الجمعة , مارس 29 2024
ardeenfr
أخبار عاجلة
الرئيسية / أخبار لالا اليومية / التهميش الاقتصادي وقضايا الحرب والسلام في غرب السودان – د. صديق الزيلعي

التهميش الاقتصادي وقضايا الحرب والسلام في غرب السودان – د. صديق الزيلعي


صديق الزيلعي كاتب وباحث
تعكس الأزمة السودانية في إقليم دارفور، بصدق، العوامل الاقتصادية والاجتماعية والثقافية التي قادت إلى اندلاع الحروب الأهلية التي تفجرت في عدة مناطق من سودان ما بعد الاستقلال، وما حاق بمناطق السودان المهمشة.

أزمة دارفور في جوهرها أزمة اقتصادية، سياسية، بيئية، إثنية، اجتماعية، ثقافية؛ ولا يمكن تبسيطها بإرجاعها إلى عامل وحيد، مهما عظم شأنه وكبر تأثيره. فالتهميش الاقتصادي، مثلاً، شكّل سبباً أساسياً وعاملاً فعّالاً في تفجير الأزمة، ولكنه، وحده، لا يقدم تفسيراً كاملاً لكل ما حدث، لاسيما أن قضايا ومشاكل دارفور معقدة أصلاً، وتعقّدت أكثر بمرور الزمن وسياسات الحكومات المتعاقبة. لا نعتقد أن أي نظرية، أحادية الجانب، تساعد في تقديم حلول واقعية تعالج جذور أزمة بحجم أزمة دارفور، ولأن للأزمة جوانبها الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية والتاريخية؛ فإن أي محاولة لمعالجتها عن طريق الحل العسكري سيكون مصيرها الفشل التام. وحتى إذا تمّت هزيمة الحركات المسلحة عسكرياً، وبقيت جذور الأزمة، فإنها ستؤدي إلى الانفجار مرات ومرات أخرى.

ووضعاً للمسألة في إطارها العام، قمنا بحصر العوامل المتعددة التي أدت إلى الأزمة، حتى تعطي القارئ الصورة العامة المجملة. وننبه هنا إلى أن تلك العوامل ليست كتلاً صماء تتحرك لوحدها في خط مستقيم ومواز للأخريات، وإنما هي عوامل متداخلة، تؤثر وتتأثر وتتفاعل وتعمق آثار بعضها البعض، وقد نتج بعضها عن عوامل سبقته وأثّرت فيه، وهي بدورها، أثرت في عوامل لاحقة. ونرى ألا يفهم هذا التقسيم إلا في إطار النظرة الكلية الشاملة للأزمة الدارفورية.

في رأينا، أن العوامل/ الأسباب التي أدت إلى تفجر الأزمة في دارفور هي: قضية التهميش الاقتصادي، الصراع حول الأرض، موجات الجفاف والتصحر، سياسات الحكومات المركزية المتعاقبة، العنصرية بكافة أشكالها ومظاهرها، سياسات السودان الخارجية (منذ الاستقلال وحتى الآن)، توافر السلاح الحديث، تشجيع ودعم القبلية، إهمال قضايا المنتج الصغير، تطور الوعي السياسي وفقدان الثقة في أحزاب المركز، حل الإدارة الأهلية وإهمال قرارات مؤتمرات الصلح القبلي، انعدام الديمقراطية (على كل المستويات السياسية)، الحرب الأهلية في الجنوب، الدور السلبي لبعض المتعلمين.

التهميش الاقتصادي

التهميش، ومن دون الإغراق في لجة التعريفات، نقول إنه إبعاد أو عزل أو حرمان أو تخفيض مستحقات أو تجميد وضع منطقة أو مناطق أو مجموعات في داخل قطر ما، ما يجعلها في وضع أسوأ من بقية المناطق أو المجموعات الأخرى. يمكن أن يكون تهميشاً سياسياً، أو جغرافياً، أو إقليمياً، أو اجتماعياً. وله أشكال متعددة، تشمل تهميش إقليم، أو لغة، أو دين، أو ثقافة، أو مجموعة إثنية، أو جماعة أيديولوجية، أو طبقة اجتماعية.

أضحت قوى الهامش، كما تمّ التعارف عليها، إحدى القوى الاجتماعية التي فرضت وجودها السياسي والعسكري في الصراع من أجل التغيير في السودان. وقوى الهامش، هي تطور طبيعي للقوى الإقليمية التي ظهرت بعد ثورة أكتوبر 1964، وأهمّها جبهة نهضة دارفور، واتحاد عام جبال النوبة، ومؤتمر البجا، واتحاد أبناء المسيرية، واتحاد أبناء دنقلا. ولعبت، جميعها، دوراً مقدراً في نشر الوعي الديمقراطي في مناطقها، كما أنها امتداد لتضامن قوى الريف التي ظهرت في الساحة السياسية، بعد انتصار الانتفاضة في 1985، وكانت لها مواقف مشهودة في الدفاع عن قضايا الريف، ووجدت العديد من قوى الهامش سنداً سياسياً وأيديولوجياً في أطروحات جون قرنق حول السودان الجديد.

خلفية تاريخية للتهميش في غرب السودان

بعد استتباب الأمر للجيش الاستعماري الغازي، وعند اكتمال إرساء البنيات الأساسية لجهاز دولته، بدأت الإدارة الاستعمارية في التخطيط لتنفيذ بعض العوامل التي أدت إلى غزو السودان. كما هو موثق، تمّ غزو السودان لأسباب إستراتيجية وأخرى اقتصادية، أهم الأسباب الاقتصادية هو خلق سوق للمنتجات البريطانية، وتوفير المواد الخام التي تحتاجها الصناعة الإنجليزية. في ذلك الحين، كانت صناعة النسيج، في لانكشير، هي إحدى أهمّ الصناعات وذات احتياج مستمر للقطن. أجرت الإدارة الاستعمارية المسوحات الأولية والتجارب، فوقع الاختيار على الجزيرة، لصلاحية وخصوبة تربتها، وتوافر مياه الري الدائم، ولوضعها الطبوغرافي الذي يسهل الري الانسيابي، وقربها من الميناء الوحيد. نزعت أراضي المواطنين بأسعار اسمية زهيدة، وأنشئ خزان سنار، ومدت الخطوط الحديدية، وأرغم المزارع على زراعة القطن. وهكذا، تمّ إلحاق الاقتصاد السوداني بالسوق الرأسمالي العالمي، وأصبح القطن يشكل العمود الفقري للاقتصاد القومي.

أصبحت الجزيرة هي البقرة الحلوب للإدارة الاستعمارية، وهكذا، بذلت كل جهودها لإنجاح زراعة القطن فيها. إنجاح الزراعة وتقليل المصروفات يستدعي تدريب سودانيين لشغل المناصب الدنيا في إدارة المشروع، وإدارة جهاز الدولة. لذلك، قامت الإدارة الاستعمارية وإدارة مشروع الجزيرة، بتوفير الخدمات الاجتماعية بحدها الأدنى، وهو وضع، رغم تدنيه، لم يتوافر لبقية أجزاء السودان. أدى التوسع في السوق العالمي للقطن والمنسوجات، إلى إضافة مشاريع جديدة، في النيل الأبيض، والنيل الأزرق، لإنتاج المزيد من القطن. وهكذا، ازدهر وسط السودان اقتصادياً في إطار تلبيته لاحتياجات السوق الرأسمالي العالمي. ولكن هذه المشاريع المروية الكبيرة، تحتاج إلى أيد عاملة، خاصة في موسم جني القطن. هنا تذكر الاستعمار غرب السودان، وإمكانية توفير الأيدي العاملة الرخيصة منه، خاصة وأن موسم جني القطن لا يتعارض مع حصاد المحاصيل الغذائية في غرب السودان. بذلت الدولة جهوداً لجلب العمالة الرخيصة الموسمية من الغرب إلى مشاريع القطن في وسط السودان، وهكذا ألحق الغرب، جزئياً، بالاقتصاد النقدي. هذه هي بداية الأساس المادي للتهميش الاقتصادي، الذي نتج عنه تفاوت جيواجتماعي كبير.

الملاحظ أن السمة الأساسية لكل خطط وبرامج وإستراتيجيات التنمية الاقتصادية، التي أعدت أو نفذت خلال فترة ما بعد الاستقلال؛ كرّست التهميش الموروث من الدولة الاستعمارية. فالاستعمار كان يعمل من أجل مصالحه فقط، ولكن القوى الاجتماعية التي تربّعت على دست الحكم (منذ الاستقلال وحتى الآن) لم يكن يهمها غير مصالحها الذاتية، ولم تعمل على إزالة الغبن التنموي الواقع على معظم أنحاء السودان. ولعرض تلك البرامج والسياسات نبدأ بتلخيص واقع الاقتصاد السوداني عند نيل الاستقلال، في النقاط المختصرة الآتية:

– إهمال تام للقطاع التقليدي، حيث يعيش 87% من السكان؛ وينتج هذا القطاع 56% من إنتاج البلاد.

– القطن يشكل 64% من قيمة الصادرات، والسلع الاستهلاكية تشكل 63 من الواردات (أما الآلات وأدوات الإنتاج والتنمية؛ فلها قيمة هامشية في الواردات).

– اهتمام طاغٍ بالقطن على حساب كل المنتجات الزراعية والثروات الأخرى؛ فمثلاً الثروة الحيوانية كانت تشكل 3% من الصادرات في 1956.

– لا يوجد أي اهتمام بالتصنيع، حيث كان الإنتاج الصناعي يشكل أقل من 1% من إجمالي الإنتاج الأهلي في 1956.

قررت تلك الفئات التي حكمت السودان بعد الاستقلال، الاستمرار في المنهج الاقتصادي الاستعماري، بالتركيز على القطن، وحصر الاستثمارات في مناطق وسط السودان، التي توافرت فيها البنيات الأساسية، مع إهمال أغلبية القطر. وهكذا، أصبح السودان يعاني من التخلف الاقتصادي، ويتميز اقتصاده بضيق قاعدته، وتمركزه في وسط السودان، ما أدى إلى التفاوت الشنيع على المستويين، الجغرافي والاجتماعي.

تمحورت كل الخطط الاقتصادية، في فترة ما بعد نيل الاستقلال (العشرية، الخمسية، الستية، برنامج سلة غذاء العالم والبرنامج الثلاثي… الخ) حول تركيز معظم المشاريع والاستثمارات الاقتصادية في القطاع المروي (وسط السودان). أما دارفور؛ فقد أهملت تماماً، ولفترات تاريخية طويلة، امتدت لعقود من الزمن، وعندما أقيمت فيها بعض المشاريع، كانت نموذجاً كلاسيكياً للفشل التنموي وقصور التخطيط والتمويل والتنفيذ. وهكذا، شاركت كل الأنظمة (ولا أستثني نظاماً) في عملية تهميش غرب السودان. وللتهميش آثار كثيرة على مواطني الغرب، منها صغر سوق العمل خارج نطاقي الزراعة والرعي التقليديين. وبعيداً عن إطلاق الأحكام المعممة، سنحاول تقديم عرض سريع لدور الحكومات المتعاقبة في تكريس وتعميق التهميش، وشرح ما تمّ خلال كل مرحلة من مراحل ما بعد الاستقلال، حتى نتعرّف على أولويات الفئات الاجتماعية الحاكمة، وما قامت به، ولكي نتدارس إستراتيجية اقتصادية بديلة لصالح المنتجين الحقيقيين.

الحكومة الوطنية الأولى

ناضل شعب السودان حتى حقق استقلاله السياسي في 1956. تفجرت، بعد تحقيق الاستقلال، معركة سياسية حول طريق التطور الذي ستسلكه البلاد. كانت لتلك المعركة السياسية الفكرية، وما نتج عنها من سياسات، آثار بعيدة المدى، لا نزال نعاني حتى اليوم من تبعاتها. فقد رفعت القوى الاجتماعية، التي حكمت بعد نيل الاستقلال، شعار “تحرير لا تعمير”، في مواجهة دعوة القوى النقابية واليسارية المنادية بالتعمير والتحرير في آن واحد، وأنه لا تعارض بينهما. وكان الأفق الاجتماعي للقوى التي ورثت حكم السودان، قاصراً على استكمال الاستقلال السياسي (السودنة، رفع العلم، نشيد وطني، تمثيل دبلوماسي عالمي)، مع الإبقاء على كل الهياكل والبنيات الاقتصادية والاجتماعية التي خلقتها الدولة الاستعمارية. بينما دعت القوى النقابية واليسارية إلى انتهاج تنمية مستقلة، وإنهاء كافة أشكال التبعية للدولة الاستعمارية. ذلك الصراع كان صراعاً حول خطين للتطور الاقتصادي الاجتماعي: أولهما يحصر الاستقلال في الإطار الشكلي، والآخر ينادي بتنمية حقيقية لصالح الأغلبية الساحقة في المركز والأقاليم.

نجح أنصار التيار الأول، الذي لم ير أكثر من تحقيق الاستقلال السياسي الشكلي، في السيطرة على جهاز الدولة الموروث، واستمر في حكم البلاد (مدنياً وعسكرياً) طيلة فترة ما بعد الاستقلال وإلى الآن. استمرار ممثلي هذا التيار في السيطرة على جهاز الدولة، أدى إلى تعميق الهوة الاقتصادية بين أقاليم السودان الجغرافية، وفئاتها الاجتماعية المختلفة. فقادة تلك القوى كانوا أصحاب مشاريع القطن الخصوصية بالنيلين، الأبيض والأزرق، وملاك مشاريع الزراعة الآلية في القضارف، كما كانوا وكلاء للشركات العالمية التي تعمل في الصادر والوارد، وتربعوا على المناصب العليا للخدمة المدنية والقوات النظامية. اهتمام هذه القوى بالعائد الاقتصادي السريع، جعلها تحافظ على غرب السودان كما تركه الاستعمار، مصدراً للعمالة الرخيصة، والمواد الخام للتصدير.

عملت الدولة الوطنية على دعم النشاط الاقتصادي لتلك الفئات، وقد نالت تلك الفئات الرخص التجارية، وتصديقات المشاريع الزراعية والصناعية، والتسهيلات المصرفية المريحة، والوظائف القيادية في الخدمة المدنية والقوات المسلحة. بينما لم تنل الأغلبية الساحقة، في الهامش، وحتى داخل العاصمة، غير الكدح والمعاناة وتدهور أحوالها المعيشية. وخلاصة القول: سلطة تفصل تعسفياً بين التحرير والتعمير، لا نتوقع منها الاهتمام بغرب السودان أو أي إقليم آخر.

الحكومة العسكرية الأولى (1958 – 1964)

أهم ما قامت به الحكومة العسكرية الأولى، في الجانب الاقتصادي، هو وضع الخطة العشرية للتنمية (1960 – 1970)، وأهم أهداف تلك الخطة هي:

– تحويل 800 ألف عامل من القطاع التقليدي (غرب السودان أساساً) إلى القطاع الحديث كعمال زراعيين.

– 70% من استثمارات الخطة في المجال الزراعي وجهت لإنشاء 3 مشاريع في المناطق النيلية (امتداد المناقل، خزان الروصيرص، خزان خشم القربة)، وذلك للاستمرار في زراعة القطن للتصدير.

– التوسع الأفقي الكبير في الزراعة الآلية، وتقديم التسهيلات المالية والإعفاءات الضريبية لمن توزع لهم المشاريع (كبار رجال الخدمة المدنية والعسكرية والتجار ورجالات الإدارة الأهلية).

وهكذا، تمّ التركيز على الزراعة المروية، وأهمل القطاع التقليدي الذي لم ينل غير امتداد خط السكة الحديد إلى نيالا، لتسهيل نقل الماشية للتصدير، وتوفير العمال الزراعيين لمشاريع القطن في وسط السودان.

فترة ما بعد ثورة أكتوبر (1964 – 1969)

تميزت فترة ما بعد ثورة أكتوبر، بالتوسع الأفقي الكبير في الزراعة الآلية، وتوزيع مساحات شاسعة في القضارف والدمازين، وشابت توزيع المشاريع الزراعية تدخلات حزبية سافرة، لمنح الرخص والإعفاءات والتسهيلات للأعوان من أعضاء الأحزاب الحاكمة. وشهدت هذه الفترة دخول البنك الدولي مجال الزراعة الآلية، وتقديم قروض أنشئت بها المؤسسة العامة للزراعة الآلية. فرض البنك الدولي شروطه بتوجيه تمويله للقطاع الخاص (سلفيات للآلات وللنظافة وللتخزين… الخ).

وشهدت الفترة تلك دخول الزراعة الآلية لمنطقة هبيلا (وهي أول منطقة في غرب السودان تدخلها الزراعة الآلية). وكانت لها آثارها الجانبية، حيث انتزعت الأراضي من أصحابها الأصليين، ووزعت لآخرين، وأغلقت المسارات الطبيعية للرعاة، ولم يتم الالتزام بالدورة الزراعية أو الأحزمة الشجرية لحماية التربة، وتمّ تحويل ما حقق من فوائض اقتصادية إلى مناطق أخرى لاستثمارها في العمل التجاري والعقاري، ولم تنل منها المنطقة الأصلية وسكانها أي فوائد.

فترة نظام مايو (1969 – 1985)

بدأت سلطة مايو بإعلان الخطة الخمسية للتنمية الاقتصادية (1970 – 1975) ثم استبدلتها بالخطة الخمسية المعدلة، ثم ألغتها واستبدلها بالخطة الستية، لتلغى هي الأخرى وتستبدل بإستراتيجية جديدة، سميت (إستراتيجية سلة خبز العالم)، وأبلغ ما وصفت به هو ما قاله عالم اقتصاد ألماني: “سلة خبز العالم الفارغة”. هذه التعديلات والتبديلات في الخطط الاقتصادية، تكشف درجة التخبط والتغير الفجائي في الوجهة والاتجاه، حسب مزاج القيادة السياسية. ومن دون الاستفادة من تجربة هبيلا، والدمار الذي نتج عنها، قررت الدولة في الخطة الخمسية المعدلة، توزيع 10 آلاف فدان للزراعة الآلية في جنوب دارفور، كبداية للتوسع في الزراعة الآلية في دارفور.

واصلت سلطة مايو سياسات الأنظمة التي سبقتها في التركيز على المشاريع المروية في وسط السودان، وأساساً على محصول القطن، وقد حدث بعض التنويع لاحقاً، بإدخال محصول السكر في المناطق النيلية نفسها.

شهدت الفترة نفسها توسعاً أفقياً كبيراً في قطاع الزراعة الآلية، حيث منحت ملايين الأفدنة للتجار ورجال الإدارة الأهلية وكبار موظفي الخدمة المدنية والقوات المسلحة والشركات الزراعية الخاصة، وكمثال، منحت سلطة مايو حوالي 2 مليون فدان في القطاع التقليدي لعشرين شركة، خلال أربعة أعوام. ومنح قانون الاستثمار الزراعي لسنة 1980 العديد من الامتيازات والإعفاءات لتلك الفئات التي منحت رخص مشاريع. ومن الغريب أنه تم، تحت بصر وسمع الدولة، استغلال تلك الإعفاءات في النشاط الطفيلي؛ فقد تم استيراد بضائع من الخارج (معفاة من الجمارك حسب إعفاءات القانون) لبيعها في السوق.

إنه لمؤلم حقاً، ويحز عميقاً في القلب، تجاهل توصيات بنيت على دراسات علمية متخصصة من قبل منظمة العمل الدولية التابعة للأمم المتحدة، حول إستراتيجيات التنمية في السودان، ونشرتها في تقرير شهير صدر في 1976. ومن ضمن تلك التوصيات المهمة، الدعوة إلى تطوير القطاع التقليدي (زراعة ورعي حيوان) وأن تطويره لن يكلف تكلفة المشاريع الأخرى نفسها (مشاريع مروية وزراعة آلية مطرية)، وأضافت أن تطوير القطاع التقليدي سيغير حياة أغلبية السكان، ويجذبهم إلى الاقتصاد النقدي، وسيدفع بعجلة الاقتصاد خطوات إلى الأمام. ومن المثير للاهتمام، حقاً، أن التوصيات حذرت من تفجر مشكلة الأرض مستقبلاً في غرب السودان، نتيجة للتوسع في الزراعة التجارية، وازدياد أعداد الثروة الحيوانية، والزيادة الطبيعية في عدد السكان، بالإضافة إلى العوامل البيئية والطبيعية الأخرى. كما ركزت التوصيات على ضرورة الأبحاث والدراسات الخاصة بالقطاع التقليدي، وقضايا استقرار الرحل والبنيات الأساسية والتمويل، واقترحت التوصيات توفير استثمارات كبيرة للقطاع التقليدي، في الفترة ما بين 1985 – 1995، وأن تلك الاستثمارات ستنمي الصادرات السودانية بشكل كبير (صمغ، ماشية، حبوب زيتية… الخ) مما سيفيد الاقتصاد السوداني ككل.

وحتى المشاريع البسيطة التي نفذتها سلطة مايو في غرب السودان، كانت نموذجاً كلاسيكياً لسوء التخطيط والتنفيذ، وكمثال على سوء التخطيط والتنفيذ، مشروع تنمية غرب السافنا، الذي أنشئت بموجبه (هيئة تنمية غرب السافنا) في مارس 1978 بتمويل من البنك الدولي، لتنفيذ مشروعات التنمية المتكاملة، وعند تحليل مكونات الصرف خلال الفترة (1977 – 1984) تمّ اعتماد 27 مليون جنيه، صرف منها 11 مليوناً في مباني الرئاسة والمكاتب والورشة والمخازن وبعض الآليات والسيارات.

ومثال آخر يحمل الادعاءات الكاذبة نفسها للتنمية الريفية المتكاملة، يعطيه مشروع جبل مرة للتنمية، الذي بدأ العمل فيه عام 1979 بمنحة من صندوق التنمية الأوروبي. قدرت التكلفة الكلية للمشروع بحوالي 25 مليون جنيه، وجهت كلها لبناء المحطات الإرشادية وجلب المدخلات والمحاريث والسيارات ومعدات الإرشاد والورش. ونلاحظ استخدام المشاريع “كواجهات” لتصريف بضائع دول السوق الأوروبية المشتركة، والشركات التابعة لها. ويشهد واقع الحال أن تلك المعدات والآليات لم تستغل استغلالاً سليماً لمصلحة المنتج الصغير الدارفوري، ولم تحقق الأهداف المعلنة حول التنمية الريفية المتكاملة، وينطبق عليها المثل Too little too late. وهنا يجب أن نلاحظ أن تنمية الغرب لا تتم بمجرد إنشاء المزيد من المشاريع، وإنما بمشاريع تنموية بتخطيط جيد، وبمعرفة الجهات المستهدفة بتلك المشاريع وإشراكها في التخطيط والتنفيذ والمتابعة وكيفية تحقيق الفائدة المرجوة.

وبوضوح تام، لم يجد القطاع التقليدي، طوال عهد مايو، اهتماماً يذكر، في ما يتعلق بتطوير تكويناته الإنتاجية والخدمية، ويتضح ذلك من ضآلة اعتمادات ومنصرفات التنمية على مشاريع هذا القطاع، حيث بلغت الاعتمادات للمشروعات ذات الصلة بالقطاع التقليدي، والمتمثلة في مشروعات الثروة الحيوانية وتنمية الموارد الطبيعية والخدمات الزراعية ومشروعات الرئاسة، في جملتها، حوالي 220 مليون جنيه سوداني، خلال الفترة من (1977 – 1984)، وهذه تمثل حوالي 22% من جملة الصرف الفعلي لمخصصات القطاع الزراعي في برنامج الاستثمار للفترة المذكورة. ويحدث هذا رغم أن القطاع التقليدي يعول حوالي 60% إلى 70% من سكان البلاد، وينتج حوالي 50% إلى 60% من جملة إنتاج البلاد من المحاصيل الزراعية، ويسهم بحوالي 30% من صادرات البلاد الزراعية، بالإضافة إلى ثرواته الكامنة (ثروات حيوانية وغابية وزراعية بالإضافة إلى التعدد المناخي).

فترة الديمقراطية الثالثة (1986 – 1989)

تميزت الفترة بالصراع السياسي الحاد في المركز للانفراد بالسلطة، وأهملت الأقاليم كلها تماماً، وفي مقدمتها دارفور. ورغم ضغوط نواب دارفور على قيادة حزب الأمة، وعلى الحكومة، للاهتمام بقضايا الإقليم؛ إلا أن نتائج ذلك كانت مخيبة لآمالهم ولآمال أبناء دارفور، وأبرزت حكومة المركز قدرة عالية، لا تحسد عليها، على عدم الجدية وقلة الاهتمام. كما تميزت تلك الفترة بأن الهم التنموي، بالنسبة إلى المواطنين، تراجع إلى المرتبة الثانية بعد انفجار النهب المسلح والصدامات القبلية بشكل عنيف غير مسبوق. وقد أسهمت تلك الاعتداءات في تدمير أجزاء مهمة من البنيات الأساسية، الضعيفة أصلاً، وعطّلت الحياة الاقتصادية العادية.

انعدمت خلال تلك الفترة المجهودات المركزية الهادفة لتطوير دارفور، أو توفير احتياجات المواطنين الأساسية. ومن الجانب الآخر، أصبحت الهموم الأساسية للمواطنين منحصرة في توفير الحد الأدنى من متطلبات المعيشة، وصارت سلع أساسية مثل السكر والجاز الأبيض والجازولين، غالية بما لا يطاق.

فترة حكومة الإنقاذ (1989 حتى الآن)

واصلت حكومة الإنقاذ الإهمال التاريخي للغرب عامة، ودارفور خاصة، ولكنها أضافت أسلوبها الخاص الذي تميزت به عما عداها، ألا وهو الإنجاز من خلال أجهزة الإعلام، وليس في الواقع. فالمشروع الوحيد الذي بدأته في الغرب صاحبه ضجيج إعلامي ضخم، ألا وهو طريق الإنقاذ الغربي. والغريب أن هذا الطريق (ما نفذ منه) تمّ تنفيذه بأموال المواطنين، حيث تمّ بيع سكر الغرب لسنوات، مما حقق أموالاً طائلة لإنشاء الطريق الذي لم ينجز.

وقد أصدرت حكومة الإنقاذ قانون الاستثمار لسنة 1990، وأعطى امتيازات وإعفاءات وتسهيلات لرأس المال المحلي والأجنبي، كما قنن توزيع ملايين الأفدنة دون اعتبار لحقوق واحتياجات السكان المحليين من زراع ورعاة. وكمثال، منحت الحكومة 3.5 مليون فدان في جنوب دارفور للتجار وكبار موظفي الخدمة المدنية وضباط القوات النظامية ورجالات الإدارة الأهلية (تحوي قائمة المشاريع المصدقة حوالي 434 اسماً، معظمهم من الفئات المذكورة). وقد تم ذلك من دون إجراء أي دراسة للآثار السلبية لتجربة مشاريع الزراعة الآلية في منطقة هبيلا بجبال النوبة.

وتميزت فترة الإنقاذ بالتراجع التنموي عن طريق البيع والخصخصة. حيث شهد عهد الإنقاذ انهيار مشروع جبل مرة، بعد أن عصفت به الخصخصة وبيعت المكاتب والمنازل في زالنجي، وبيعت السيارات في دلالات الخرطوم، كما توقفت مدبغة نيالا ومصنع النسيج. وزيادة في التراجع؛ فقد توقفت العيادات البيطرية المتحركة ومشروع تحسين الماشية وتسويق الألبان.

أما أكبر آثار الدمار الذي مارسته الإنقاذ في حق دارفور، أنها حوّلت الإقليم إلى ساحة حرب ساحقة، قضت على الأخضر واليابس، كما أنها استخدمت بعض القبائل لمواجهة قبائل أخرى، فاستغلت ذلك لتصفية عداوات تاريخية ولتدمير القوى البشرية والمادية لتلك القبائل المستهدفة، بل والاستيلاء على أرضها. كما تم إحلال قبائل من خارج السودان في أرض قبائل أخرى. أما الصرف، فوجه أغلبه للعمل العسكري ولتغطية منصرفات الجهاز السياسي والإداري المتضخم، حيث قسم الإقليم إلى عدة أقاليم. وباختصار شديد، ومن دون عرض التفاصيل، أدت سياسات وممارسات حكومة الإنقاذ إلى تقهقر دارفور إلى الوراء بصورة كبيرة.

الخاتمة

بعد هذه القراءة السريعة لقضية التهميش الاقتصادي، نواجه السؤال المنطقي: هل يمكن تجاوز التهميش وبناء وطن تتساوى فيه كل الأقاليم والمناطق والفئات الاجتماعية، وتنال حظوظها العادلة من الثروات القومية وحقوقها الطبيعية في المشاركة في السلطة السياسية واتخاذ القرار؟ نقول وبثقة تامة: نعم يمكن ذلك. ونرى أن الحل يتم على مستويين، أولهما العاجل، وثانيهما الجذري طويل الأمد. العاجل يتمثل في وقف الحرب وإرجاع المشردين إلى مناطقهم الأصلية، وتعويضهم، وإعادة بناء ما دمرته الحرب، وإقامة نظام ديمقراطي مع إعطاء إقليم دارفور أولوية في مشاريع التنمية، أما الحل الجذري طويل الأمد، فهو إقامة ديمقراطية لا تقتصر على الحقوق الشكلية فقط، وإنما تشمل كل الحقوق الأساسية، وتقوم على نظام اقتصادي يكافئ المنتجين والنشاط الإنتاجي، وليس الطفيليين والنشاط غير المنتج الذي يستنزف ثروات المنتجين، نظام ينظر لقضية التنمية بوصفها تستهدف الإنسان في المقام الأول وليس النمو الاقتصادي الذي يكرِّس الفوارق الاجتماعية ويقنن استغلال الإنسان.

 

Print Friendly, PDF & Email

عن laalaa

شاهد أيضاً

حزب المؤتمر السوداني تصريح صحفي

Share this on WhatsAppحزب المؤتمر السوداني تصريح صحفي طالعنا البيان المؤسف الصادر من سكرتارية اللجنة …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.