم ، يخبرني انه توفي في حادث حركة أليم في طريق عودته من العُمرة ، أجد نفسي ابكي واصيح كالأطفال ، ربما لاني كنت جالساً وحدي ، افكر بأن انطلق بسيارتي بأقصي سرعة فألحق به لكن يخرجني صوت الأذان من هذة الفكرة الغير صائبة ، اخرج من السيارة احاول ان اصلي ، اجد اول شخص يرتدي الجلباب السوداني ، اني اعرفه انه زميلي في العمل ، احتضنه و أبكي ، هو يواسيني دون ان يعرف مابي ، اخبره ان صديقي توفي ، يسندني حتي ندخل المسجد ، لا زلت اتذكر ان الامام قد تلي سورة الضحي ، اسمعها و ابكي ، لم اجد حينها بد سوي الذهاب الي ابي لكي اجلس بجواره فهو سندي في هذة الغربة و هو يعرف كم عانينا انا و كريم في بلد الكفالات ، اتقدم بأستقالتي من العمل   لاني لا اود ان اكون في هذة البلاد التي قتلت صديقي بشوارعها و كثرة حوادثها ، وحصدت ارواح الكثير ممن احب ، يتماطل مديري الهندي في قبول استقالتي ، يعطيني اجازة حتي اتعافي من الصدمة التي تمر بي ، و هو لا يعلم انه وحتي الأن انا لم اتعافى منها .
تلك المرة التي قررت الخروج الي الشارع في ذلك الطقس الخريفي الرائع ، حملت معي كاميرتي و قررت ان اصور الحي الذي اسكنه، رائحه المطر تدغدغ انفي ، اندهشت جدا من نظافه شارعنا و اتساعه رغم انه في حي شعبي بسيط ، كنت أرآه لأول مره بهذا الجمال ، وضعت آلة التصوير علي الأرض التقطت بعض الصور ، حدثت حاله عشق بيني وبين إحدي الصور التي ظهرت فيها التربة الطينية الحمراء مشبعةً بالماء بعد هطول المطر ، و الماء يجري في الشارع الذي لم يجد حظة من مصارف الخريف ، احببت هذة الصورة جداً ، عندها فقط عرفت انني لن اري هذا الشارع لمدة زمنيه قد تطول و تطول ، فأنا اعرف اني يجب أن أبتعد عن الأشياء التي أحبها ، هذا قدري ، بعض الفتية يقطعون تلك اللحظة العشقية الجميلة بيني وبين الشارع يطلبون مني ان التقط صورة لهم ، لم أمانع فأنا كنت اتدرب علي ممارسة التصوير بل كنت مستعد ان ادفع لهم حتي يجعلوني التقط لهم بعض الصور ، التقطت لهم صورة مازلت اذكرها لاني رأيت فيها قلوباً نقية  بيضاء صافية ، و وجوهاً تطلع الي مستقبل مجهول ، كنت اعلم ان حكم تجار الدين و المظاهر الدينية الكاذبة ستأثر علي نشأتهم ، ستتسخ هذة القلوب الطاهرة حتماً ، حمدت الله علي اني لن أكون موجدا حينها لأني لا استطيع تحمل هذا الوداع ، كيف أستطيع ان اتحمل وداع الأبرياء وهم يرغمون علي الإتساخ في الوحل حتي يواكبوا سبل العيش في بلاد الجبهة اللاإسلامية .
في محطة القطار انتظر رحلتي الي المدينة المجاورة اجلس انا وإمرآة لا أعرفها تضع طفلها الصغير علي كتفها ، ينظر إلي ألعب معه ، أري فيه طفلي الذي لم ألتقي بأمه بعد ، يضحك ذلك الطفل ، استحي انا فربما امه لا تسمح للغرباء الداكنين البشرة بالاقتراب من اطفالها ، لكنها لم تبدي اي ردة فعل سلبية بل تظاهرت بعدم الاهتمام ، بعد دقائق اتي زوجها و هما بالإنطلاق ، فإذا بها تأتي إلي وتقول وداعاً و تمنت لي يوم سعيد لأني أسعدت طفلها وجعلته يبتسم ، كم كان قاسياً علي هذا الوداع لانه كان لطيفاً ، وذكرني كم نحن شعب قاسي الملامح لا يبتسم الغالبية منه الا عند التقاط الصور ،
كيف يمكن ان نودع الماضي و نرحب بالحاضر ، كيف نستطيع التخلص من ذلك السرطان البشع الذي نشر العنصرية البغيضة بيننا ، شردنا في المنافي الإختيارية والإجبارية ، الذي فرض علينا قانون الغاب و الرشاوي و الإبتزاز ، هل سيأتي يوم و ندفن ذلك السرطان و نقول له وداعاً ، و تزدحم الطائرات في مهابط الوطن و نعود ،  لنشعر بأننا لنا وطن وحضن دافئ يرفض ان يتركنا نتشرد بفعل عواصف الغربة  .
عزام مرسي