الجمعة , أبريل 19 2024
ardeenfr
أخبار عاجلة
الرئيسية / أخبار لالا اليومية / في سِيرَة فاطّنَة

في سِيرَة فاطّنَة

جمال إدريس الكنين

عصرية في يوم من أيام بداية النصف الثاني من الستينات، سمعتُ أمي تحكي مع قريبتها في نية السفرإلي الخرطوم لحضور عرِس فاطنة، كانت أول مرة نعرف إسم فاطنة.  كانت حينها  الخرطوم  سِيرَتهِا عَطِرة،  ماؤها عذبٌ ولها نكهةٌ ورائحةٌ مميزة تفوح من  زهورِ شجرِ الحناء، كانت فيها نوافير، الناسُ فيها لم يختلطُ حابلهم بنابلهم ولم يتولي بعدُ أمر القومِ أرازلهم، كانت أمدرمان بهية وندية وهي تزُف فاطنة إلي الشفيع.  بعد أيام هلّلنا فرِحين بعودة الأم وهي تحمل كيس الموز وأشياء أخري وتحملُ معها سِيرة فاطنة وحكاية عُرسِها ” جِنس خَلِقْ، خَلِقْ ماليها حد، العرس سووا في ميدان الربيع،  مافضل زول،ناس المواصلات  في المحطة الوسطي إنادوا يلا يلا ميدان الربيع  ميدان الربيع، الأعمي شايل المكسر،عازمين البلد كلها، حتي ناس السوق، العمال،الطلبة، العربجية، الناس إتكابسوا في البارد والبلح، والموية كملوها، وفاطنة مبسوطة وسعيدة،  دلوكة شنو؟  لادلوكة لارقيص لاقرمصيص،  كيفن عاد؟ فاطنة بتسوي جنس ده؟ ياهو توبا الأبيض،زي الملاك، الزَّيَها منو فاطنة؟ مُعلِمة ورئيسة مجلة صوت المرأة ورئيسة الإتحاد النسائي  و في البرلمان مع ناس أزهري والمحجوب”.

هكذا تعرفنا في طفولتِناعلي الفصلِ الأول من سيرة وملحمة فاطنة.

في يوليو71 كان هناك فصلٌ جديد وسفرة مشهودة وحكاية جديدة من سِيرة فاطنة يصحَبُها أسيً وحزنٌ كبير و ووبٌ وويبٌ ، ” النميري كتل الشفيع، كُر عَلي يافاطنة،”.  صارت فاطمة رهينة المَحْبسين، حَبْس الترمُل وحَبْس النظام، خضعت للإقامة الجبرية والإعتقال، لم تسكت،  اقلقت منامهم، جابهت مِحنَتَها بقوة الشكيمة ومضاءُ العزيمة وصبرِ أولِي العزمِ.               تعددت السفرات إلي فاطنة للوقوف معها وشد ازرِها، فقد كانت بنت الخال تاج عِزَّهم وفخرهم.  وجاءت  محاكمة فاطنة المشهودة والشهيرة،  كل جلسة من جلسات المحكمة هي حكاية تُحكيَ عن سيرة فاطنة، وقفت كالطود الأشم وهي تُحاكِم النظام وخرجت منتصرة كما العنقاءُ من رمادِها منتفضة ، ومثل كوكب الزهراء في تساميها وتفردُها وبريقُها. ترسخت في عقولِنا الشغوفة صورة لبطلة أسطورية هي حكايتَنا وأُحّجِيتَنا الواقعية التي كفّتنا عن فواطم الأحاجي الخيالية فاطمة بت النمير، فاطمة السمحة وفاطمة أم حجل. رأيتُها عياناً بعد الإنتفاضة في 85 تأسرُك وتحتويكَ بإبتسامتِها المُشِعَّة في كلِ وجهِها لتضُمك بحنانِ عينيها وتغمُر كلَّ  مَنْ حولِها بمشاعرها الدفاقة التي تكادُ  تسيلُ جداولاً. كبُرنا وعَرَفناها قائدةً للثورة والنضال لتحرير المرأة وتحقيق العدالة والوقوف بجانب الفقراء والمظلومين. عرفناها إبنة النورِ والفلاحْ  سليلة العلمِ والصلاحْ، والدها الشيخ أحمد محمد إبراهيم عمل أستاذاً ومعلماً، كان حمامة مسجدٍ  إماماً وداعياً ، جدَّها لأُمها الناظر محمد أحمد فضل أول  ناظر لمدرسة الخرطوم الأولية، جدَّها لأبيها  الفكي محمد إبراهيم كان يعمل  بالقضاء  فترة المهدية، هوالعالِم وشيخ الحلتين حينما إستقر في القطينة، وهو حفيد الشيخ ساتي سلمان أبودلق الذي ورد ذكره في طبقات ود ضيف الله،وهو خال الشيخ إسماعيل الولي.  جدَّتِها لأبيها غاية السرور بت عبدالله ودحماد البيتي، حماد البيتي هذا كان مُجاوِراً للبيت الحرام  ثم داعياً إلي الله، عاصر  محمد عثمان الميرغني الكبير في كردفان وله قبرٌ يُزَارْ في جنوب كردفان.

ورِثَتْ فاطمة الدعوة والخروج والسعي لخير الناس والصدق وقولُ الحق من هذه الأرومة، فكانت لها دعوتها بطريقَتِها التي أكسبتها حب الناس وتقديرهم .  تماهت فاطمة مع روحية الشعب، فلكل شعبٍ شخصية وروح دوماً تحسها، ولا تراها إلا في الملمات والملاحم والسير الشعبية، هذه الروح هي إجماع الشعب علي قيم فاضلة ومُثُلْ للكمال الإنساني، وحينما تتجسد في شخص يلتف الناس حوله ويتفقوا في محبته وإجلاله وتقديره، هكذا كانت فاطمة، أجمع الناسُ عليها، وحينما نعاها الناعي  زاع خبرُها في الأربع قِبل  أزرق طويل الباع،  وبكتها الخلوق بأغذرِ الدماع، بكاها الشرِق والغرِب  نعاها الجنوب قبل الشمال وأهل اليمين قبل أهل اليسار.

رُبَّ شمسٍ غرُبت والبدرُ عنها يُخبرُ. كان بدرُ فاطمة هي أعمالَها وسيرتَها وإجماع الناس عليها وكان يوم التشييع  يُخبِرُ عنها وعن مكانتِها في قلوبِ أبناء وبنات الشعب السوداني. إنتهي الفصل الأخير من سيرتِها في ميدان الربيع، من حيثُ إبتدأ لنا الفصل الأول من سيرتِها  فكما زفتها جماهير و”خَلِقْ ماليها حد” إلي الشفيع في ميدان الربيع، زفتها كذلك جماهير وخَلِقْ ماليها حد إلي البكري، وكان من حظِنا حضور هذا المشهد العظيم وتشييعها إلي مثواها الأخير من ميدان الربيع.

لخصت سيرة فاطنة إمراة مُسِنَة في القطينة بعبارة بليغة، ،سألها أحد الشباب ” فاطمة أحمد إبراهيم إتوفت بتعرفيها؟ قالت له “كيفن مابعرفا دي كانت بِترَاغِم لنا”.ومُراغَمُ في اللغة تعني الحماية أو الحصن والمخرج أو المهرب. وتعني هذه المرأة  أن فاطمة كانت تدافع عن حقوقهن وتحمي مكتسباتهن، تناضل وتبحث لهن عن مخارج  للإنعتاق من قبو التخلف وأسْر العادات والتقاليد البالية والخروج إلي سَعَة الدنيا والمشاركة في تقدمها.((ومن يخرُج في سبيلِ الله يجد في الأرضِ مُراغَماً كثيراً وسَعةً)).

خيرُ من عبر عن سيرة فاطمة وأسرتها شقيقها صلاح بشاعريته الفذة، وبعض ماقال:

هذه أعمالُنا مرقومةٌ بالنورِ في ظهرِ مطايا        عبرت دنيا لِأُخري تستَبِقْ

نفذ الرملُ علي أعمارِنا  إلا بقايا        تنتهي عُمراً فعمراً وهي ندٌ يحترقْ

ما انحنت قاماتُنا من حِملِ أثقالِ الرزايا   فلنا في حَلكِ الأهوالِ مسري وطُرقْ

نترك الدنيا وفي ذاكرة الدنيا لنا ذكرٌ   وذكري  من فعالٍ وخُلقْ

ولنا إرثٌ من الحكمةِ والحِلْمْ  وحب الآخرين   وولاءٌ حِينَ يكْذِبُ أهليه الأمين

ولنا في خدمةِ الشعبِ عرقْ.

في غدٍ يعرفُ عنا القادمون   أيُّ حبٍ قد حملناه لهم

في غدٍ يحسبُ منهم حاسبون   كم أيادٍ أسلفت منا لهم

في غدٍ يحكون عن أنّاتِنا وعن الألامِ في أبياتنا  وعن الجُرحِ الذي غني لهم

كل جُرحٍ في حنايانا يهون   حين يغدو رايةً تبدو لهم.

جُرحنا دامٍ ونحن الصابرون   حُزننا داوٍ  ونحن الصامتون.

رُب شمسٍ غرُبَت والبدرُ عنها يُخبِرُ

وزهورٌ تتلاشي  وهي في العطرِ تعيش.

نَحنُ أكفأُ  لِما حلْ بنا  بل أكبرُ….   تاجُنا الأبقي وتندكُ العروش.

فلِمَنْ وَليَّ جميلٌ يؤثرُ    ولِمَنْ وَليَّ حديثٌ يُذكرُ.

سلامٌ عليكِ يافاطمة في الخالدين  وسلامٌ عليكِ في زُمرةعباداللهِ الصالحين.  آميين.

 

Print Friendly, PDF & Email

عن laalaa

شاهد أيضاً

حزب المؤتمر السوداني تصريح صحفي

Share this on WhatsAppحزب المؤتمر السوداني تصريح صحفي طالعنا البيان المؤسف الصادر من سكرتارية اللجنة …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.