الخميس , أبريل 25 2024
ardeenfr
أخبار عاجلة
الرئيسية / أخبار لالا اليومية / “الآن أنا ما عندي إحساس بالغُنا”

“الآن أنا ما عندي إحساس بالغُنا”

 

“الآن أنا ما عندي إحساس بالغُنا”

هل تنزلق كوميديا عوض شكسبير إلى زَبَد الجمالية الطفيلية وحضيضها؟

 

  • عبد الجبار عبد الله

 

قبل أن أشرع في الإجابة عن هذا السؤال والخوض في تفاصيله، أتوجه بأحر التهاني لاتحاد الكتاب السودانيين على فوزه بجائزة الاتحاد الأوروبي لحقوق الإنسان، وللأستاذ محجوب محمد صالح على تكريمه في ذات المناسبة التي صادفت العاشر من ديسمبر، الاحتفال باليوم الدولي لحقوق الإنسان. فكلاهما أهلٌ لها عن جدارةٍ وحق، إذ ما يزالان يفتحان الكُوى والمسارب والدروب الشاقة العصية أمام حرية الفكر والضمير والحق في التعبير والإبداع في ظل ظروف بالغة الاستثناء والقتامة والتعقيد، إلى حد عزَّ فيه حق الإنسان في  الحياة  نفسها، ناهيك عن حقه في التعبير وممارسة النشاط الإبداعي الخلاق. فهذا زمان “حملة الدفتردار الانتقامية” عائدة إلينا بسيوفها الصدئة المستلّة من كهوف تاريخ العبودية والقهر والاضطهاد العام باسم الدين على امتداد ما يربو على ربع القرن. ذلك أنّ القيمة الرمزية والمعنوية لهذه الجائزة تأكيدٌ واعترافٌ بذود اتحاد الكتاب عن تلك الحرية التي تظلِّل شجرتها الفارعة الوريفة كل ضروب التعبير الجمالي الإبداعي وألوانه، بما فيها الإبداع الموسيقي والغنائي والمسرحي. وها هي قد أرخَتْ بظلها واحتفت بتلك الإيقاعات والألحان “العركية” البديعة التي كان يرقص على إيقاعاتها عوض شكسبير غافلاً عن مغزاها العميق، بدليل مقطع الفيديو النقيض الذي بثّه باسم الفن وحرية التعبير… ويا لها  من غفلة!

ولن أدلف إلى مناقشة ذلك المقطع قبل أن أقف لتأمل حال من وقفوا تحت لافتة  “كلنا عوض شكسبير” مجازا بذريعة الدفاع عما زعموا فيه حقا له في  التعبير، آزرهم في ذلك زميله الفنان المسرحي محمد تروس  بمقطع فيديو موازٍ. وقد استشعرت ضرورة التناول الناقد للممارسة الإبداعية للمسرحيين المعنيين عوض شكسبير ومحمد تروس.  فكلاهما من طلابي وأصدقائي  -شخصي، وزملائي الأساتذة من ألمع المسرحيين محمد عبد الرحيم قرني والرشيد أحمد عيسى وحاتم محمد صالح وزميلنا الراحل المقيم حامد جمعة آدم، إلى جانب آخرين لا مجال لذكرهم هنا. بل إن لقب عوض شكسبير نفسه قد ناله من مسرحية “حلم منتصف ليلة صيف” لكاتبها وليام شكسبير، وكنتُ قد ترجمتُها وسودنتُها وأخرجتُها لتقدَّم على خشبة مسرح قصر الشباب والأطفال في أول احتفال بيوم المسرح العالمي بعد انقلاب الإنقاذ بأشهر معدودة في 27 مارس 1990. وكان عوض شكسبير من ألمع نجوم تلك المسرحية التي كانت حبكتها الدرامية هجاءً كوميدياً لاذعاً لبلاهات عصبة الإنقاذ وبطولاتها الدونكيشوتية الزائفة في باكر عهدها.

لنتأمل إذن، موقف ما يشبه مجازا حملة “كلنا عوض شكسبير” هذه، وبالنتيجة، وقفة محمد تروس معها سواء في مقطع الفيديو الذي بثه عبر الفيسبوك، أم في التعليق القصير الذي ذيّل أو استبق به ذلك المقطع.

وفي سياق إعدادي لهذا المقال، مررت بما دار حول الفيديو في مختلف مواقع التواصل الاجتماعي، واطلعتُ على ردود الأفعال والمواقف المتباينة إزاءه في الصحف ووسائل الإعلام. واستوقفني ضمن ذلك المقال الذي خطته الأستاذة نيلوفر أبوعركي، واللقاء التلفزيوني الذي أجرته قناة (Sudania 24) باستضافة الأساتذة حسين ملاسي والبرّاق النذير الورّاق (من داخل الاستديو)  وفيصل محمد صالح وعبد الوهاب محمد وردي (عبر الهاتف). وتعميما للفائدة، تجدون فيما يلي وصلة للحوار التلفزيوني الذي اجتمعت فيه في مكان واحد كل عناصر المادة موضوع مقالي النقدي هذا على اليوتيوب. وهو ما أشكر مقدم البرنامج على ما بذله من جهد فيه.

 

 

وتتلخص الحجة التي دفع بها هؤلاء في أن لعوض الحق في حرية التعبير، تماما كما أن له الحق في انتقاد من يشاء، بمن فيهم أبوعركي البخيت. ولا خلاف بطبيعة الحال على ذلك بإطلاقه من حيث المبدأ، ومتى صمدت مادة ذلك الفيديو أمام معايير النقد الفني وأحكامه الموضوعية. فكل “شاة فنية معلقة من عصبتها” كما نعلم، وعليها أن تحاكم في ذاتها جماليا وفنيا في المقام الأول. وليتفق معنا مؤازرو عوض والمدافعون عن حقه المفترض في حرية التعبير على بديهيات مؤازرتهم هذه وأبجدياتها، كونها تستند إلى فرضية أن ما قدمه عوض في ذلك الفيديو عمل فني يقع تحت مفهوم حق التعبير، الذي أقف في مقدمة المدافعين عنه بنفسي. ولكن ماذا إذا ثبت العكس، أي أن ذلك العمل ليس ممارسة مسرحية جمالية بمعايير النقد الفني وأحكامه؟ حينها أتوقع أن يوافقني الرأي “المؤازرون” لعوض، بداهة ومن ألف باء الأشياء، أن حجة المؤازرة تكون قد أُسقطت من أيديهم وبالتالي  لم يعد لديهم ما ينافحون به عن عوض شكسبيرباسم الحق في التعبير الفني.  إذا اتفقفنا على هذه البداهة التي لا سبيل للجدال أو المغالطة فيها، فلننظر إذن إلى فيديو عوض شكسبير موضوع النقاش، إلى مادته ومغزاه من حيث الشكل والمضمون بمعايير النقد الفني، كونه عملا مسرحيا “افتراضا”.

ومن البداهة أيضا أن ما يعطي أي عمل فني خلاق قيمته الجمالية، مسرحاً كان أو تشكيلا أو رقصا أو غناء أو سينما -إلى آخر أشكال التعبير الفني- هو مدى قدرته على الخلق الفني أولا وقبل كل شيء، وما ينتج عن ذلك من أثر جمالي له من الطاقة والقدرة على إمتاع الجمهور وإشباع حاجاته الروحية والجمالية وحفز فضوله لاكتشاف وارتياد ذلك الأفق الإنساني الرحب الذي تتحرك وتعمل فيه المخيلة الإبداعية الجمالية بأدوات تعبيرها ووفق شروطها وقوانينها الداخلية الباطنة التي تحكمها. ومن أشكال التعبير الفني أيضا ما يبقى بين الناس بقيمته النفعية والجمالية المادية المباشرة، وهو فرع قائم بذاته في حقل دراسة الثقافات المادية للشعوب كما نعلم. هذا هو المعيار الأساسي والموضوعي الذي سنحكم به على فيديو عوض شكسبير لنرى ما إذا كان ينطبق عليه حتى يتسنى لنا وصف مادته بأنها عمل فني أم أنها خلاف ذلك.

ومن حيث التصنيف الفني تقع مادة الفيديو -بغض النظر عن الوسيط الذي يعمل من خلاله الممثل، سواء على منصة المسرح أو كاميرا الفيديو أو التلفزيون أو الإذاعة أو أي من  وسائط التواصل الاجتماعي- في ما يعرف بـmonodrama أو  solo theatre  وقد حل كلا المصطلحين محل المصطلح الذكوري    one man show    الذي يحصر الأداء الفردي المسرحي على الذكور وحدهم  وكأن ليس بين النساء من يؤدين أداء مسرحيا فرديا “يكسر رأس ألف رجل ورجل”. وفي حالة عوض شكسبير، فإن “الافتراض” هو أنه قد أدى دورا كوميديا فرديا عبر وسيط الفيسبوك.

ولكن هل كانت تلك “كوميديا”؟ وهل كان أداؤه “تمثيلاً” بمعنى الخلق الفني والقدرة على التعبير الجمالي المسرحي، وما إذا كان قد أثار عمله هذا أي قدر من المتعة الجمالية؟ هنا مربط الفرس والمحك.

 

ما بين الحرباء والفن

 

إن بين ما بدا لجمهور المشاهدين للفيديو إياه على أنه عمل فني كوميدي ساخر، وعلى رأسهم الصحفي فيصل محمد صالح والموسيقي عبد الوهاب وردي والكاتب حسين ملاسي، هو عينه ما بين الحرباء والفن، أي تلك المفارقة الفيزيائية المخاتلة ما بين الحراز والمطر. كيف؟

والإجابة الموجزة المباشرة هي أن مجرد “التمويه” أو الخدعة البصرية -مثلما تفعل الحرباء في محيطها بدافع غريزي- لن يرقى يوما إلى مستوى الفن. وأن مجرد المحاكاة mimicry في حد ذاتها وبمعزل عن الشروط والعناصر الأخرى المركبة والمعقدة في علاقاتها الداخلية لتخليق العمل المسرحي جماليا،  ليست مؤهلة للارتقاء إلى مستوى الأداء المسرحي أيا كان غرضه، كوميدياً أم غير ذلك.

وللسبب عينه، فإن المحاكاة في مدارس التمثيل ومؤسساته ومعامله المتخصصة ليست سوى أحد التدريبات التي يستعان بها لاكتساب مهارات التمثيل والتمرين على تكنيك  الأداء المسرحي، ولكن دون أن ترقى لوحدها إلى مستوى العرض يوماً. وقد تلقّى عوض تلك التمارين وهو يعلم مداها ومحدوديتها وغرضها. ومع ذلك نراه يقدم بها نفسه -أي المحاكاة المعزولة عن سياقها وعناصر حبكتها الدرامية – على أنه “فنان كوميدي” ربما على طريقة “الطشاش في بلد العمي شوف”. فهذا زمان الخواء الذي تمتليء ساحاته وسهوله الجدباء القاحلة بكل شيء، ويستهان فيه بالممارسة الإبداعية إلى حد انحدرت فيه إلى مستوى ترويج النزعة العنصرية البغيضة باسم الفن والكوميديا عند البعض الآخر، الذين ليس من بينهم عوض والحمد لله على هذه وحدها يا صديقي. ولا تزال أمام عوض فرصة وآفاق أرحب للارتقاء بقدراته في التمثيل والأداء إلى مستوى أفضل من مجرد محاكاة الشخصيات ، أيا كانت. وبالمقارنة، نجح زميله محمد تروس في التمهيد لذلك الطريق “كوميديان” بالبناء على شخصية “حاجة المؤتمر الوطني” وما حولها من ذلك الكم المركب المعقد الاستثنائي الفريد من المسخ الاجتماعي والاقتصادي والسياسي والروحي الذي أفرزته سنوات حكم الإنقاذ. فالعمل على ذلك المسخ في كليته ومجموعه من خلال عدة شخصيات ثانوية تتحرك وتتفاعل معها “حاجة المؤتمر الوطني” هي التي تشكل الحبكة الدرامية اللازمة لتخليق العمل المسرحي ووصل خيوطه المتشابكة. ولا يزال يلزم تروس الكثير من الجهد النظري والعملي للارتقاء بتجربته إلى مستوى جمالي أكثر غنى  وتعقيداً.

وما تلك سوى ملاحظة اعتراضية أعود  منها للقول بأن ما قام به عوض في هذا الفيديو “تمويها” وليس “تجسيدا” درامياً للشخصية التي جعلها موضوعا له. ويترتب عن ذلك أن مادة الفيديو التي بثها “ماسخاً”  فيها شخصية أبوعركي إلى شخصية مهرج رخيص مبتذل غير متسق في مواقفه وتسلب قلبه ووجدانه سطوة المال “اليورو الأوروبي” لا تتجاوز حد المحاكاة في مستواها الأدنى الذي لا يرقي لأن يكون عملا فنيا كما ذكرت . فزمن العرض لا يتجاوز الـ59 ثانية ما كانت تكفي عوض لأداء أصغر دور “كومبارس” في أي عرض مسرحي يستحق المشاهدة، ناهيك عن تجسيدٍ إبداعي مجوّد بمعايير وشروط  إنتاج الفن المسرحي لشخصية عميقة متعددة الآفاق والأبعاد مثل أبو عركي البخيت. ومن تلك الأبعاد بل أهمها بالأحرى السبب وراء “إبعاد وليس ابتعاد” عركي عن الساحة الفنية والغناء الجماهيري، ومغزى أغنيته “حالة البلد” التي هي مادة مقطع الفيديو التي أخطأ فهمها كل المشاركين في الحلقة التلفزيونية عدا البرّاق. كان أيسر وأهون على عوض أن يسجل شتيمة لفظية مباشرة بعيدا عن مساحيق الفن والمكياج والأزياء التي انطلى بها في ذلك الفيديو. وكان أيسر له أن يبث شتيمته مثل “باقي خلق الله المساخيت” كما هي في عريها المكشوف “ليفش” بها أي غبينة كانت في أبو عركي.

 

أين طشَّت ذاكرتك الانفعالية؟

 

وهل يدري عوض لماذا بدت محاكاته لتلك الشخصية مبتذلة باهتة رديئة ومفارقة لأدنى شروط إنتاج الفن؟ في الإجابة عن ذلك يجب القول أن لعلّ أهم ما درسه عوض شكسبير عن فن المسرح -إلى جانب مواد ومصادر أخرى متعددة- هو منهج قسطنطين ستانسلافسكي في “إعداد الممثل” بدعامتيه الرئيستين المعروفتين:  الذاكرة الانفعالية والصدق الفني. فهل استدعى عوض ذاكرته الانفعالية وشحذها بما يكفي عندما أقدم على مخاطرته تلك التي جعلها تبدو وكأنها محاولة لتجسيد شخصية أبوعركي؟ لو كان قد فعل بدافع إبداعي أصيل لأدرك حينها سر حملة النقد الضارية التي يتعرض لها الآن بسبب تعرّضه لسمعة عركي وطعنه في نزاهته واستقامته وكرامته الإنسانية، بدلا من انتقاد ما وسعه النقد في موسيقاه أو طريقة أدائه ..إلى آخره، ومن حقه أن يفعل تماما مثلما هو حق لكل شخص غيره. ذلك أن ممارسة مثل هذا النقد ضرورة بحد ذاتها لتطور الفن، بل لتطور المعرفة والممارسة الإنسانية الخلاقة على إطلاقهما. ولكن أن يتوارى عوض وراء مساحيق الفن ليفعل ما فعل، فليس في ذلك من التعبير الجمالي ولا من حق حرية التعبير في شيء. ودعونا نذهب أكثر من ذلك إلى القول لو أن عوض استدعى ذاكرته الانفعالية بدافع الإبداع المسرحي الأصيل -وفقا لاستانسلافسكي- لأدرك أن هالةً كبيرةً وضّاءةً من وهج حب الناس واحترامهم لعركي لا يفسَّر سرها بتفرد اجتراحات عركي الموسيقية وحداثة مشروعها وأفقها الجمالي  فحسب، وإنما يُعزى قدر لا يستهان به من ذلك السر الدفين المكنون، إلى حب الناس واحترامهم لعركي في ذاته وشخصه أيضا، إلى إعزازهم لقيِمِه التي ما برح يجسدها ويتمثلها في سلوكه الشخصي بحضوره الحي الكثيف في دروب الحياة ومنعرجاتها العصية اللئيمة ، وفي ساحات العمل العام التي تتداخل فيها حياته الشخصية بإبداعه الفني دون انفصام أو أدنى نبرة زيف. وها هم عشاق عركي  ومعجبي فنه ومحبيه يلقنون عوض شكسبير درسا حياتيا عمليا لن ينساه في مغزى استدعاء الذاكرة الانفعالية بذات المدلول والعمق الذي رمى إليه ستانسلافسكي مسرحيا في سياق نهجه في إعداد الممثل . وآية ذلك ما كتبته نيلوفر بنت عركي وفلذة كبده. فليتواضع إليها عوض ويطرق بابها لتعطيه درسا في تلك المعاني العميقة التي سهت عنها ذاكرته ومخيلته ذات لهث رخيص متهافت وراء اختطاف أضواء النجومية والشهرة بأي ثمن كان.

 

والمَكرِي ما بكاتل

 

وهنا يلزم الوقوف أيضا ضمن التأويل النقدي لأنيميا هذا الفيديو وركاكة مادته -بل تهافتها إن شئت- على دعامة الصدق الفني، وهي الركيزة الثانية في نهج إعداد الممثل المشار إليه آنفا. ولعل أكثر ما يفضح بؤس هذا الفيديو وخلو مادته من أي معنى للصدق الفني هو “هجيج” عوض  مع “المهججين” في حفل عركي الذي جاء يعيّره به  لاحقا! ومما يثير لواعج الشفقة والحزن في آن، أن سماء الحرية التي بسطها اتحاد الكتاب السودانيين، وكذلك موسيقى عركي وأغانيه هما ما جعلا ممكناً -بدفاعهما عن حقوق الإنسان وحرية التعبير- أريحية تلك الشجرة الوريفة التي تفيّأ  بظلالها عوض في رقصة جنونه تلك التي أعقبها بلوثة جنون أخرى أدهى وأمَر حين ذهب ليسجل بعدها مباشرة مادة ذلك الفيديو. دعك عن الفن وشروط إنتاجه يا عوض: كيف بالله عليك تفسر هذا اللغز وتفك طلاسمه؟ فمما هو معروف عن دلالات الصدق بمعناه العام -الذي يسري أيضا على صيرورة إنتاج الفن وتذوقه  مجازا- أن “المَكْرِي ما بكاتِل” كما تفصح عنه حكمة المثل الشعبي السائر. وقد كنت أنت “مكريا” في مستوىً ظاهري فاضح  برقصك وابتهاجك في حفل عركي كما رأيناك هناك. ولكن من “كراك” أو “فرعنك” من خارج تلك الذات اللعينة الأمّارة بالسوء في مستوى آخر خفي غير منظورلنا يا ترى؟   لغز “غميس” محير وشائك لن يسعفنا أحد على حلّه سوى عوض نفسه. على أن ذلك يقتضي منه بالضرروة، تحليه بما يكفي من  نبل الفنان وصحو ضميره.

 

وفي السياق نفسه أطرح على عوض ومشايعيه تحت اللافتة التي عنوانها مجازاً “كلنا عوض شكسبير” باسم الدفاع عن حرية التعبير، بعض الأسئلة النقدية التي لا مفر منها:

  • إن كان القصد من مقطع الفيديو أن يكون مادة فكاهية ساخرة في ممارسة لون من ألوان النقد الاجتماعي، فهل نجح في تحقيق ذلك فنياً؟ هل أشبع رغبة جمالية لأحد، هل أمتع أياً منكم فنياً؟
  • وألا تبدو الفكاهة سخيفة حين يضطر حاكيها إلى “كلكة” جمهورها ليحملهم حملا على الضحك، ثم لا حياة لمن تنادي رغم ذلك؟
  • استناداً إلى قولي سابقاً بأن النقد ضرورة ملحّة لتطوير الممارسة الفنية والارتقاء بها جمالياً، هل مارس عوض نقد تجربته ومحاولاته السابقة عند إعداد مادة هذا الفيديو ليجعل منه عرضا رافعا لها في خط تصاعدي وليس تنازليا هابطا؟ بمعنى هل تقدّم عوض فنيا وجماليا خطوة إلى الأمام أم تخلّف وتراجع في محاولته الأخيرة هذه؟ هذا هو مستوى النقد الذاتي الذي يتعين على الفنان -كل فنان- أن يمارسه في كل مرة يخاطر فيها بإنتاج عمل فني جديد. فهل فَعلَ عوض؟

 

إشانة السمعة باسم الفن

 

 

بما أن الفيديو قد خرج في نظري من “مولد الفن والجمال بلا حمُّص” كما أوضحت نقديا، فلنمض إلى الوجه الحقوقي لمسألة هذه المشايعة المجانية لعوض شكسبير. وهي أن لمغزى المادة التي بثها في المقطع تسمية وتعريفا في الفقه القانوني، هما “القذف وإشانة السمعة”. وكلتاهما جريمتان يعاقب عليهما القانون عقابا رادعا. وكان لعركي أن يذهب في هذا المنحى إن شاء، ولكنه أسمى وأنبل من أن يفعل كما نعلم ويعلم عوض قبل غيره من مشايعيه. وقد استمعت إلى الفتوى “القانونية” التي أدلى بها الأستاذ حسين ملاسي في هذا الشأن  في اللقاء التلفزيوني نفسه وسأعود إليها في مقال لاحق. وإذا أحسناّ الظن بهؤلاء -ممن يناصرون عوض أصالة عن أنفسهم لا وكالة عن أحد أيا كان- ، لقلنا ربما أن التمويه المسرحي أو القناع الفني الذي ألبسه عوض لسبّه الصريح لعركي، هو ما أحدث الالتباس لدى مشايعيه الذين انطلت عليهم خدعة السب في ما يشبه شكل التعبير الجمالي الفني، فانبروا إلى الوقوف معه في ما ظنوا أنه حق من حقوق التعبير. ومن باب حسن الظن أيضا فلنقل إن هذه حساسية مشروعة بذريعة المؤازرة والتضامن مع كل من يصادَر حقه في التعبير، في زمان أصبح انتهاك حقوق الإنسان -كل الحقوق- في بلادنا قاعدة وليس استثناءً كما نرى ونعلم. ومن بين هؤلاء الأستاذ الصحفي فيصل محمد صالح.

 

ولكن ها قد سقطت الحجة، فلم يعد لها وجود بمعايير النقد الفني لا غيره. فماذا بقي للمشايعين والمدافعين عن حق التعبير جزافا؟  اللهم إلا إن كانت المشايعة هذه المرة من باب تأكيد حق عوض في سب عركي وإشانة سمعته كما فعل -دعكم عن المكياج والاكسسوارات والأزياء التي استخدمها لإلباس تلك الإساءة البذيئة لباس الفن وشكله. ولعل عوض يعلم أن تلك “المساحيق” المسرحية التي استعان بها ليست سوى “نفاية” لا حاجة للمثل القدير بها من منظور “المسرح الفقير” والمعمل التجريبي للفنان المسرحي البولندي، جروتوفسكي.

 

وإن كان ذلك هو مغزى المشايعة ودافعها لا سمح الله -أي حق أيٍ من كان أن يشتم أيا من شاء- فإن على من يصرون على مشايعة عوض  أن يثبتوا “يركزوا” على موقفهم هذا.. وهاكم إياه عارياً تماما: إن ذات المنطق المعوج والمفهوم الخاطئ لحرية التعبير يمليان عليكم أيها المشايعون الصناديد أن تقفوا صفا واحدا خلف “فخامة الرئيس” وهو يمارس “حقه في التعبير” بتوجيه أقذع الشتائم المُحِطّة لكرامة شعبه. وعليكم أيضا أن تقولوا لشعبكم أن “يلحس كوعه” مرددين بذاءة نافع على نافع في فجوره وزفارة لسانه. وعليكم أيضا مشايعة الطيب مصطفى في ممارسة “حقه في التعبير” بنشر خطاب العنصرية البغيضة المسموم. وما أطول صفوفكم التي “تهد الحيل” وراء شتائم مصطفى عثمان اسماعيل و”حسبو نسوان”  نزولا إلى أصغر مسؤول من مسؤولي النظام.  فهذه هي نتائج المنطق الذي يُلبِس الإساءات والسباب ثوب “حق التعبير”. فالبسوه جميعاً وهنيئاً لكم به يا من تناصرون المسيء في وجه المُساء إليه غفلةً أم عن وعي وقصد!

 

 

أصحى يا أبو الريش

 

وفي زمرة هؤلاء المشايعين لا أستثنى طبعاً صديقي الفنان “محمد تروس” الذي جاء ليعبر أصلا عن مناصرته لعركي، إلا أنه اختتم تعليقه بمناصرة زميله عوض في ما نسب إليه من “حرية تعبير” بلا تعبير. ما شاء الله تبارك الله. “عيني باردة” و”يقصِّر المِلِح” كما تقول حبوباتنا البهيّات. فبهذه المناصرة المجانية الغفل يخاطر “تروس” بكل ما استثمره درامياً وجماهيريا في شخصية “حاجة المؤتمر الوطني” بأن “يروح شمار في مرقة ساكت” من حيث لا يدري طبعاً. فهل تسمح لنفسك بالخروج على حين غرة من ثوب “حاجة المؤتمر الوطني” الثوري المعارض لتصطف وراء نافع على نافع مؤازرا له ومرددا معه الإساءة المقذعة نفسها “ألحس كوعك”. يا للفخ اللعين. أعلم أنك أذكى من الوقوع في فخ زمرة  الطفيليين اللعين الذي تحاربه أنت بوجدانك وفنك يا صديقي. فعليك الحذر وكل الحذر.

 

والعشَم أيضاً أن يصحو صديقي عوض شكسبير من غفلته إلى ضميره الفني وأن يخرج من عباءة “محاكاته” الضيقة هذه إلى فضاء المسرح الرحب الواسع الذي يتيح للمثل تحقيق ملكاته وقدراته الإبداعية حقا.

 

وإن كان يوافقني عوض الرأي، فإن أكثر ما يستدعي الاعتذار عنه في هذا الفيديو هو الإساءة البالغة إلى فنه المسرحي، إلى نفسه وجمهوره ومحبيه قبل أي شخص آخر. فشتان ما بين عوض الذي شاهدت في عروض قسم الدراما بقصر الشباب والأطفال، وفي مسرحية “حلم منتصف ليلة صيف” في ذلك الزمان الباكر عند تفتُّح المدارك والرؤى والملكات، وعوض  الذي شاهدت في هذا الفيديو “الملغوَس” التعيس.

 

سأواصل الكتابة في جوانب المناقشة التي لم تكتمل بعد، بما فيها العنوان الرئيسي للمقال “مخاطر انزلاق الكوميديا إلى زبد الجمالية الطفيلية وحضيضها”. وكم وجدت في مادة اللقاء التلفزيوني ما يحفز على الكتابة ويستدعيها استدعاءً.

Print Friendly, PDF & Email

عن laalaa

شاهد أيضاً

حزب المؤتمر السوداني تصريح صحفي

Share this on WhatsAppحزب المؤتمر السوداني تصريح صحفي طالعنا البيان المؤسف الصادر من سكرتارية اللجنة …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.