الأحد , أكتوبر 6 2024
ardeenfr
أخبار عاجلة
الرئيسية / أخبار لالا اليومية / القرنقية بلا قرنق: الحركة الشعبية – شمال في متاهتها

القرنقية بلا قرنق: الحركة الشعبية – شمال في متاهتها


معتصم أقْرَع:

لا أعتقد أن مخاضات الحركة الشعبية الأخيرة عبارة عن خلافات إدارية معزولة وحسب، إذ أن المسألة أعمق من ذلك، فهي تعبير عن أزمات بنيوية في جسد الحركة كان لابد لها من الإنفجار بشكل أو بآخر عاجلاً أم آجلاً.
إنَّ إحالة مقاتلين (ثوريين) للمعاش لهو أمر ملفت للنظر وربما كانت تلك الإحالة إسهام مُتفَرّد من الحركة الشعبية –شمال في أدبيات الثورة والنضال التحرري على مستوي العالم. فـالمحارب من أجل الحرية والعدالة لا يحال للمعاش أبداً؛ فهو ليس موظفاً صغيراً مأجوراً في دولاب دولة بيروقراطية، ولكنه ربما يتنحي طوعاً أو يغيّر من طبيعة مساهمته في مسيرة الثورة بمحض إختياره .أما إذا خان المحارب القضية أو التنظيم فإنه يُفصَل وتُقَدَّم أسباب الفصل للشعب علناً حتى تحافظ الحركة الثورية على مصداقيتها وتبعد عن نفسها شبهة الدكتاتورية والغطرسة وخصي رجالها عبر آليات العطاء والمنع والطرد من الخدمة كأدوات ترويض وتكميم لأفواه تجد صعوبة في الطاعة العمياء وتنفيذ الأوامر العليا من غير نقاش.
رغم أن قرار الإحالة للمعاش قد يكون صادماً إلا أنه ليس مفاجئاً تماماً. فنظرة سريعة لهيكل قيادة الحركة تشير لبنية تراتبية لجيش تقليدي حتى النخاع، يقوده فريق ولواءات ورتب أخرى. هذه التراتبية التقليدية غير معهودة في حركات التحرر المعروفة تاريخياً . فلم نسمع في ماضيها بالفريق مانديلا ولا الفيلد مارشال جيفارا ولا المشير لوممبا ولا العميد كرس هاني . صحيح أن لقب عقيد قد أُستُعْمِلَ في وصف جون قرنق ولكن ذلك كان إشارة لموقعه المهني في الجيش الحكومي قبل إعلان تأسيس الحركة .التراتبية والهرمية التقليدية التي تبنَّتها الحركة لم تكن خياراً تكتيكياً إنحصر في الشق العسكري فقط، فالشق السياس يعاني أيضاً من نفس السلطوية المركزية والتراتبية والتسلسل، حيث لا توجد عقول تصيغ مواقف الحركة وآدابها خارج قلة قليلة معروفة من الأفراد بينما ينحصر دور بقية العضوية والمناصرين من الخارج في المباركة والتأييد والدفاع والترويج لمواقف لم يساهموا في صياغتها أصلاً.
ربما كان لضيق دائرة صنع القرار والفعالية في الحركة جذور تعود لفترة ما بعد نيفاشا وربما قبل ذلك. قابل الشعب السوداني عودة الحركة الشعبية للخرطوم بعد التوقيع على إتفاق نيفاشا في 2005 بترحيب داوٍ وآمال عريضة بأن تملأ الحركة الفراغ الممتد في الساحة السياسية السودانية خارج الحركات الدينية والطائفية بأسمائها وتنظيماتها المختلفة . كانت هناك أعداد مهولة من بنات وأبناء الشمال مستعدة للإنخراط في الحركة الشعبية ومشروعها لبناء سودان جديد، ولكن الحركة لم تفعل شيئاً يذكر لاستيعاب هذه الجموع وتحويلها لكادر سياسي ثوري فاعل، وإنما إكتفت بالإستعانة بهم ككومبارس للتهليل والمباركة خارج دائرة المشاركة السياسية الحقيقية عالية الفعالية . فالملاحظ انه رغم التأييد الواسع الذي حظيت به الحرك في سودان ما بعد نيفاشا إلا أن قيادة وتمثيل الحركة ظلت محصورة بصورة مطلقة في نادي الأولاد القدامى وربما كان ذلك لقفل الطريق على أي منافسة محتملة. وهكذا تم تكريس ثقافة تفضيل أهل (الثقة (على أهل الفعل والإبداع حتى لو كانت إمكانيات أهل الثقة متواضعة وحتى لو ثبت عليهم فساد أو حامت حولهم شبهات. كان في إمكان الحركة أن تضرب مثلاً في الوطنية وتأسيس ثقافة حكم مغايرة بأن تختار لحصتها من الوزارات والمناصب الرفيعة مهنيين مقتدرين ذوو علم ومهمومون بقضايا الشعب حتى لو أتوا من خارج عضويتها ولكن الحركة فضلت أن تواصل في ثقافة المنصب العام كغنيمة أو كمكافأة لشخصيات مرْضِيٍّ عنها من الداخل حتى لو كانت هذه الشخصيات لا قدرة لها على إدارة شئون دولة عصية كالسودان. وهكذا كشفت الحركة عن جذور رهابها الثنائي ضد المثقف الوطني غير المنتمي لها وضد التمدد وسط الجماهير ككتل فاعلة .
كانت الحركة في جوهرها كل الوقت حركة سلطوية مبنية علي مركزية صارمة وحصر القرار في أيادٍ قليلة بناءً على توازنات قبلية. فمثلاً ريك مشار كان وما زال الرجل الثاني في الحركة وفي دولة الجنوب رغم مذابح 1991 التي إرتكبها والتي ربما كانت هي الأكثر دموية في تاريخ السودان ورغم إنضمامه لنظام البشير في تسعينات القرن الماضي . وكذلك فان سيلفا كير ليس أحكم أهل الجنوب ولا أفضلهم علماً ولا أكثرهم وطنية . كير ومشار وغيرهما إعتلوا سدة القيادة لأسباب وتوازنات قبلية؛ وهذا ينطبق على الحركة الشعبية –شمال. فالقلة من الأفراد الذين تقلَّدوا مناصب عليا خارج السند القبلي كانت الحركة في حاجة اليهم لأغراض تكتيكية كتسويق بضاعتها في الشمال والمحيط العربي .
قد يقول قائل إن المركزية والإنغلاق وإنعدام الديمقراطية والشفافية المالية داخل الحركة ضرورات أملتها طبيعة العمل المسلح والتربص والبطش العنيف من قبل الحكومة؛ ولكن الحركة لم تتخذ إجراءات مضادة لتقليل واحتواء الأمراض التي تصاحب هذه الاشكالات؛ بل إنها تبنت وأصرت على سياسات وإجراءات الغرض منها تكريس هيمنة دوائر ضيقة حتى لو على حساب تفاقم الإفرازات السلبية لضرورات لم يكن للحركة خيار في التكيف معها .
إذاً فإنه بغياب جون قرنق وسلطته المعنوية وكاريزميته الطاغية التي مكنته من إحتواء والسيطرة على تناقضات الحركة الشعبية العميقة وتياراتها التقليدية والرجعية، كان لا بد لتناقضات الحركة من أن تنفجر عاجلاً أم آجلاً وأن يظهر الوجه الذي حجبه وجوده الطاغي . ففي ظرف أقل من سنتين من تاريخ إستقلالها تحولت دولة الجنوب لكيلبتوقراطية كانبالية لخصتها الصحفية المقتدرة رشا عوض في خطابها لقادة الحركة الشعبية في الجنوب إثر إنفجار الصراع الدموي بين كير ومشار على أُسس قبلية :
(كل واحد منكم يعلم جيداً أن الخمر التي سيرتشفها في كرنفلات “السلام المزعوم” ممزوجة بدماء الأبرياء! وأن الشواء الذي سيلتهمه معد من لحوم أجسادهم النحيلة والمريضة والحساء الذي سيشربه تم إعداده من سلق الأطفال وأمهاتهم في ماء الجنوب الملوث الذي فشلتم في تنقيته! هنيئاً لكم قرمشة عظام أطفالكم وإحتساء دماء أهلكم وعشيرتكم ونهش لحومهم، وتناولها بالشوكة والسكين لا يهم) .
مخاضات الحركة الشعبية –شمال لا يمكن قراءتها بمعزل عن السجل المأسوي الكئيب للحركة – جنوب في إدارة دولة جنوب السودان، إذ أن مآلات الحركة في الحالتين ما هي إلا تعبير عن ظهور وعلو تيارات كانت دائما موجودة بقوة ولكن الحضور الساطع لقرنق بإمكانياته السياسية والقيادية الجبَّارة فرض على هذه التيارات أن تقبع في الخلفية أو الظل إنتظاراً ليومها تحت الشمس .ولكن هذا لا يعني إعفاء قرنق من بعض المسؤولية لأن هذه التيارات الغاشمة كانت موجودة في الحمض النووي للحركة في فترة حياته ولكنه إكتفى بالسيطرة على هذه التيارات المقلقة وتوجيهها بدلا عن مواجهتها و تصفيتها. كان قرنق بكل أخطاءه قائداً عظيما بل من أعظم القادة في تاريخ السودان؛ ولكنه لم يفعل ما يكفي لضمان نزاهة حركته إذا ما غيبه الموت أو المرض .وقد أصاب قرنق الحركة في مقتل حين غض النظر عن الضرورة الحاسمة لأن تطبق الحركة داخل جسمها الشعارات والمبادئ التي تدعو إليها على مستوي الوطن. فالتبشير بالديمقراطية يظل نعيقاً أجوف إذا لم تطبقه الحركة في عملها اليومي داخل أطرها التنظيمية؛ كما إن الهيمنة التاريخية لنخب إثنية لا يمكن محاربتها ببناء تنظيم سياسي يقوم على توازنات إثنية إستناداً على هرمية قبلية واضحة وضوح الشمس في كل توزيعات المناصب والمكافآت. كان من نتائج هذه الهرمية القبلية الجديدة أن سارع البعض إلى نبش جذور حقيقية أم مُتوَهَّمَة لأجداد وجِدَّات تربطهم جينياً بالأشراف الجدد كما ظلت الديمقراطية في أدبيات الحركة كما هي عند كل الأحزاب السودانية؛ فهي لعنة يتمنى كل تنظيم أن تصيب غيره وينجو هو من جميع تحدياتها ومستحقاتها.
ولكن دفاعاً عن قرنق، ربما كانت المشكلة ليست في فشله في تحصين الحركة ضد الإنحراف، فقد تكون المشكلة في عدم إستعداد عضوية الحركة والحركة السياسية السودانية عموماً لإستيعاب الرؤية القرنقية. ولكن إذا كان الأمر كذلك، فهذا يشكك في حكمة تبنِّي العمل المسلح كخيار ووسيلة مشروعة لبناء مجتمع جديد؛ ذلك إن العمل المسلح محكوم عليه بالفشل مسبقاً في ظل بنية إجتماعية وبنية وعي غير مواتية بصورة حاسمة. فالشعب المسكين المغلوب على أمره لا تتم إستشارته أبداً في قرارات الحرب والسلام والصلح وتوزيع المغانم رغم أن هذا الشعب – ليس في الريف فحسب بل في المدن أيضاً – يتحمل تكلفة هذه الحروب الضروس التي إختارها وفرضها صفوة غير منتخَبة ولا مخولة بينما يحصد الآخرون أرباحها وأمجادها السياسية .
التعامل النقدي مع خط الحركة الشعبية الذي تبنته قياداتها لا ينفي أن الآلاف من الشباب قد إنخرطوا في صفوف الحركة بروح عالية من الوطنية والشجاعة والتجرد وبذلوا التضحيات الجسيمة من أجل أحلام نبيلة في بناء وطن ديمقراطي تتساوي فيه جميع الأعراق والأديان والأقاليم ويخرج بالسودان من كهوف الكهنوت الديني المظلمة إلى رحاب الدولة المدنية العلمانية الديمقراطية الحديثة. إنحراف خط الحركة لا يقلل من بطولة وتضحيات هؤلاء العظام. من واجب الشعب إحترام هذه التضحيات ومن واجب قيادات الحركة أن تصحو من ثباتها لأن الثوري دائماً مهدد بـخطر أن يصير نسخة مطابقة لمن ولما ثار ضده. في السياسة، كما في الحياة عموماً، الثبات مستحيل فإمَّا أن تمضي الحركة إلى الأمام أوتنحدر إلى الخلف . فعلى الحركة الشعبية التقدم للأمام بأن تنفتح ديمقراطياً على عضويتها الوطنية الأمينة ثم تنفتح على كامل الشعب السوداني لا لتقوده فحسب، بل لتمهِّد له ليمسك زمام أمره بنفسه ليرسم مستقبله بنفسه.

معتصم أقْرَع
خبير إقتصادي 

 

 

 

Print Friendly, PDF & Email

عن laalaa

شاهد أيضاً

حزب المؤتمر السوداني تصريح صحفي

Share this on WhatsAppحزب المؤتمر السوداني تصريح صحفي طالعنا البيان المؤسف الصادر من سكرتارية اللجنة …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.